‏إظهار الرسائل ذات التسميات ثقافة وفن. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ثقافة وفن. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 14 سبتمبر 2014

عربون وفاء، أربعينية الفقيد عبد الرحيم مؤدن

عربون وفاء
أربعينية الفقيد عبد الرحيم مؤدن
إعداد مصطفى لمودن

غاصت قاعة بلدية القنيطرة بالحضور في حفل تأبين الفقيد عبد الرحيم مؤدن مساء السبت 13 شتنبر 2014، حضر أعضاء العائلة، عائلة الدم والقرابة، وعائلة القلم والمداد، ورفاق الطفولة والشباب، وزملاء العمل والبحث العلمي.. تناوب الكثيرون على الصدح بما يكنونه للفقيد من محبة، وهم يستعرضون ذكرياتهم مع الفقيد، أو يقترحون المبادرات ليبقى اسم عبد الرحيم مؤدن يرن دائما في مسامعنا، فأغلب المتدخلين اقترحوا اطلاق اسم الفقيد على معالم في مدينة القنيطرة أو غيرها، وقد حضرت هذه المدينة في بعض التدخلات، لأن القنيطرة كانت المكان الأثير عند الفقيد، ففيها ازداد وفيها بلغ أشده، لهذا ظل دائما ينادي بالاعتناء بها، ولعل من آخر ما كتب في الصحف، دعوته لتفادي "ترييف" القنيطرة كما قال صديقه القاص والروائي إدريس الصغير وكذلك رئيس فرع اتحاد كتاب المغرب فرع القنيطرة المصطفى كليتي.. لكن، أهم ما لفت الانتباه الوعود التي ذكرت، فهذا حسن الوزاني رئيس مديرية الكتاب بوزراة الثقافة، قال إن الوزراة ستصدر المجموعة الكاملة لكل ما تركه الفقيد مكتوبا.. وقال المصطفى كليتي إن فرع اتحاد كتاب المغرب سينظم يوما دراسيا حول فكر وكتابات الفقيد.. وقد نوه عبد الرحيم العلام رئيس اتحاد كتاب المغرب بمبادرة وزارة الثقافة، وأخبر بقرب تخصيص أيام ثقافية للفقيد بالفقيه بنصالح.. وضمن من تحدثوا كذلك أمين مؤدن ابن الفقيد نيابة عن كل أفراد الأسرة، واعتبر في كلمته أن مواساة الفقيد أثناء مرضه كان يخفف عليه كثيرا، ونوه بأشكال الدعم المعنوي التي تلقتها أسرته..
 قدم للحفل التأبيني الشاعر والإعلامي ياسين عدنان بلباقة ولطافة معهودة فيه.. وقد أصر عدد من الحضور على تقديم تذكارات رمزية للأسرة، كعربون محبة وتقدير للفقيد ولما أسداه من خدمة للتربية التعليم والثقافة.. ولعل من أبرز تلك الهدايا صورة جماعية للفقيد رفقة أقرانه لاعبي كرة القدم ضمن فريق محلي، وقد حضر شخصيا أغلب من في تلك الصورة التاريخية (انظر الصورة)، كما قدمت "جمعية النجم الأحمر" من بلقصيري لوحة يغلب عليها لون الذهب، مطرزة بمقالات للفقيد، وقدمت جمعية ثقافية من اخنيفرة باقة مجماميع قصصية لتلاميذ كان الفقيد يساهم في تأطيرهم خلال مشاركته في أنشطة ثقافية بنفس المدينة..
كل ذلك الحضور الذي واكب الحفل التأبيني، يعبر عن مدى أواصر الارتباط بالفقيد، سواء كشخص، أو كإبداع سيظل صداه يتردد كثيرا.. بحيث وصف مسير الحفل زخم الحضور بقوله إن الكاتب المغربي مازال يجد الاحتضان من المجتمع، وهي كلمة جد معبرة..
وتجدر الإشارة إلى أن الفقيد عبد الرحيم مؤدن توفي يوم الأحد 27 يوليوز 2014 بالديار الهولندية بعد مرض لم ينفع معه علاج، عن عمر يناهز 66 سنة، وهو من مواليد القنيطرة، تابع دراسته العليا بفاس، وعمل في مجال التعليم بكل من مكناس وسلا والقنيطرة، إلى أن عين بجامعة ابن طفيل لتدريس الأدب العربي.. له بحوث جامعية حول أدب الرحلة، وكتَبَ النقد في مجال القصة، وله معجم يتطرق للقصة في المغرب، وترك مجاميع قصصية للكبار وللصغار وكتابات مسرحية.. وقد نشر له آخر كتاب بعد وفاته..

 (الصور من حفل التأبين، أغلبها بعدسة الصديق حميد الشكراني) 



  
 


الاثنين، 1 سبتمبر 2014

"ذاتَ... حُلمين" ، قراءة في كتاب " ضحك كالبكاء" لمؤلفته الدكتورة " مريم لحلو "/ بقلم: جمال الدين حريفي

         "ذاتَ... حُلمين" ، قراءة في كتاب " ضحك كالبكاء"
                                لمؤلفته الدكتورة
" مريم لحلو "(*)
 


