الثلاثاء، 19 أكتوبر 2010

السياسة التعليمية بالمغرب


السياسة التعليمية بالمغرب

صافي الدين البدالي(*)
1- تقديــم:
 في كل  دخول مدرسي  جديد تكثر التحركات وتتساقط المذكرات  الوزارية على رجال التعليم، وتتعدد الاجتماعات واللجان. وتتحرك وسائل الإعلام الرسمية لنقل صور توحي للمتتبع أن كل شيء على أحسن ما يرام . ويبدو  وكأن ثورة ما قد عرفها التعليم. لكن في الحقيقة ما هي إلا ممارسات فلكلورية لم ولن تغير من واقع التعليمورجاله من شيء. لم تغير هذه البهرجة مما تعرفه المؤسسات التعليم بالوسط القروي وبالأحياء الشعبية من تخريب  ومن تدني لبنيتها التحتية، حتى أن  بعضا منها لم يعد قابلا للدراسة. كما لن تفيد هذه التحركات معالجة الاكتظاظ الذي  تعرفه الأقسام في كل الأسلاك ، وكذلك تردي الخدمات على مستوى الأقسام الداخلية. ولم ولن تغير هذه التحركات من معالجة تدني المستوى عند التلميذ والتراجع المستمرفي المردودية التربوية  وفي الجودة بالرغم، من كل الشعارات التي تم رفعها منذ الإعلان عن  ميثاق التربية و التكوين إلى البرنامج الاستعجالي. فهل قطاع التربية والتكوين هو فيحاجة إلى هذه المسرحيات التي تكرر كلما حلت السنة الدراسية الجديدة؟ أم أن المسئولين لم يجدوا بعد تلك الوصفة السحرية لحل إشكاليةالتعليم في بلادنا؟ هل ما يعرفه هذا القطاع من تردي لأوضاعه جاء بالصدفة أو هو نتيجة عطب مؤقت في الآلة التعليمية؟
 سنحاول معالجة الموضوع من حيث الجوانب التالية:
1  ـ إشكالية التعليم في المغرب
2 ـ  المخطط المخزني لإجهاض المدرسة الوطنية
3 ـ  أدوات التأطير: للسياسة التعليمية.
 النتائج.
5 ـ   اليسار / المسؤولية.
6 ـ  خلاصات.  
*******
1ـ إشكالية التعليم في المغرب
إن ما وصل إليه التعليم في بلادنا من تقهقر وتراجع مستمر على جميع المستويات لم يعد خافيا على أحد. فلم يعد مشكل التعليم مقتصرا على أطره التربوية أو على أطره الإدارية بل امتد إلى كل الأسر المغربية التي ليس لها دخل أو ذات الدخل المحدود. فكل المؤشرات أصبحت تثبت أن السياسة التعليمية التي تم إتباعها منذ الاستقلال لم تخدم إلا الطبقة الحاكمة والرأسمالية المتوحشة، وكرست بالفعل الطبقيةفي التعليم. فالتعليم العمومي الذي يهم أبناء الشعب المغربي ظل في مساره وتوجهاته يهدف إلى سلب التلميذ والطالب هويته الثقافية ومن كل إرادة حقيقية في التفكير وفيالإبداع والتحليل العلمي والاستدلال والاستنتاج. هذا التوجه هو نفسه الذي  يغيب  كل الأدوات التربوية التي تساعد على الاكتشاف وعلى اكتساب المعرفة والكفايات الأساسية  التي تمكن  التلميذ  من الانخراط في المجتمع بشكل ايجابي . وأصبحت مخرجات التعليمالعمومي هي العطالة والتهميش والتسول الوظيفي والتسليم بالأمر الواقع. أما التعليمالخاص والذي يلجه أبناء الطبقة الميسورة فله توجه خاص، فهو يؤهل إلى المناصب الحساسةفي المؤسسات الإستراتيجية كالمؤسسات المالية والتجارية وغيرها ذات الارتباط.  إن وضعيةالتعليم قي بلادنا وما آلت إليه، رغم كل الخطابات الرسمية والتبريرات المرافقة لها، لم تأت نتيجة عطب تقني في الآلة التعليمية أو نتيجة أزمة اجتماعية أو اقتصادية فرضتها تحولات لم تكنفي الحسبان. ولكنها وضعية ناتجة عن سياسةتعليمية تؤسس لتعليم طبقي في إطار التوجه العام للنظام المخزني، الذي يهدف إلى تكريس الفوارق الاجتماعية من خلال المؤسسةالتعليمية  والجامعية. تمشيا مع إستراتيجية المقيم العام الفرنسي"اليوطي" الذي حددسياسة التعليم في البلاد والتي ترجمها فيمذكرة وجهها إلى المدير العام للتعليم "كلستون لوت" بتاريخ 30 أكتوبر 1915 تنص على تخصيص مدارس خاصة لأبناء الأعيان والنبلاء، تمكنهم من ولوج الأسلاك العليا قصد توليهم مناصب عليا في أفق تنظيم الإدارة المخزنية، وبالمقابل تخصيص مدارس من نوع ثان لأبناء العمال والحرفيين والفلاحين لاكتساب بعض المعارف  قصد الدخول إلى المزاحمة على مستوى أسواق الشغل.
