الثلاثاء، 16 فبراير 2010

الفيضانات من جديد! هل ستظل المأساة تكرر نفسها؟


 الفيضانات من جديد!
هل ستظل المأساة تكرر نفسها؟
مصطفى لمودن   
 
فيضانات نهر بهت في سيدي سليمان 3 فبراير 2009
ها هي من جديد تقع الفيضانات، وهاهو مشهد بحر من الماء المتدفق يغطي سهولا منبسطة على حد البصر، وهاهم سكان القرى من جديد يولولون ويندبون حظهم العاثر على ضياع زرع وضرع، وفقدان أثاث منزلي، وتهدم مساكن من تراب… إن من سمع صيحات مهددين بالغرق على أمواج الإذاعة الوطنية في نشرة زوال يوم الخميس 14 يناير 2010 يندهش للأمر؛ فكيف لبضعة عشرات من المليمترات المتساقطة هنا وهناك تحدث كل هذه الخسائر وتسبب كل هذه الفواجع؟ الآن ـ لحظة كتابة هذه الأسطر ـ أصبح مؤكدا أن المياه غمرت قرى وأراض شاسعة تمتد من الحوافات على مشارف سيدي قاسم إلى سيدي علال التازي على مقربة من القنيطرة، المياه تتدفق بقوة وسرعة كما أتيح لي رؤيتها من حد فاصل بين منطقة الفيضانات والجانب المحادي لها الغارق بدوره في الوحل، مساء اليوم الجمعة 15 يناير، وهي تجر (المياه) كل ما تجده في طريقها..
ارتوت الأرض واستكفت خلال أسبوع ممطر، ووصلت سيول المرتفعات الهادرة من حدود تازة وإفران والشاون ووزان والخميسات… دون أن نغفل كل بقية المناطق الشاسعة من أقاليم مكناس وفاس وسيدي قاسم..، كلها تصب في روافد نهر سبو، وتلتقي في "الثقب الأسود" المعروف ب"المكرن" حيث تلتقي وتقترن كل الأنهار صغيرها وكبيرها، لعل أهمها سبو نفسه وورغة وبهت…فتتحول المنطقة السهلية المنبسطة برمتها إلى بحر كبير من المياه التي تتزاحم وتتدافع في اتجاه البحر عبر معبر ضيق يقود إلى المحيط الأطلسي على جانب القنيطرة والمهدية..
فأين التدبير البشري اللازم لاستخدام العقل للتقليل من آفات الطبيعة حينما تقسو؟ كما علم الجميع فالسدود المعول عليها أصبحت "محايدة" بدون "شغل"، كل قطرة ماء تعبرها متجاوزة الجدار القوي الذي كان يعتقد واضعوه أنه هو الواقي المعول عليه، فأقدم سد بالمغرب "القنصرة" (1932)على بهت بسرعة أصبح ممتلئ، رغم كل التفريغات التي حدثت منذ التساقطات الأولى تفاديا لكل أسوأ كما وقع السنة المنصرمة 2009، أما أن أكبر سد بالمغرب وثاني أكبر سد بإفريقيا، "الوحدة" على ورغة فبدوره استسلم وتجاوزته المياه، ونفس الشيء بالنسبة لسد "إدريس الأول" على سبو…فماذا بقي إذن؟
  لم يبق غير إجراءات الطوارئ غير المصرح بها طبعا، وكما حدث السنة الفارطة فقد نزلت إلى الميدان القوة العمومية المغربية، ولولاها لكانت الكارثة أضخم في فبراير 2009، فرغم الخسائر المادية التي وقعت لم يتم الحديث عن خسائر في الأرواح، لقد كنا شهودا على المجهودات الضخمة التي قام بها الجيش الملكي في ذلك، بالإضافة إلى قوات أخرى كالوقاية المدنية رغم ضعف تجهيزاتها حسب ما يبدو.
هذه الأيام ـ من جديد ـ تجوب بعض هذه السواعد المنقذة المنطقة، وعلمنا أن السلطات قد هيأت ملاجئ سبق استعمالها السنة الفارطة كمعمل تلفيف الحوامض بسيدي سليمان، لكن إلى متى سيظل نفس المشهد يتجدد؟   
لعل مستمعي الإذاعة الوطنية قد التقطوا احتجاج أحد المواطنين أثناء بث النشرة الإخبارية المشار إليها أعلاه، كما يمكن مشاهدة عشرات الأمثلة المشابهة أو القراءة عنها في الصحف؛ فالمواطن كان يصيح بكل ما تبقى لديه من قوة ضد المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي بالغرب الذي لم يفتح ممرات تفريغ الماء، ولم يعمقها وقد تخلى عن مهامه منذ سنوات. 
خيام من البلاستيك لمنكوبي فيضانات فبراير 2009 بالبوادي
إنها جهة واحدة من أطراف عديدة تتحمل مسؤولية إهمال منطقة الغرب، فوزارة التجهيز لم تفرغ قعر السدود من الأوحال لتمتلئ حقينتها فعلا بالماء عوض الطين والأحجار القادمة في كل فصل شتاء من المرتفعات المجاورة، بل لم تهيئ محيط السدود لتحمي الحوض المائي من الأوحال عبر تشييد حواجز ومدرجات حجرية، ولم تنفذ حتى أبسط حل طبيعي وهو غرس الأشجار… ونتيجة ذلك السدود تمتلئ بسرعة عن آخرها.