              بقلم:
جمال الدين حريفي

        1ـ 
ذاتَ... حُلمين:
حلم أدبي جميل، رأيت فيه سمكة المعنى تنساب برشاقة في ماء الكتابة، تصل إلى منتهى الأخذ بالأنفاس ثم تعود إلى قطرة البداية من جديد، وكأنها تقدم لوحات ساحرة لتفتن الأنظار. وسمعت مع كل ذهاب وإياب للجمل والعبارات موسيقى رقيقة تجلو الهم وترهف الإحساس.
رأيت وسمعت وأنا أتأمل اللوحات الساخرة للأديبة  مريم لحلو ما يراه المستغرق في أحلام اليقظة.
رأيت المعنى ينساب كسمكة في ماء الكتابة، وسمعت إيقاعا للكلمات أشبه ما يكون بإيقاع معزوفة ألفها مبدع متمكن من أدوات الصنعة وفنونها.
ثم في حلمٍ ثان، رأيتني أضحك ملء حواسي كلها وملء مسام جلدي، أضحك ملء صدري وحرقة كبدي على نماذج من السلوك البشري ابتلي بها مجتمعنا، فصارت تنخر بنيانه وأسسه كالسوس وتهدد البناء بالسقوط في أي لحظة.. (وليس يقوم بنيان عشش السوس في أركانه وحيطانه). وما أكاد أنتهي من الضحك على فصل من فصول مهازلنا الاجتماعية حتى تهزني موجة بكاء صامتة.. فأستغرب لأمري، كيف أضحك بصخب وأبكي في صمت، ولا يفعل ذلك إلا من كان مصابه قويا شديد الوقع والأثر.
ذاتَ... حلمين إذن.
حلم أدبي وحلم اجتماعي، وجدتني ممسكا بين يدي كتاب " ضحك كالبكاء" لمؤلفته الدكتورة والأديبة المتألقة " مريم لحلو ".
فالحلمان كانا واقعيين.
كنت أحلم وأنا أقرأ اللوحات الساخرة التي نجحت الكاتبة في رسمها أيما نجاح، أن أقرأ أدبا جميلا وأن أتوغل بعيدا في شعاب الأعطاب الاجتماعية، وكذلك كان.
لقد استطاعت الكاتبة أن تجعل من نقد المجتمع موضوعا يستحق الكتابة، كما استطاعت أن تجعل من كتابتها عن المجتمع أدبا يستحق القراءة، فجمعت بين الأدب والمجتمع، وبين الكاتب ومسؤوليته الاجتماعية جمعا يستحق التنويه والإشادة.
وما كان لي ولن يكون لأي قارئ أن يستمتع بهذين الحلمين إلا لأنهما كانا في الأصل حلمين للكاتبة نفسها.
حلمت الكاتبة " حلم اليقين" بأن تبدع نصوصا مكتملة البناء تامة التناسق قوية التأثير، وقد كان لها ذلك.
وحلمت بأن تناضل بقلمها للكشف عن عيوب المجتمع وأمراضه، ولفضح الأنذال الذين حَوَّلوا كل إشراقة أمل إلى عتمة، وكل بقعة ضوء إلى ظلمة، وقد كان لها ذلك أيضا.
فأحسنت الصنعة الأدبية، وأتقنت النقد الاجتماعي، وجمعت بين الحسنيين، مؤكدة  أن الأدب ليس ترفا نتسلى به أوقات الفراغ، وإنما هو وسيلة ناجعة وأداة فعالة للارتقاء بالوعي والذوق وبناء الوجدان وإصلاح الأعطاب دون أن يسقط في لغة البيانات السياسية أو الخطب المنبرية أو مواعظ  النصيحة، وذلك هو الرهان الصعب الذي ربحته الكاتبة فحافظت على أدبية السرد وأوغلت في تضاريس النقد، وأمتعت واستمتعت، جازاها الله خيرا.
  2ـ  إحدى عشر لوحة / تسعة نماذج بشرية:

تفتح الكاتبة باب معرضها العجيب في وجه الزوار لكي يتأملوا إحدى عشر لوحة من النقد الاجتماعي الساخر، " بل وبالتحديد تسع لوحات ساخرة ووصفتين، واحدة للنجاح المستحيل(1) وأخرى للشهرة الزائفة(2)." (وقد نعتمد تصنيفا غير هذا في حينه)
فالكاتبة ترسم بمهارة الفنان المتمكن على قماشة الورق وبحبر من الألوان الشفيفة الدقيقة الحادة، مسارات تسعة نماذج بشرية أصبحت اليوم ظواهر/ مرضية اجتماعية مكتملة المعالم والخطوط، وصارت لها أعراض قابلة للتشخيص وتداعيات غير قابلة للحصر، بل صارت مستعصية على إي علاج " إلا البتر " بعد أن  كانت ذات وقت "شريف" مجرد حالات طارئة على جسد المجتمع يشار إليها بإصبع الإدانة والاتهام، وتُدفع دفعا إلى حافة الطريق مفسحة المجال للشرفاء والطيبين من الناس.
نماذج كانت تتستر على  بلاويها حتى لا تنكشف فضائحها ولا تفوح روائحها فتزكم الأنوف، فصارت اليوم تمشي بين الناس مزهوة بنفسها لا تنقصها غير الزغاريد ومواكب الزفة لكي تتربع على "عمارية" القذارة البشرية في عرس الأبالسة والشياطين.
هي تسعة نماذج بشرية؛ تسع ظواهر اجتماعية/ مرضية.
 وهم تسعة رهط يفسدون في أرض الله ولا يصلحون، ثم وصفتان بديلتان لآخر وجبة في مأدبة الفساد المستشري في المجتمع، تسعة في اثنين، لأنه ليس لهذه الظاهرة في الأخير غير اسمين:
  " النذالة " و " الفساد".
الفساد في زمن انحسار الفضيلة وانهيار القيم والأخلاق. والنذالة في الزمن الرديء الذي بلا كرامة ولا شرف؛ لأن النذالة في هذا الزمن الوغد تضاعف أرقام الفساد.
تسعة رهط تقبض عليهم الكاتبة / المتحرية متلبسين بالجرم الاجتماعي المشهود، لتعرضهم على محكمة الدين والقانون والضمير والأخلاق والإنسانية... وكل ما.. وكل من يمكنه أن يصدر حكما نزيها في حقهم، بعد أن أصبحت موالاة الباطل أولى عند البعض من موالاة الحق.
وجبةُ فساد كاملة، مع المقادير اللازمة لإعدادها وطريقة الاستعمال، والمقابل مجتمع بلا أمل ولا أحلام، مجتمع بارد الهمة، مشلول الإرادة.
تسعة رهط من المفسدين:
ـ البرلماني ـ المفتش ـ الإداري ـ المدرس ـ الطبيب ـ الشرطي ـ الفاكانسي ـ الكوايري ـ القاضي.
 ثم موظف لا يوجد إلا في المدن الفاضلة، وطريق سيار للشهرة الخادعة.
 وهؤلاء التسعة لا تقصدهم الكاتبة لوظيفتهم أو مهنتهم أو مسؤولياتهم أو المؤسسات التي ينتمون إليها.. بل تقصدهم لذاتهم، وتحلل مضمرات سلوكهم وتجهر بنواياهم وخفاياهم وخبيئة أنفسهم حتى لا يخدعوا الطيبين من الناس والسذج الغافلين من موتى العصر.
هي لا تقصد مؤسسة التشريع ولا مؤسسة القضاء ولا الأمن ولا التربية ولا الإدارة، فلا بد لكل مجتمع حديث من مؤسسات، والدولة لا تكون حديثة ولا ديموقراطية إلا بمؤسساتها، فهي التي تنظم الحقوق والواجبات بين المواطنين والمسؤولين القائمين على خدمتهم " لأنه يفترض في المجتمعات الحديثة أن تكون المؤسسات في خدمة المواطنين".
الكاتبة لا تقصد إدانة المؤسسة بما هي مؤسسة، وإنما تقصد الكشف عن الوجه القبيح لأولئك الذين يلطخون وجهها بقذارتهم النفسية وأوساخهم الاجتماعية.
والكاتبة أيضا حين ترسم أحلام البرلماني والمفتش والمدرس والشرطي والقاضي، فهي لا تقصد المفتشين والبرلمانيين والمدرسين إجمالا، وإنما تقصد برلمانيا بعينه وإداريا بعينه ومدرسا وقاضيا وشرطيا بعينه.
إنها تقصد أولئك الأنذال الذين جعلوا الأشراف في هذه المهن يخجلون من الانتساب إليها.
   3ـ الإهداء النداء / الصرخة(3) :