    فكيف خطط ويخطط النظام المخزني  للتعليمفي البلاد حتى لا يؤدي دوره الطلائعي كسائر البلدان المتقدمة؟ وماهي أدوات التأطير السياسي لهذا المخطط؟ وما هو دور القوى الديمقراطية واليسار على الخصوص لمواجهة هذه السياسة التعليمية؟ وما هي النتائج المنتظرة على المدى المتوسط والبعيد؟
2 - المخطط المخزني لإجهاض المدرسة الوطنية.
إن شعار المدرسة الوطنية الذي رفع غداة الاستقلال كان يهدف إلى تأسيس تلك المدرسة ذات المبادئ الأربعة وهي التعليم، والتعريب، والتوحيد، وتكوين الأطر، كان لا يرقى إلى متطلبات المرحلة التي كانت تتميز بالانتقال من الاستعمار إلى الاستقلال الشكلي. هذه المرحلة التي تتطلب الحسم النهائي مع التبعية. مما جعل الجماهير الشعبية تسارع إلى المساهمة المباشرة في بناء مدارس بالقرى والبوادي لضمان تمدرس الأطفال من مختلف الأعمار والشرائح حتى انتقل عدد الممدرسين من 20.000 في عهد الحماية إلى مليون متمدرس ما بين 1960 و 1964، وهنا بدأ فعل المدرسة يبدو واضحا على المستوى السياسي  والانفتاح على كل الأنواع الثقافية وخاصة العلوم الاجتماعية والسياسية التي تنتجها الأقلام التقدمية والتحررية. ولم تعد الثقافة السائدة والتي كانت من إنتاج خطباء البلاط المخزني مقبولة أو ذات مكانة عند الشباب. ومن تم بدأت عملية الاحتواء بالتخطيط إلى التعليم كي يؤدي الوظيفة السياسية  والإيديولوجية للطبقة السائدة ضدا على الكيان الاجتماعي كنظام من العلاقات النفسية والاجتماعية بين الأطفال بالمدارس وبين الشباب في الإعداديات والثانويات والجامعات، هذا الكيان الذي بدأ يساعد على إفراز قاعدة شعبية، تبنت شعار التغيير الجدري للنظام القائم في البلاد، لكن المخطط المخزني واجه هذه التطلعات بوضع آليات تربوية وبيداغوجية تعمل على إخفاء الواقع الاجتماعي المعيش وإبراز الجانب المخزني فيه، كجانب إيجابي. وعلى المتعلم أن يقتنع به كحقيقة غير الحقيقة التي يعيشها. وحتى ينجح هذا المخطط تم اعتماد الوصفات الجاهزة للتربية والتكوين والتي تقوم بإعدادها دول غربية كفرنسا مثلا فيإطار التبعية التي ظل الشعب المغربي يعيش ويلاتها حتى اليوم. وهكذا وحتى لا يؤدي التعليمفي بلادنا دوره الطلائعي، تم إبعاده وبشكل ممنهج عن التطور المستمر الذي تعرفه النظمالتعليمية والتربوية في العالم وذلك بسببسياسة تعليمية ذات ثلاثة أبعاد:
البعد الأول : تربوي بيداغوجي
يتجلى هذا البعد في اعتماد النمطية والتجريب على المستوى  التربوي / البيداغوجي، وذلك بتأهيل المدرس إلى تمرير المعارف الجاهزة التي تخدم إيديولوجية الدولة دون مراعاة حاجيات الطفل وميولاته الفكرية والفنية والإبداعية. وهذا ما تسبب في الإخفاقات المتكررة للعمليةالتعليمية / التعلمية في المساهمة المباشرة والملموسة في التنمية. هذا البعد كان هدفه هو تنامي الفشل الدراسي، أي تنامي صفوف الأمية والانحراف، وبالتالي إعداد جيل مزدوج الهوية الوطنية، ومجرد من أي تكوين علمي يساعده على تحليل الواقع والانخراط في عملية تغييره. وفي هذا السياق سيشجع النظام المخزني القوى الظلامية  لالتقاط هذا الجيش من الشباب لتخرجهم من النور إلى الظلمات. 
البعد الثاني : عزل التعليم عن حاجيات المجتمعالمغربي.