إذا كانت السدود القائمة قد استوفت مهمتها، لماذا لا تبنى أخرى؟ كما هو عليه الحال بالنسبة لنهر أم الربيع الذي عليه خمس سدود  ( أو أكثر)، إن الفزع الذي يحل بالمواطنين الآمنين والخسائر التي تصيب الممتلكات ليست أهون من كل نفقات مطلوبة للوقاية من أخطار الفيضانات.  
نموذج للخراب الذي حل بمنازل العالم القروي في فبراير 2009
وللذكرى، فقد كان فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بسيدي سليمان في قلب الأحداث أثناء فيضانات السنة المنصرمة، ابتداء من اليوم الثالث من فبراير كان أعضاء الفرع يقومون بدورهم المطلوب، وهو متابعة ورصد الوقائع وتسجيلها واتخاذ ما يلزم تجاه كل حالة، بل لم يكتف أعضاء الجمعية الحقوقية بالجلوس وانتظار التوصل بالشكايات وطلبات المآزرة، بل خرجوا إلى عين المكان سواء في الأحياء المتضررة بالمدينة أو في دواوير العالم القروي عبر قوافل استطلاع منظمة، لقد وقف الأعضاء على مآس حقيقية، كل ذلك موثق بتفاصيله، وأحيانا مصحوبا بالصور، ونتيجة لذلك عقد مكتب الفرع لقاءات متعددة مع المسؤولين المحليين في شأن عدة قضايا، كما نظم المكتب لقاء خاصا  بقاعة عمومية في19  أبريل 2009 (اضغطقدم فيه حصيلة تحركاته وتحدث متضررون عن أوضاعهم المأساوية، بالإضافة إلى ذلك تمت مراسلة كل المسؤولين المعنيين بالموضوع (بدون استثناء) وعلى رأسهم الوزير الأول، ولمرتين، وقد طالبه فرع الجمعية المغربية بالتدخل العاجل من أجل الحلولة دون تكرار مآسي الفيضانات، بل توصل بمقترحات عملية من أجل ذلك. للأسف لا يكفي أن نقول أن الفرع لم يتوصل بأي جواب (باستثناء واحد من مندوبية وزارة السكنى والتعمير والتنمية المجالية بالقنيطرة) ، بل أن يكون الإهمال هو سيد الموقف، كأن سكان منطقة الغرب من قارة أخرى، ما يهم الجميع طبعا هو الفعل في الميدان والاستجابة لمضمون الرسائل، والجميع يعلم ما وقع في أرض الواقع، لقد حلت الفيضانات من جديد، ولم يتم تهيئ أي شيء، الأمر يحتاج إلى  وقفة حازمة ضد هذا النسيان…
لكن، وبما أن مآسي السنة المنصرمة ما تزال في الأذهان، فقد تحركت الجرافات في آخر لحظة والمطر ينزل لوضع حواجز ترابية على جوانب نهر بهت!! فأين كان هؤلاء طول السنة؟ هل كانوا يراهنون على سنة بدون مطر؟  
لن ننسى تجميع المنكوبين في الملاجئ كيفما اتفق، سنظل نتذكر كل من تهدمت منازلهم وضاعت ممتلكاتهم وجلسوا مفترشين الوحل، نملك عشرات الصور التي تؤكد ذلك، لن ننسى الأمهات وهن يحضن فلذات أكبادهن في العراء، لن ننسى مسؤولا اختزن الأغطية ووضع عليها حراسا والمنكوبون يتضورون من البرد، لن ننسى من بقي يسكن رفقة عائلته أو بمشاركة عائلة أخرى خياما بلاستيكية لشهور، ولكن في نفس الوقت نقدر حجم الكارثة وشساعة المنطقة المنكوبة وحجم التضحيات التي قدمت هنا وهناك من قبل عدة جهات بمن فيهم مواطنون محسنون ومتطوعون، السلطات اختصرت من عدد المنكوبين ما استطاعت واعترفت بأزيد من 2500 أسرة متضررة، منها 209 بالعالم الحضري، توصل أغلب من في المدينة ببقعة أرضية صغيرة ومنحة قيمتها 3 ملايين سنتيم، ونصف هذه المنحة فقط لمن في البوادي، لكن المتضررين أكثر من ذلك، حسب معاينة المشاركين في قافلة تضامنية مع المنكوبين نظمها الفرع الجهوي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان إلى المنطقة في 22 أبريل 2009  (اضغط)       
تتحدث الأرصاد الجوية في آخر تنبؤاتها عن توقف المطر بشكل مؤقت، وذلك بمثابة فسحة للاستعداد لما قد يأتي في الأيام القادمة من أمطار، ونحن ما نزال في منتصف يناير، يفصلنا أزيد من نصف شهر عن توقيت فيضانات 2009 ، فهل يكفي ذلك لأخذ كل الاحتياطات لتجنب مخاطر الفيضانات؟
من جديد امتلأت الراوفد المائية لحوض سبو، وغمرت المياه مناطق شاسعة (15/01/2010)