 وليس عبثا أن الإهداء في مقدمة الكتاب جاء كالتالي: "إلى شرفاء هذه الأمة"؛ فالكاتبة تخاطب الشرفاء وتدعوهم لكي يرفعوا رؤوسهم، فالذنب ليس ذنبهم في انهيار القيم والأخلاق، وإنما هو ذنب وجريمة الأنذال الذين لا قيم لهم ولا أخلاق... وهؤلاء يجب أن لا نخجل من إدانتهم كلما كان ذلك ممكنا.
كأن الكاتبة تقول لمن لا يزال قادرا على الإنصات إليها منَ " الأولئك ": " أنتم أيها الأنذال، يا مرضى النفوس وذوي العاهات، أنتم من أفسد الحياة وأفسد المؤسسات وأفسد المجتمع. وإذا كنّا الآن نضحك من تفاهتكم وسخفكم، فإننا نبكي في المقابل على ما صرنا إليه من أحوال... فقد كنا مغفلين حقا حين صدقناكم، كنا نعتقد أن البرلماني يدافع على مصالح الأمة والشرطي على أمنها والمدرس على تربية أبنائها والقاضي على إقامة العدل بين أهلها  والكوايري يمتعنا وقت الراحة بعد شوطين من العمل بفن المراوغة الرفيع، فإذا بكم تسعة رهط متحابين متآزرين في الفساد وعلى الإفساد، فكيف لا نبكي على حالنا مما فعلتم بنا وبمجتمعنا وبمؤسساتنا، وقد ردمتم ما بناه الشرفاء طوبة طوبة بالعرق والدم والكلمة "؟
هذا ما يعنيه الإهداء /النداء/ الصرخة / الكلمة:
"إلى شرفاء هذه الأمة".
إهداء نداء / وإهداء استغاثة، لتدارك هذا الانهيار وهذا الانحدار الذي يستحق منَ البكاءِ أكثر مما يستحق من الضحك، إن كان فعلا ما يزال من بين أبناء هذه الأمة من هو قادر على الضحك على مهازلها التي أصبحت مآسي يشيب لها الولدان. إنه ضحك كالبكاء، ضحك أَمَرُّ من البكاء على صور من صلب الواقع المغربي.

 4 ـ 
نقد شركة الفساد:

والكتاب " ضحك كالبكاء "(1*) ليس كتابا في النقد الاجتماعي الساخر فحسب، بل هو أيضا كتاب في النقد السياسي... إنه لوحات ساخرة في النقد الاجتماعي والسياسي القاسي واللاذع والساحر؛ فداخل قفازات من حرير وبلغة جزلة سلسة قوية التأثير، يرسمُ الوجه الاجتماعي لإفلاس القيم ويستغورُ البواطن والمضمرات، ويحدد المسارات التي جعلت أصنافا ونماذج وفئات من الناس تهدد الأمن الشامل للأمة، أي الأمن التشريعي والإداري والصحي والتعليمي والقضائي، من أجل الجنس والمال والسلطة والشهرة. وأيا كانت الوسيلة، فلا شيء يمكنه أن يردع هذه الحثالة من الناس عن الوصول إلى أهدافها وإشباع جوعها المرضي للبروز والتفوق، ولا شيء أيضا يمكنه أن يفك خيوط أحابيلها وشباكها وكمائنها والخطط التي تحبكها وتحوكها من أجل إرضاء غرورها وأنانيتها، هي التي لا تقنع بغير إذلال الآخرين واستغلالهم. لأنها تعيش من أجل ذلك فقط.      
ولا شك  بأن لشركة الفساد هاته، والمُحَفَّظة باسم الأنذال، فروعا وامتدادات وأصولا وشجرة أنساب في غير ما جاء ذكره من القطاعات والمؤسسات عامة كانت أو خاصة.
5 ـ  المفسدون في الأرض:

اختارت الكاتبة نماذجها بعناية فائقة، "وإلا فالمجال كان عندها متسعا لتختار عينات أخرى". وجعلت السارد يلبس جلدها ويتقمص أطماعها التي سمتها أحلاما " وهي أحلام مخيفة مرعبة " بالنسبة للأسوياء.هي أحلام وأطماع المفسدين. تسعة أحلام. تسعة كوابيس لتسع حالات بل لتسع آلات للفتك والدمار.
1) برلماني(4) يصعد رويدا رويدا من جحر الفاقة والشظف، ويحفر كالجرذ طريقه في المجاري والميازيب وليس في ذهنه غير الكرسي الذي تحت تلك القبة ومكتب تتهادى فيه حوله الحسناوات ويحطنه بعناية اللحم البض والشعر الأشقر المنساب. برلماني في الحزب العتيد يستميت في النضال من أجل استغفال الحزب والشعب وكل همه دوام المقام تحت قبة البرلمان .
2) مفتش(5) مدلس ينظر إلى التلاميذ بريبة زائدة، ويتصيد أخطاء المدرسة ولا يتعفف ـ وهو المسن المتزوج  ـ عن التحرش في سره بالطرف الكحيل والخد الأسيل والخصر النحيل.
3) إداري(6) يستغل سلطته الاعتبارية وإن كانت زهيدة القيمة في تشمم أخبار الأستاذات والاحتكاك بأكتاف وأرداف التلميذات أو استدراجهن إلى فخ كبته اللعين وتربيته المشكوك في نظافتها.
4) مدرس(7) يقترح وصفات  للربح السريع ويفكر في وضع التصانيف والتآليف في البيداغوجيات الحديثة من أجل أن يعلم المريدين والأتباع كيف يصبح الواحد مليونيرا في أسبوع.
5) طبيب(8) يعرف الفرق الساطع بين القطاع العام والخاص فيوفي كُلاّ حقه. فقد تعلم حكمة إفراغ جيوب المسنين وجلاليب المسنات من "الكماميس" و"الكموسات"، وأتقن وصف الدواء " الستندار " لكل الأمراض ومتابعة مستجدات تخصصه في لعبة الرامي... طبيب قادر على أن يحول المتلاشيات البشرية التي غلبها الزمن وغدرت بها الأيام إلى سماد لتربة ضيعته وعلف لعجولها...  حين ستصير له ضيعة وعجول يقضي بينها الوقت الفائض عن حاجة المرضى الذين لا يستحقون اهتمامه.
6) شرطي (9) يزهو بالبزة الرسمية ونجيماتها، ويحترف دمغ رؤوس الطلبة وتصيد هفوات الطرق ومخالفات السير، شرطي أخطبوط لا توقفه عن الشطط حقوق إنسان أو بلاغة لسان، و ليس معنيا بعهد جديد أو مصالحة مع العبيد..
7)  فاكانسي(10) يعود بروميته ورخصة إقامته في المهجر ليحرق قلوب العذارى والفتيان وهو يبعثر المال ذات اليمين والشمال لينتقم من أيام الذل والمهانة وزيف التطلعات و كذب الأحلام.
8) قاض(11) يحسن أكل الأكتاف، ودق العظم، وقرع الكؤوس، وتكسير الرؤوس، والحكم بما شاء على من شاء بلا دفاع ولا مرافعة.
9) كوايري(12) لم يعد فقط حلم المراهقين ومالك قلوب العذارى، بل صار يدير رؤوس الحكومات والدول. كوايري ليس له من فن اللعب والمراوغة غير اللعب بالشّعَر والأساور والدمالج كعارضات الأزياء والحلي. فقدْ فقدَ المسكينُ القدرة على اللعب بالأقدام. وضل الطريق إلى مرمى الحلم.
10) موظف(13) لا مكان له إلا في المدينة الفاضلة.
11)  طريق سيار(14) بالجنس والعري والهمز في الدين تلك وصفة الشهرة السهلة المنال والمحاطة بعناية أهل الضفاف الأخرى، إذا ناداهم نداء الواجب حي على تحطيم أصنام القيم وعبادة إله الجنس والمال.

6
ـ  سرير التحليل النفسي :   

أعترف بأنني قد مررت على هذه النماذج البشرية مرورا سريعا، لكي أترك لكل قارئ حقه في الاستفادة والاستمتاع بهذه التحفة الأدبية، التي أحسنت الكاتبة إعدادها وتقديمها برسمها الدقيق للخطوط والتفاصيل، وبعزفها المتفرد على الأوتار الحساسة وسردها الشيق للأحلام والأوهام.
رسمٌ وعزفٌ وسردٌ، تلك هي اللوحات الساخرة من "ضحك كالبكاء". حيث كل لوحة  عبارة عن سرير يتمدد عليه معطوبو النفوس والأرواح ليبُوحوا بما خفي عن الأعين والأذهان من نوايا وأسرار تصنع واقعنا السياسي والاجتماعي والثقافي، وتؤثر فيه أكثر مما تؤثر فيه النظريات والخطابات الساذجة البلهاء.
تأخذ الكاتبة كرسيها كحكيمة جديرة بهذا الاسم، وتجلس عند رأس كل مريض الوقت الكافي  لتدوين هواجسه وهلاوسه ووسوسات نفسه.
الأحلام ليست أحلام الكاتبة. وليس السارد هو الذي يحلم. الذين يحلمون هذه الأحلام المرعبة هم مرضى المجتمع ومعطوبو النفوس. مرضى «منومون"، يتمددون على سرير التحليل بالدور ليُفضوا بدون وعي منهم بما يلمونه ويكتمونه في تلك الغرف السوداء التي تسمى نفوسا، وليكشفوا للعالمين أسرار هذا الانهيار الشامل للقيم في مجتمع نُخرت أسسه وأُكلت أكتافه ودقت عظامه.
هل هي لوحات تتكرر باستمرار وبعنوان مختلف في كل مرة؟ أم أن اللوحات عنوان لعدوى تستشري في كامل أعضاء الجسد؟
 هي هذا وذاك وأكثر من كل ذلك، هي  لوحات ساخرة تكشف من خلالها الأديبة "مريم لحلو" عن اتساع الخرق على الراتق، وعن استشراء جرثومة الفساد في كل المؤسسات والقطاعات، جرثومة تهدد  الكيان الاجتماعي في جوهره، أقصد في القيم الموجهة للسلوك عند الإنسان، وقد اضطلعت الكاتبة بدورها كاملا في دق ناقوس الخطر وفي الكشف والفضح والتعرية لعل الضمائر الحية الشريفة تفيق قبل أن يجرف التيار الهادر للنذالة والفسادِ الأخضرَ واليابسَ.
7 ـ 
مضمرات الكتاب :