يتجلى هذا البعد في تحريض المجتمع ضد مبادئ وأهداف المدرسة الوطنية وضد الأطر التربوية التي تعارض هذه السياسة (أحداث1965و 10-11 أبريل 1979) وكذلك على مستوى الخطابات الرسمية. وهذا ما أدى إلى تراجع الأداء المطلوب عمليا  من المدرسة وكذلك إلى تخلف المنظومة التربوية، مما أدى إلى الانحباس النفسي للأطفال المتمدرسين وإلى الردة البيداغوجيةفي صفوف المدرسين، مما ساهم في تأخر التنمية على جميع المستويات.
البعد الثالث : إفراغ التعليم من المبادرة
تجلى ذلك في تهميش المبادرات الهادفة للأطر الشابة التي كانت تسعى إلى تقدم التعليم فيالبلاد، مما أدى إلى استسلامها والتسليم بالأمر الواقع أمام تنامي الخطابات الرسمية، التي تعتبرالتعليم يثقل كاهل الدولة. وهذا التوجه الذي يعتبر بأن قطاع التعليم غير منتج (خطابات الحسن II شتنبر 1978  و 1979)، عجل  بإقصاء التعليم من التطور الأفقي على مستوى البنيات التحتية  والتجهيزات والوسائط التعليمية، وعلى المستوى العمودي من حيث الإدارة التربوية.  وبالمقابل تم الانصراف نحو القطاعات التي تسمح بالحصول على قروض من الخارج (البنك الدولي - صندوق النقد الدولي - نادي روما - نادي باريز …) وهذه القروض وجهت إلى القطاع السياحي بنسبة 75.
 ما بين 1968 و 1976. أما التعليم فسيخضع منذ 1966 إلى عملية التقشف باعتماد صيغة التناوب على الحجرات والاعتماد على مدرسين أجانب في إطار التعاون الثقافي، والاعتماد كذلك على  البعثات الثقافية الأجنبية (فرنسا، رومانيا، بولونيا، أمريكا…)   لسد الفراغ الحاصل من الأساتذة في التعليم الإعدادي والثانوي، وذلك بعد إغلاق المدرسة العليا للأساتذة لما لها من دور كفاحي في إطار الاتحاد الوطني لطلبةالمغرب. ولم يعد التكوين الحقيقي للشباب ملزما بالاعتماد على هذه البعثات. هذه السياسةكانت تعتمد على المقاربة الأمنية على مستوى المؤسسات من جهة وعلى مستوى البرامج من جهة ثانية.  
3- أدوات التأطير: للسياسة التعليمية.
بالرغم مما ينص عليه ظهير 63 في فصل 13 على إجبارية التعليم، فإن النظام المخزني تراجع عن تطبيق مقتضيات هذا الظهير. لأنه تأكد بأن المد التعليمي أصبح يفرز قواعد عريضة واعدة باستطاعتها تحريك الشارع ضد النظام القائم. مما أدى بالنظام إلى التخلي عن البرنامجالتعليمي في المخطط الخماسي (60 - 64) الذي خصص اعتمادات لتعميم التعليم لكل الأطفال البالغين 7 سنوات إلى 14 سنة. وبقي هذا المخطط فقط على مستوى الشعارات والتقارير التي كانت ترفع إلى الجهات الداعمة لقطاع التعليم، كمنظمة اليونسكو واليونيسيف وغيرهما. وكانت هذه التقارير لا تعكس الحقيقة، مما أدى إلى تعيين لجنة أممية لتقصي حقيقة ما يجري على مستوى التعليم في المغرب.
و أكد تقرير اللجنة الأممية في مؤتمر طرابلس سنة 1966 على " أن التعليم في المغرب يفتقد إلى التوازن بين أسلاكه والأهداف الاجتماعية والثقافية والاقتصادية".
و لتأطير السياسة التعليمية/المخزنية فيالبلاد، تم اختيار وزراء لتنفيذ كل مرحلة من مراحل المخطط المخزني للتعليم، حيث تعاقب على وزارة التعليم منذ الاستقلال ما يزيد على  23 وزيرا، أي بمعدل سنتين لكل وزير. ويأتي تعيين كل وزير حسب الظرف السياسي الذي تعيشه البلاد وحسب الأهداف التي يحددها النظام.