يعمد الكُتاب غالبا قبل عرض  إبداعهم على الناس إلى الحذف أو التثبيت أو الإضافة، خاصة إذا تعلق الأمر بكُتب تشتمل على مجموعة من النصوص،  فقد يرى الكاتب لغايات يصرّح بها أو يضمرها أن يحذف أو يثبت أو يضيف نصوصا إلى كتابه، وهو وحده  الذي يعرف لماذا وكيف اختار ترتيبا  دون آخر لهذه  النصوص. سأجازف إذن بالتسلل للمطبخ السري لهذا الكتاب، لَعَلَّني أظفر بالوقوف على واحدة من مضمراته فأتقاسمها مع القراء، بعد أن أصبحنا نحن "القراء" وبفضل هذا الفعل الجليل الذي يسمى "القراءة" شركاء في مِلكية هذا المنتوج الأدبي الجميل.
فأقترح للتأمل الجدول التالي :  

نماذج ممكنات (البديل) 
نماذج قدوة (المثال)
نماذج قاعدية (الواقع)


ـ ذات... موظف
ـ طريق... الشهرة السيار



ـ ذات... فاكانسي
ـ ذات... كوايري

ـ ذات... برلماني
ـ  ذات...  مفتش
ـ ذات... إداري
ـ ذات... مدرس
ـ ذات... طبيب
ـ ذات... شرطي
ـ ذات... قاض


فالنماذج البشرية التي اقترحتها الكاتبة على قرائها تتكون من ثلاثة أصناف (ولا يحق لأحد أن يفرض عليها اختيارات أخرى أو يناقشها في اختياراتها، فهي حرّة مطلق الحرية في العمل على النماذج التي تشاء)
ا) نماذج قاعدية: هي الأركان الأساس التي يقوم عليها المجتمع والحياة المدنية ـ علما بأن لها أشباها ونظائر في كافة القطاعات والمؤسسات وعلى مختلف المستويات من أدناها إلى أعلاها في المهام والرتب، وهي نماذج استشرى فيها الفساد لدرجة أصبح يهدد المجتمع تهديدا واضحا صريحا، فالتنذر بفتوحاتها اللأخلاقية والضحك على تفاهاتها وسخفها هو في الواقع بكاء على أنفسنا أكثر منه ضحك عليها. وتشمل هذه النماذج ( البرلماني والمفتش والإداري والمدرس والطبيب والشرطي والقاضي ). بتعبير آخر( التشريع والتربية والتعليم والأمن والصحة والإدارة والعدالة ). ولا يمكن لأي إصلاح أن تقوم له قائمة إذا كانت مثل تلك الجرذان الموصوفة آنفا تقرض وتقوّض بالليل ما بنته ورفعته إرادة الإصلاح بالنهار.
ب) نماذج قدوة: ولسنا نقصد القدوة الصالحة في هذه الحال، بل نقصد ما يقدَّم للشباب كنماذج ناجحة في الحياة، وما يقدم لهم كقدوة تمتلك قدرة هائلة على الجذب والتأثير والإغراء والغواية، إنها " الهجرة " و" الكرة "، إلى جانب مثيلاتهما وصويحباتهما في السينما والغناء.
والكاتبة تفضح الوجه الحقيقي لهذه النماذج المبتذلة من خلال " الفاكانسي " و"الكوايري"، النموذجين التافهين الفارغين الأجوفين مهما كانت غوايتهما قوية وإغراؤهما كبيرا للشباب، فأفقهما مسدود، لا يُلبي رغبة ولا يقضي حاجة، إلا الرغبة في الشهرة والكسب السهل السريع .، هذا إن حقّـقا ذلك فعلا، وقلّما يفعلان.
ج) نماذج ممكنات: وهي نوعان ـ  موجب، ولكنه مستحيل التحقق في مجتمع قادر على غسل الأدمغة والضمائر ومحو الذاكرة ودوس الشرف.
ـ  وسالب، وطريق هذا سيار لا عقبات فيه، وربحه مضمون ومحمي بألف ذراع.
    إنهما  البديلان المقترحان من طرف المجتمع على أبنائه لتحقيق ذواتهم:
     *) الموظف المنضبط القائم بالواجب الملتزم بلوائح العمل الحريص على إرضاء ربه وضميره وأهله ومجتمعه.. وهذا مكانه المدينة الفاضلة التي لم تعرف لها بعد طريق.
     *) الوصولي لانتهازي الذي  يسعى إلى الشهرة بألف وسيلة، فيختار أيسرها وأسهلها؛ " الجنس والسياسة والهمز واللمز في قناة الدين، مع توابل من توافه الأغاني وسقط الكلام وسفاسف المعاني".
        نماذج من الواقع فاسدة و قدوة تافهة واستقامة مستحيلة وطريق سيار إلى  نهاية القيم والأخلاق النبيلة.
هذا ما عليه الحال. لا قاعدة ولا قدوة ولا بديل. وإن يكن، فالكاتبة رغم كل شيء ترنو بنظرها إلى نصف الكأس الممتلئة، وتستنهض بأدبها همة أشراف الأمة.

8ـ  
قوة الأدب :   
الجنس والمال والسلطة والشهرة، هذه هي القيم الوحيدة السائدة الرائدة والموجهة لسلوك هذه النماذج البشرية التي وصلت بالمجتمع إلى الحضيض، وإذا قيل سابقا بأن الأدب يكشف عن أعطاب المجتمع ويشرّح جسمه ويشخص أمراضه أفضل مما قد يفعل ذلك البحث الاجتماعي أو الدراسة النفسية، فإن هذا يصدق أكثر على هذه المجموعة من اللوحات الساخرة التي عرضتها الأديبة "مريم لحلو" على أنظار زوار هذه القاعة الكبيرة التي نسميها مجتمعا. إنها لوحات أدبية تكشف أكثر مما قد يكشفه البحث الاجتماعي والدراسات النفسية من أعطاب وأمراض.