و هكذا عرفت مرحلة الوزير محمد الفاسي، تأسيس الجامعة الحرة للتعليم التابعة لحزب الاستقلال واحتواء شعار المدرسة الوطنية، بتعويم مبدأ التوحيد والتكوين، حيث تم اعتماد التوظيف المباشر لمعلمين وأساتذة دون تكوين، و تبني التعليم العصري والتعليم التقليدي والتعليم الأصيل إرضاء لجميع الأطياف السياسية على حساب الهوية الوطنية. وجاءت مرحلة الوزير عباس الطعارجي  التي عرفت تجميد البنايات المدرسية وبداية التقنين الدراسي (التعليم الطويل والتعليم القصير) والتوجيه نحو المدارس المهنية (المدارس الفلاحية و مدارس التكوين المهني)، وبعدها أتت مرحلة ابن هيمة، الذي سينفذ التوجه نحو التبعية الثقافية باعتماد المدرسة النموذجية ونظام التناوب، لتدبير استعمال المؤسسات المتواجدة، دون إضافة مؤسسات جديدة، مع وضع حواجز للولوج إلى الإعدادي أو الثانوي أو الجامعي.  تلك كانت بداية عمليات الطرد من التعليم، وذلك كعقاب غير معلن للتلاميذ والطلبة على استمرارهم في المطالبة بتعليم وطني وتحسين الظروف التربوية والتعليمية.أما الوزراء الذين جاءوا بعد الوزير بنهيمة إلى حدود 1977، فكانت مهمتهم خاصة بإخضاع التعليم إلى نظام الخريطة المدرسية، للتحكم في نسب التسجيلات الجديدة وفيمعايير الانتقال من سلك إلى آخر، بتحديد المقاعد المسموح بها في كل سلك من الأسلاك. مما سيؤدي إلى حرمان الأطفال في سن التمدرس، ومن الولوج إلى المدرسة، مع تهميش العالم القروي وحرمانه من التعليم الابتدائي والإعدادي، بالإضافة إلى التراجع عن المنح. ولقد تميزت فترة الوزير عز الدين العراقي بتنفيذ مقررات وزارة الداخلية من خلال التضييق على الحركية النقابية واعتقال ومحاكمة وتوقيف المناضلين النقابيينفي ك. د. ش (أحداث 1979 و أحداث 1981)، وتميزت أيضا هذه المرحلة بإصدار مجموعة من المذكرات منها: المذكرة المشؤومة 510 المتعلقة بمنع رجال التعليم من متابعة دراستهم الجامعية.
كما تميزت بتمرير النظام الأساسي (1985) وفتح المجال للخطاب الأصولي بالمؤسساتالتعليمية والجامعية عن طريق أطر من حزب الاستقلال (تكليف أساتذة ومعلمين من الجامعة الحرة للتعليم بمهام التأطير والتفتيش). ولقد عهد إلى حزب الاستقلال على يد الوزير عز الدين العراقي بتوسيع دائرة نفوذ نقابته لمواجهة النقابة الوطنية للتعليم، وكذلك للترويج للسياسة التعليمية المتبعة. وإذا كانت فترة عز الدين العراقي أطول مدة في وزارة التعليم بعد فترة بنهيمة، فلأنها كانت ترتكز بالأساس على إخراج التعليم من دائرته التربوية و الاجتماعية والثقافية والإبداعية، وفصله عن حاجيات المجتمع وتطلعاته، وذلك بتحويل دور المعلم والأستاذ من المهمه التربوية الهادفة وإلى إعداد المتعلم إعدادا يعتمد فيه على ذاته،  إلى مهمة مقدم للمقرر، يكون المتعلم في وضعية متلق لا غير، من خلال برامج تعتمد على التدريس بالأهداف، وبشكل تعسفي. وتميزت فترة عز الدين  العراقي أيضا، بعملية تفيء رجال التعليمإلى درجات. مما سيؤدي إلى تفكيك وحدة رجالالتعليم وتفتيت قوتهم الاقتراحية والاحتجاجية، حتى لا يظلوا يشكلون النخبة الواعدة في إعمال فعل الوعي بالتغيير وسط الجماهير. وعلى مستوى التمدرس، فإن نسبته ظلت تعرف تراجعا حتى وصلت نسبة الأطفال غير الممدرسين إلى%67، وصلت إلى% 92 بالنسبة للفتيات فيالوسط القروي (تقرير البنك الدولي سنة 1990) أما مرحلة ما بعد عز الدين العراقي، فكانت مرحلة وزراء تقنقراط (الهلالي بلمختار…) كانت مهمتهم تنحصر في إعادة هيكلة الوزارة للتحكم أكثر في المسارات التعليمية، وفي الأطر التربوية والبحث عن التمويلات الخارجية للرفع من مستوى التمدرس من حيث الكم، للخروج من الدرجة التي رتب فيها المغرب في هذا المجال. لأن نسبة الأمية ارتفعت إلى% 72 وهي الأولى في العالم  العربي بعد مصر و%93 بالنسبة للمرأة (دراسة الجامعة العربية لسنة 1994). لكن الأنماط الهيكلية التي تم اعتمادها (النمط الفرنسي والأنكلوساكسونى) كانت تهتم بالجانب الإداري التحكمي، ولا تهتم بالجانب البيداغوجي أو التربوي، لأن تلك كانت شروط الجهات المانحة (البنك الدولي). ولمنح السياسة التعليمية المخزنية شرعية، تم إسناد القطاع بعد وزراء التقنقراط إلى أحزاب من الكتلة (حزب التقدم و الاشتراكية- الحزب الاشتراكي الديمقراطي- الاتحاد الاشتراكي ) بالإضافة إلى الأحرار. هؤلاء الوزراء وظفوا المساعدات التي استفاد منها القطاع من الخارج في البنايات الإدارية والتمويه الإعلامي، مما حدا بالجهات المساعدة إلى تكوين لجن المراقبة والتتبع، مثل البنك الدولي للإنماء (PNUD) و(FNUAP) و(UNESCO) و (MEDA) وهي برامج تستهدف  تنمية التعليم بالوسط القروي وبالمناطق المحرومة. ورغم ذلك فإن هؤلاء الوزراء، لم يهتموا بملاحظات الجهات المانحة التي كلها فيإطار التقويم الخارجي  تقوم به، وهي تؤكد أنالمغرب لم يلتزم بالتعهدات التي تم توقيعها فيهذا الإطار.
4- النتائج:
     إن السياسة التعليمية في البلاد حققت أهدافها التي رسمتها خلال القرن الماضي من خلال:
1-   ميثاق وطني يكرس اديولوجية الدولة بكل امتياز.
2-   الفصل بين قطاع التعليم العمومي والمجتمع ليصبح التعليم في نظر الجميع مضيعة للوقت.
3-   عزل رجل التعليم عن المجتمع ليصبح محط نعوتات مسيئة، وهدفا للعنف من طرف الأب وحتى التلميذ.
4- تحويل اهتمامات رجال التعليم إلى قضاياهم الخاصة بفعل مناورات الحكومة على ملفاتهم.
5-  جعل التلميذ  يفقد الثقة في نفسه، حتى أصبح يلجأ إلى الغش أو إلى المغادرة.
6-  إبراز التعليم الخاص كبديل بدعم من الحكومة، مما حدا بهذا القطاع إلى التوسع وإلى الاجتهاد في المتاجرة، وإلى اعتماد برامج خارجةفي غالبيتها عن مراقبة الدولة.
7-  التخلي عن إصلاح المؤسسات وفضاءاتها إلى ميزانية الجماعات المحلية أو جمعيات الآباء أو المحسنين.
8-  التخلي التدريجي عن تكوين الأطر التعليمية واللجوء إلى سياسة التعاقد دون مراعاة المبادئ والمعايير الدولية للتربية والتكوين.
9-     التخلي عن التأطير التربوي ومحاولة تأهيله ليكون دعامة تحكمية.
  5- اليسار/ المسؤولية
   لقد استطاع النظام من خلال المخطط الذي رسمه للنظام التعليمي في البلاد أن يطوق الفكر التقدمي من خلال المقاربات البيداغوجية التي أطر لها من خلال البرامج والمناهج، التي تعتمد على النمطية والتلقي، مكرسة الجمود الفكري ومنفتحة على الفكر الأصولي وكل الأفكار الرجعية. ولم يكن بإمكان اليسار تكسير هذا الطوق، نظرا لما عاشه من تشرذم ومن هجوم عليه بدون هوادة من طرف النظام الحاكم. فأحداث 1984، وما ترتب عنها من محاكمات فيصفوف الطلبة والتلاميذ والأساتذة التقدميين، فتحت المجال للأصولية في الجامعات والثانويات، بل حتى على مستوى التعليم الابتدائي بدعم من النظام والتستر عن أفعال الظلاميين الإرهابية وسط الطلبة والتلاميذ. لكن هذه الظروف كلها لا تبرئ اليسار بشكل عام من المسؤولية فيالوضع الذي أصبح عليه التعليم اليوم، لأنه لم يكن يشتغل على هذا القطاع من خلال إستراتيجية محكمة، تحافظ على امتداد الفكر التقدمي فيوسط المؤسسات والأطر العاملة به، بل إنه ـ أي تيارات اليسارـ  استجابت لاستفزازات المخزن عن طريق الظلاميين، لتحويل الصراع إلى وضع أفقي، بعدما كان ذلك الصراع عموديا.
هذا بالإضافة إلى الانسحاب العملي لليسار بكل اتجاهاته من الأوساط الشعبية (الأحياء الشعبية المهمشة – أحياء محيط المدن – الدواوير…) وهذا ما ساعد النظام على تحقيق أهدافه فيقطاع التعليم، ليصبح قطاعا لا ينتج الفكر التقدمي والفكر العلمي، بل ينتج الأفكار المستلبة والغيبية والخرافية، حتى أن أطر هذا القطاع في غالبيتهم أصبحوا من الظلاميين (أساتذة – معلمون…) و النتيجة هي تراجع التلاميذ في الشعب العلمية بنسبة 70%(2004) وارتفاع نسبتهم في الشعب الأدبية وخصوصا الإسلاميات، وهذا ليس راجعا إلى التدريس بالجامعات باللغة الفرنسية فقط، ولكن للتوجه الذي أصبح سائدا في الثانويات…
إن اليسار في وضعيته  الحالية، يوجد أمام تحديات كبرى في التعليم خصوصا، إن هذا القطاع يرتبط بالشعب كله، لذلك أصبح له خياران: الخيار الأول هو العمل على تأسيس جمعيات على مستوى التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوين في إطار إستراتيجية تهدف إلى إعادة الإنتاج الفكري لمواجهة الفكر السائد، وبالتالي وضع استراتيجيه لإعادة بنائه وفق التحولات الكمية والفكرية التي عرفتها وتعرفها الجامعات. وذلك بوضع البديل التعليمي لكل الأسلاك. أما الخيار الثاني فهو الإبقاء على الوضع الحالي،وسيتأتى للفكر الظلامي والمخزني معا القضاء مستقبلا على الفكر التقدمي وبالتالي خنق اليسار نهائيا.  