 9 ـ  
قوة الأسلوب
واحدٌ من عناصر قوة هذا الكتاب وهي كثيرة، إنه أسلوبه الذي يؤكد علوّ كعب الكاتبة في فن السرد، والكاتبة بارعة في توظيف ثقافتيها "العالمة" و"الشعبية" معا " اقتباسا وتضمينا" (15) في نصوصها الإبداعية دون أن يُخلّ ذلك بإيقاع سردها ولا بنبض كلماتها أو بصمات تعبيرها، وهي ميزة لا تتوفر إلا للأقلية القليلة من المتمرسين والمتمرسات بالكتابة، فنجد في كتابتها من الثقافة العالمة والشعبية الدُّرر المختارة من شعر أو حكمة أو مثل وقول سائر، كما نجد المقطع الغنائي(16) يجري في توافق تام مع النغم الخاص الذي توقع عليه جملها وعباراتها. وهو أسلوب يؤكد أيضا ثراء وغنى المخزون الأدبي الذي تصدر عنه الكاتبة بعد أن تمثّـلته واستوْعبته ثم أجرته متدفقا منسابا سهلا ممتنعا وعصيا على التقليد كما هو الشأن في كل أدب جاد، وأصيل، وحقيقي.


10
ـ عود على بدء:
أما بعد؛ فذات... حلمين؛ حلم أدبي جميل، بأن تتاح لي فرصة قراءة نصوص إبداعية تؤثر في الوجدان والعقل وتُمتع وتفيد في الآن نفسه.
وحلم اجتماعي بأن أقرأ أدبا ملتزما بقضايا الناس ومنحازا إلى شرف الكلمة والموقف.
وجدت بين يَدَيَّ كتابَ " ضحك كالبكاء " للدكتورة الأديبة مريم لحلو.
الآن فقط سأحقق الحلمين، وأشرع في قراءة لوحات ساحرة من الأدب الجميل والنقد الاجتماعي الساخر.
الهوامش :

(*)الكاتبة : مريم لحلو" أم بثينة"
أستاذة مادة اللغة العربية بالثانوي التأهيلي وأستاذة زائرة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة.
- شهادة الإجازة في الآداب، شعبة اللغة العربية وآدابها، كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة، 1990
- شهادة استكمال الدروس، تخصص أدب عربي قديم، 1991، كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة.
- شهادة التخرج من المركز التربوي الجهوي سنة 1991 بوجدة.  
- شهادة الدكتوراه في الآداب، تخصص أدب مغربي،2003 كلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة،
الأعمال: 
 1ـ كتب منشورة في مجال الدراسة والتحقيق:
-  كتاب:"  إسماع الصم في إثبات الشرف من قبل الأم للمراكشي الأكمه، ويليه إسماع الصم في إثبات الشرف للأم لمحمد بن مرزوق: دراسة وتحقيق" الطبعة1،  1426 هـ/2005م ، مطبعة الهلال وجدة. الطبعة 2، 1427~ 2006 مطبعة الشرق وجدة.
-   كتاب "شرح ياقوتة البيان" لمحمد الصغير الإفراني :"دراسة وتحقيق" الطبعة1، 1427هـ/2006م. ، مطبعة الشرق وجدة.
_   كتاب " "أراجيز مغربية في علم البلاغة" يضم خمس أرجوزات نادرة لناظمين مغاربة."جمع ودراسة وتحقيق" الطبعة1، 1427هـ/ 2006م ، مطبعة الشرق وجدة.
 2 ـ   في السرديات:
ـ  كتاب "ضحك كالبكاء" لوحات ساخرة الطبعة،2013 مطبعة الجسور وجدة
ـ  عدة  مقالات منشورة في مجلات وجرائد وطنية وعربية  كدعوة الحق ومجلة الذخائر البيروتية.
ـ      المشاركة في عدة حلقات دراسية و ندوات وطنية ودولية،مثل ندوة اللغة العربية والأصول الشرعية وندوة ربيع المخطوط الأندلسي الدولي تكريما للدكتور بنشريفة ، وندوة الشعر العربي المعاصر في المغرب:مفاهيم وقضايا

 (1*) الكتاب :    " ضحك كالبكاء/ لوحات ساخرة.
            لوحة الغلاف : نور الدين بورحمة
           الطبعة الأولى: 2013    
           المطبعة : مطبعة جسور ش.م.م/ وجدة .
*  تنويه خاص : تجدر الإشارة إلى أن هذا هو الكتاب الرابع الذي يحمل نفس العنوان المقتبس من البيت الشعري الشهير للشاعر الأشهر " أبو الطيب المتنبي"
ـ "وكم ذا بمصر من المضحكات  //  ولكنه ضحك كالبكاء".
أما الكتب الأخرى فهي على التوالي:
ـ ضحك كالبكاء: للمغربي إدريس الناقوري  ـ نقد الأدبي / دار النشر المغربية 1985
ـ ضحك كالبكاء: للعراقي  ماجد الحيدر ـ  مقالات  ساخرة/بغداد 2010
ـ ضحك كالبكاء: للسوري نور الدين الهاشمي ـ  قصص/ دار نينوى دمشق 2010
ويعتبر كتاب الأديبة "مريم لحلو" بدون شك إضافة نوعية في مجاله لهذه السلسلة.
 هوامش من داخل الكتاب
1ـ ذات ...موظف: صفحة 74
2 ـ طريق الشهرة السيار صفحة 80
3 ـ الإهداء صفحة 5
4 ـ  ذات... برلماني  صفحة 17
5 ـ ذات ...مفتش صفحة 25
6 ـ ذات ...إداري صفحة 30
7 ـ ذات ...مدرس صفحة 35
8 ـ ذات ...طبيب / صفحة 44
9 ـ ذات ...شرطي / صفحة 52
10 ـ ذات ...فاكانسي / صفحة 57
11 ـ ذات ... قاض / صفحة 84
12 ـ ذات ...كوايري / صفحة 69
13 ـ ذات ... موظف / 74
14 ـ  طريق الشهرة السيار/ صفحة 80
15 ـ انظر مايلي : صفحة 17 ـ 21 ـ 22 ـ 27 ـ 48 ـ 50 ـ 57 ـ 64 ـ 70 ـ 72 ـ 83 وغيرها .
16 ـ انظر بالخصوص : صفحة 70 ـ 52 .   
                                                       ــ جمال الدين حريفي   
                                                  القنيطرة في 29/08/2014   