6- خلاصات:
- إن السياسة التعليمية في البلاد تعكس بالفعل إرادة الطبقة الحاكمة، فهي المستفيد الأول من التخلف ومن الأمية ومن البطالة والانحراف، لأنها تتاجر في كل شيء حتى فيالأرواح.
- إن هذه السياسة لا يمكن فصلها عن السياسة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يعتمدها النظام المخزني في البلاد.
- إن أي نضال من أجل التغيير لا يمكن أن يستثنى منه التعليم لأنه يشكل حاليا دعامة أساسية للنظام.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(*)مفتش التعليم و باحث تربوي ـ نشر الموضوع في المدون بالاتفاق مع الكاتب

الاثنين، 18 أكتوبر 2010

ايمانويل تود: الدولة في خدمة الأوليغارشية المرتبطة بالأسواق


ايمانويل تود:
 الدولة في خدمة الأوليغارشية المرتبطة بالأسواق
(تحليل في ميكانيزمات الحكم والأزمات لدى الغرب)
 
ترجمة قاسم شرف (*)
    أجرت جريدة "لوبوان" الفرنسية حوارا مطولا مع الكاتب والمفكر الفرنسي إمانويل تود الذي أكد أن الدولة في خدمة الأوليغارشية المرتبطة بالأسواق، فهو من مواليد 1951، حاصل على دبلوم من معهد الدراسات السياسية بباريس، وعلى دكتوراه في التاريخ من جامعة كامبريدج، باحث في المعهد الوطني للدراسات الديمغرافية، ومن خلال بحوثه توصل مع بعض زملائه إلى أن النظام العائلي يلعب دورا محددا في التاريخ وفي المؤسسة الدينية والإيديولوجية والسياسية. إضافة إلى كونه مؤرخا فهو انتربولوجي وديموغرافي ومحلل سياسي. وقد أصدر مؤخرا كتابا في جزئه الأول تحت عنوان " مصدر الأنظمة العائلية " من 768 صفحة عن مطبعة "كاليمار" .  
- هل الدول في حالة حرب مع الأسواق؟
       ايمانويل تود: ـ لا تضللنا هاته المفاهيم المخادعة، بروكسل، الأسواق، البنوك، وكالات الترقيم (التصنيف) الأمريكية: هاته الألاعيب تخفي سيطرة الأكثر غنى على السلطة السياسية، على المستوى العالمي. بكل بساطة يلعب هؤلاء الأغنياء، تحت ذريعة حماية أموال صغار المستثمرين والأسواق بالدول. فهم لا يحاربون الدول، بل يصارعون من أجل السيطرة عليها أكثر (انظر كتاب "الدولة الناهبة" لجيمس غالبريث). يكفي إلقاء نظرة على مسارات بعض الأفراد في الإدارات العليا، والشركات الأمريكية، وبروكسيل، وبعد ذلك، الحكومات، من أجل فهم ما الذي جعلها تغتني. إذا كانت الطبقة الشعبية نفسها تراقب ( تسيطر على ) الأسواق والدولة، فالمعارضة بين هؤلاء والآخرين لا معنى لها.
 - كنت لطيفا جدا مع مال صغار المستثمرين!
    ـ أرفض الاستسلام للابتزاز.عندما يذهب المغول لاحتلال المدن، يستعمل الرهائن كدروع بشرية، نفس الأمر ينطبق على المجموعة الأكثر غنى: رهائنهم هم صغار المستثمرين.
-" لـوم الأغنياء " أليس تحليلا سطحيا؟
     ـ شئتم أم أبيتم، فالتراكم المفرط للمال لدى الطبقة العليا داخل المجتمع هي واحدة من سمات المرحلة. إن انخفاض أو ركود الدخل لدى الناس العاديين يصب في ارتفاع قيمة العملة مع ارتفاع الـدخل بــ 1 % للأكثر غنى، وضمن هاته المجموعة الصغيرة فـ 0,01 % يعود للأكثر غنى كذلك. أما بالنسبة للدولة، فيجب الاعتراف بازدواجيتها والاستناد على ما هو متميز في الماركسية لفهم ما يجري. فالدولة، في بعض الأحيان، هي تجسيد للمصلحة العامة وتعبير للطبقة المسيرة. الدولة الاجتماعية بعد الحرب، أي الدولة الديغولية، فرغم ما يمكن أن يقال عن الحزب الشيوعي، لاسيما أنه تصرف باسم المصلحة العامة، وحقق نموا للجميع. اليوم، فالدولة في المقام الأول دولة طبقية. والرأسمالية المالية تراقب من جديد الدول.
- هل سيكون الوضع أفضل لو كان الأغنياء أقل غنى ؟ بصيغة أخرى ، هل المشكلة أخلاقية أم اقتصادية ؟
         إمـانــويـــل تـــــــــود
      لا يحتوي تحليلي على رؤية أخلاقية. لقد سببَ، حقا، فتح التبادل وتحرير التدفقات المالية، منذ عام 1990، نموا خياليا في عدم المساواة. في هذا الصدد، أُثني على مدرسة بكيتي التي أبدت أن الأعمال المقارنة على المستوى العالمي كانت حاسمة في بزوغ ، حاليا، موضوع 1°/° للولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة. فالتعتيم هو الذي عمل على إظهار هذا النظام، ويمكن مقاربة واقعيته من خلال تحليل الكيفية التي تراقب المجموعة الاجتماعية الجزءَ الأهم من الموارد. في ظل هاته الظروف (الشروط)، فإن السؤال الأساس ليس في هاته الأسواق كما هي، بل في هاته الأوليغارشية وصلتـها بالدولة. ولذلك يجب أن نحدد هاته الأوليغارشية، مع تحليـل بنيتها، نمط حياتها، وتكوينها. 
     -هل يتعلق الأمر بمجموعة خارجة عن الأرض، أي " النخبة المعولمة "، وهو المصطلح الذي أغضب الجميع منذ عشر سنوات؟
     إنه مشهد خارق للعادة (اسْتِشْبَاح ) في العصر الحالي. نعتقد أن التبادل الحر الشمولي أوجد أوليغارشية متعددة القوميات، لأننا نغض النظر عن العوامل الثقافية. نحن لا نعتقد بوجود أوليغارشيات متعددة حيث أن علاقاتها كانت بنيوية وشديدة الارتباط. فالخصوصية التي تتميز بها الأوليغارشية الفرنسية كونها قريبة من الإدارة العليا. وفي غالب الأحيان، أن أعضاءها درسوا في المدارس الكبرى (العليا )– ليسوا بالضرورة ورثة - ، فهم يتكلمون الإنجليزية بشكل جد ضعيف، لا يعتقد أنهم فرنسيون بعاداتهم ( سلوكهم)، ولا يستطيعون إنهاء مسايرة أرباب العمل الحقيقيين؛ إنها الأوليغارشية الأمريكية. فالامتثال (الإذعان ) لستاندارد وبورز وموديز هو امتثال لهاته الأوليغارشية الأخيرة. أما فيما يتعلق بالأوليغارشية الألمانية، باعتبارها الوافد الجديد لنظام الهيمنة، فإنها تعودت (اعتادت ) على مناقشة (مفاوضة )الفرنسيين كأنهم مجرد تابعيين. فالسحر الفريد للأوليغارشية الصينية هو ترابطها الوثيق بالحزب الشيوعي. معظم المحللين يمرون جانبا(مرور الكرام ) على هذا التباين. لقد نمّى اليسار وَهْـــم المساواة في القمة، في حين فاللامساواة يختص بها المتموقع في الأعلى مثل الأسفل الموجود في البنية التحتية للطبقة الاجتماعية العالمية. 
   - إذا لم تستدن (تقترض) الدول، فهي لن تحتاج، ولن يغتني أي شخص، فستسدد ديونها.
 ـ هاته الفكرة تتمة إلى جانب العلامة الإشهارية، لأنها تتجاهل الميكانيزم الحقيقي للدين. يُحَللُ الـديـْن العمومي انطلاقا من وجهة نظر المٌقْتِرض الذي يصبح مذنبا بالإنفاق المفرط دون استثناء. يتعين على الشعوب التسديد لأنهم يعيشون على الائتمان. والحال أنه ليس المٌقْتِرضون من يتحملون في الأساس أصل الدين، بل المٌقرِضون من يرغبون في توظيف فائض أموالهم. كان ماركس يرى جيدا " في يــوم 18 برومَر للـويس بونابرت ( الشهر الثاني في روزمانة الثورة الفرنسية )، أن الأغنياء يحبون الدين العمومي. فالدولة التي تقترض هي الدولة التي، بفضل احتكار الواجب القانوني، تسمح للأغنياء بالحصول على أكبر قدر ممكن من الأمن لأموالهم.  