الجمعة، 25 يوليو 2014

أحاولو على الفن، أهيا تا... ذ العباس جدة

  أحاولو على الفن، أهيا تا...

 العباس جدة
  كيف نفسر هذا الكم الهائل من الأفلام والمسلسلات والسيتكومات التلفزيونية المغربية خلال شهر واحد، هو شهر رمضان؟ بماذا يمكن تبرير هذه اليقظة الفنية التلفزية المذهلة، بعد شهور من السبات العميق أو على الأقل الكساد الفني والرداءة التلفزيونية ؟ هل لأن تلفزتنا تغار على الفن على الأقل في هذا الشهر الرمضاني وتسعى جاهدة الى إمتاع المشاهدين والدفع بعجلة الفن التلفزيوني الى الأمام؟  
   الأكيد أن التلفزيون المغربي عودنا منذ سنين على دعم الإنتاجات الوطنية وفسح المجال للفنانين المغاربة للإفصاح عن مواهبهم والتعبير عن قدراتهم الفنية. لكن لماذا بالضبط يقتصر هذا التشجيع والدعم المكثفين على شهر رمضان فحسب؟ وما قيمة المنتوجات الفنية التي تقدم للجمهور الواسع؟ وهل يسهم هذا الكم الهائل من الإنتاج في بلورة وتطوير الفعل الفني الإبداعي؟
 أولا، من العبث الادعاء بأن تفعيل العمل الفني قد يقتصر على شهر واحد في السنة. ومن الغباء والتهور الاعتقاد بأن التلفزة تشجع المنتوج الفني الوطني وتسعى الى النهوض بالثقافة والفن. إن الأمر في الحقيقة مجرد ذر الرماد في العيون  ولا يعدو أن يكون كذبا وبهتانا وتضليلا ونفاقا اجتماعيا ليس إلا.
  ثانيا، صحيح أن أغلب هذه الإنتاجات الدرامية تروم الترويح على النفوس بعد يوم كامل من الإمساك، وتهدف الى تسلية المشاهد وإضحاكه، وبالتالي فإن نوع الكوميديا هو المهيمن على هذه الإنتاجات التلفزيونية. إلا أن ما لا يدركه القيمون على التلفزة الوطنية وكذا الفنانون أنفسهم من مؤلفين ومخرجين وممثلين، أن الكوميديا فن والفن يتطلب الموهبة والممارسة والتكوين والكفاءة  والمهنية والمخيلة الخصبة والقدرة على الإبداع والخلق، ويستلزم  الفن أيضا أخلاقيات فنية عالية، من تعاون وتسامح وعدم الهرولة الى الكسب المادي وعدم اتخاد الفن مجرد وسيلة للاسترزاق...
 والواقع أن ما نشاهده على الشاشة الصغيرة ومنذ عقود هو "الحلقة" بمفهومها القدحي وليس فن الكوميديا. والغريب في الأمر أن  المسؤولين على التلفزيون وكذا الفنانين يتمادون في تجاهلهم بأن ما يقدم للمشاهد دون المستوى، بل يصرون كل سنة  على  ممارسة جميع أشكال التعذيب على المشاهد المغربي من "تهراس الراس" و"شقيقة" و"صداع" و"بسالة" وإرهاب كوميدي؛ ويمعنون كل شهر رمضان في الاستخفاف بالمشاهد واستبلاده والضحك عليه. وقبل ذلك فهم يشوهون الممارسة الفنية ويحرفون مفهوم الفن بل يغتالونه ويجهزون على ما تبقى منه، إن كان بالفعل قد وجد "فن الكوميديا"  من قبل في هذه البلاد.
  إن الفنان الذي ينتظر شهر رمضان من أجل العمل ولا يفكر سوى في "الكاشي" والتكسب والتسابق للمشاركة في أكبر عدد من المسلسلات والسيتكومات والأفلام التليفزيونية ويلهث وراء الشهرة ولا يفكر سوى في إبهار الجمهور ويجد لذة في التباهي أمام زملائه الذين لم يحالفهم الحظ، بل يلجأ الى المحاباة والمجاملة وإقامة علاقات مشبوهة مع الفنانين والمسؤولين وجميع أشكال المحسوبية والزبونية، لا يعد فنانا. إنه مجرد "حلايقي" بل مرتزق من المرتزقة الكبار.
يقول المخرج الروسي الكبير ستانيسلافسكي : " عليكم أن تحبوا الفن فيكم لا أن  تحبوا أنفسكم في الفن."  ويضيف قائلا: "إذا كان المسرح  لا يهذب سلوككم ولا يسمو بمشعاركم فعليكم أن تتجنبوه." فالفنان الحقيقي هو الذي يعمل من أجل الفن لذاته وليس من أجل التكسب والاسترزاق، وهو الذي يحترم عمله الى حد القداسة، وهو الذي يحارب فيه الغرور والإغراء والفظاظة.
  لنأخد نموذجا من نماذج الكوميديا كما يتصورها السواد الأعظم من الفنانين المغاربة وتزكيها التلفزة الوطنية، وهو سيتكوم "حاولو على مستور". إن فريق التأليف يتكون من أربعة أشخاص من بينهم دكتور وفنان تلقى فن المسرح بالسوربون كما بلغني مؤخرا، علاوة على أنه المسؤول الأول في النقابة المغربية لمحترفي المسرح. إن هذا الدكتور والفنان المبرز والمسؤول على حقوق المسرحيين وإعادة الاعتبار للفن المسرحي، يشارك يا سادة يا كرام،  في المهزلة بكل أسى وأسف. ألا يدرك فريق التأليف ومن ضمنه الدكتور بأن أزمة الإبداع الفني عندنا تنطلق أولا من الصياغة النصية للفيلم  التلفزيوني أو السينمائي؟ ألا يعلم هذا الفريق أن المشكل يتمثل بالدرجة الأولى في "السيناريو"، إذ يمكن لي أن أجزم بأن كتاب السيناريو لا وجود لهم في بلادنا. كما يمكن لي أن أجزم بأن الشريط التلفزيوني أو السينمائي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون مؤثرا وجذابا، إذا لم يستند الى سيناريو مكتوب بمهارة وإتقان وتماسك فني. لنعد الى نموذجنا، فأي تأليف هذا وأية شخصيات وأية وضعيات ساخرة وأية أحداث، أبدعها هذا الفريق واستوحاها من نسيج خياله؟ فالشخصيات مرسومة بشكل سطحي وفج والوضعيات الساخرة مفتعلة ومصطنعة والحوارات سوقية ومبتذلة الى حد الغثيان. ماذا إذن يبقى في السيناريو إذا لم نعتني برسم الشخصيات والعلاقات المتوترة بينها، وصياغة وضعيات ومشاهد فنية سلسة ومتماسكة، وما تتلفظ به الشخصيات من عبارات وحوارات بليغة وذكية ؟
 صحيح أن السيتكوم يروم الترويح عن النفس والتسلية، ولكن هل الكوميديا هي افتعال للوضعيات الساخرة، وإقحام لمشاهد لا مبرر لها، ورسم لشخصيات نمطية فجة لا حياة لها، وجعلها تنطق بألفاظ وعبارات شعبوية ؟ هل فن الكوميديا هو الإصرار على انتزاع الضحكات من أفواه المشاهدين كيف ما اتفق وبأية وسيلة ولو على حساب الفن؟ اعلم أيها الفريق (كتاب السيناريو) بأنه يكفي أن أبتسم وأحس بالانشراح والمتعة وأنا أشاهد موقفا ساخرا أو وضعية مسرحية أو سينمائية أو تلفزيونية، لكي يتحقق الهدف الفني. هل كان شارلي شابلين أو وودي ألين أو الممثلين الإيطاليين كمارسيللو ماسترواني ونينو مانفريدي وفيتوريو غاسمان  يتصنعون ويجهدون أنفسهم، لا أقول لإضحاك المشاهد، وإنما فقط جعله يبتسم ويشعر بالسعادة؟؟؟ إن الكوميديا أيها السادة هو فن والفن منزه عن الافتعال والضحالة والسوقية والارتجال. ولكن فاقد الشيء لا يعطيه. فالأكيد أننا  نعيش أزمة ابداع حادة  في المسرح والتلفزيون والسينما والتي تتجسد بالدرجة الأولى في غياب كتابة نصية درامية مشرقة.
  والإخراج يلعب الدور الحاسم في انجاح الشريط أو فشله، والمخرج عندما يفتقر للموهبة والتكوين وينقصه المراس والتجربة، لا ينتظر منه شيئا. وهذا النموذج يجسده بالذات مخرج هذه السلسلة ، الذي أعرف عنه بأنه إعلامي في القناة الأولى لأكثر من عشرين سنة، وقبل ذلك كان يهتم بالمسرح في إطار رواد الخشبة بمكناس. فكيف للتلفزة المغربية أن تعهد لأناس، لا تجربة لهم ولا دراية لهم بفن الإخراج  التلفزيوني، بمسؤولية جسيمة كهذه ؟
   أما الممثلون فقد جعلونا نصاب بخيبة أمل، خصوصا الممثلين الرئيسيين، من حيث أنهما ممثلان مقتدران ويتمتعان بموهبة وقدرات تعبيرية لا بأس بها. غير أنهما يهدران موهبتهما الفنية في التهريج والأداء المبالغ فيه وفي اللعب النمطي وإجهاد نفسيهما في بلوغ الهدف الفني المنعدم أصلا في الكتابة النصية وفي الإخراج. والحال أن هذا النوع من الممثلين - وهم كثر- يسيؤون للفن ولا يحترمون أنفسهم. ناهيك عن الممثلين الآخرين المشاركين في نفس السيتكوم وبكيفية خاصة ممثلة معروفة منذ الثمانينات من القرن الماضي، التي أدت دورها بشكل مغلوط ومتكلف تماما، حيث كانت "تتقطع" المسكينة  لإضحاك المشاهد. وهذا يثير بالطبع شيئا من الشفقة الممزوجة بشيء من الأسى والحزن . فأين هي اللجنة التي ترخص لهذا النوع من الإنتاجات الرخيصة، المبتذلة والساقطة؟ أقصد فنيا وليس أخلاقيا. وقبل ذلك وهذا هو الأهم أين هم كتاب السيناريو الحقيقيون؟ وأين هم المخرجون المقتدرون الذين يحسنون إدارة الممثلين ويكبحون جماح الممثلين والممثلات المندفعين، لكي لا يتمادوا في التصنع والمبالغة في اللعب وتشويه فن التشخيص والضحك على المشاهد؟
 لكن يبدو بأن فنانينا (عفوا غالبيتهم) يفضلون المشاركة  في هذه الإنتاجات/ المهازل فقط من أجل الهروب من الاحتياج والفقر بالنسبة للبعض ومن أجل تنمية الرصيد البنكي بالنسبة للبعض الآخر. وفي كلتي الحالتين يضيع الفن ويغيب لتحضر المصلحة الشخصية الضيقة الكابحة للفعل الفني بل القاتلة لكل محاولة خلق وإبداع. وهذا يثير الحسرة والحزن العميق في النفوس الغيورة.