-   إذن ليس خطأ الحكومات ، بما أنهم سيقوا إلى الاقتراض؟
     باستثناء إذا كانت خياراتهم المالية هي التي تدفعهم إلى وضع ذلك في يد الأغنياء. بَـيَّـنَ فرانسوا شيسنيس جيدا في كتابه " الديون غير الشرعية " كيف أن الأكثر غنى، في فرنسا، استفادوا من خفض ضرائبهم، حتى يُجيزوا لأنفسهم بمنح الدولة الموارد التي هي نفسها – الدولة- محرومة منها. دون أن ننسى المنع الذاتي للدولة لصناعة العملة المقرة بقانون بومبيدو منذ 1973، الذي أضحى، أخيرا، إيديولوجية مدهشة، من خلال خرافة البنك المركزي الأوربي بفرانكفورت، والتي من المفترض أن تكون خارج متناول الدولة الفرنسية. كل عام، يتعرض الفرنسيون للابتزاز، من خلال الضريبة على القيمة المضافة، والضريبة المباشرة، التي تقدر بـ 250 مليار يوروه ، ذلك أن حوالي 50 مليار يوروه من الفوائد تذهب لدى أناس هم أصلا أكثر غنى. ثلثا هؤلاء الأغنياء أجانب، لأن الحفل عالمي، في مقابل ذلك يمكن القول إن الأغنياء الفرنسيين يئسوا من الامتثال للدول والشعوب. هذا ما يخفيه الخطاب التشاؤمي والأخلاقي بشأن الديون التي لا حدود لها، فقرب إفلاس الدولة وضرورة إنقاذ ثلاثية أ، ذلك أن احتمال المنطق الليبرالي للنظام، أضحت الدولة آلة لابتزاز الشعوب من أجل استفادة الأكثر غنى.
ـ الضريبة هي أس الديمقراطية. فعندما تتردد الدول في الوفاء بها، مثل اليونان،هل الشعوب هي الضحية؟
     لا يمكن لي إلا أن أُكرر؛ لقد سيقت اليونان إلى الاقتراض، ليتمكنوا في النهاية من خنقها جيدا. شاهد تلفازك؛ الإشهارات التلفزيونية لا تتوقف عن حثنا على الاقتراض. البنوك، عفوا، الأغنياء يحبون أن يقرضوا. والرباويون (أصحاب الربى) يحبون  التشبث بالممتلكات، إذا لم نتمكن من التسديد. لنخصخص، على سبيل المثال، الأصول المملوكة لليونان.
 -أليست نوعا ما من المؤامرة؟ حتى لو أنهم سيقوا للاقتراض، وهل الزعيم وحده المذنب في الارتباط بهذا التسمم؟
     ـ  إن عالمَ الأوليغارشية عالمُ السلطة والمؤامرات. فمساعدة الدولة اليونانية باستغلال حساباتها، جعل كولدمان ساكس يتصرف بمثابة الربوي ( المٌقْتِرض بالربا). ما يطلق عليه الآن بــ " ساعدوا "اليونانيين هو إبقاؤهم في حالة ابتزاز. فالأزمة في منطقة اليورو لم تخلق أساسا من خلال عدم اكتراث المقتِرضين، ولكن عبر عدوانية المُقِرضين.
   -هاته الأوليغارشية، هل تـعرفها كطبقة اجتماعية، وإذا كان الحال كذلك، هل تتبنى وعيا اجتماعيا؟ 
       تتصرف الأوليغارشية وكأنها طبقة اجتماعية، ولكن في نفس الوقت نشعر اتجاهها باللاعقلانية وحتى بموجة الجنون الجماعي. نتيجة لذلك أتساءل إذا ما يجب الهرولة ثانية لاستخدام التحليل الماركسي للإيديولوجية أو النفسي. ومع ذلك، هناك مجموعة اجتماعية متميزة ليست بالضرورة منحطة وغير مسؤولة. على عكس النبلاء الفرنسيين للقرن الثامن العشر المرتبطين بالإعفاء الضريبي، فإن الطبقات الانجليزية العليا قبلت أعباء الضريبة العالية، فقهروا العالم. فالأوليغارشية الحالية لها ألف مقام على هذا النحو. سيكون من الأفضل، إذا كان هذا المصطلح لا يشير إلى شعارات معادية للسامية، الحديث على تسلط البلوتوقراطي (حكم النخبة الثرية ). لنحتفظ، على كل حال، في الاعتبار أن الأوليغارشية، مجموعة صغيرة، تختلف عن الارستقراطية، باعتبارها الأفضل.
-هاته القلة لن تخسر إلا الطبقات الأخرى. هل اللاعقلانية تفسر كل شيء؟
      ـ إن سلوك الفاعلين يتأرجح بين العقلانية واللاعقلانية. فنقطة انطلاق الأزمة لعام 2008 راجع للاحتكار الصيني وبعض الدول الأخرى، نتيجة انخفاض أجور العمال من جهة، والنمو المتزايد للإنتاج العالمي، الذي سببَ داخل الدول الغنية ضغطا على المداخيل، وبالتالي حصل نقص في الطلب. والنتيجة هي أن الأجور تسير نحو الانكماش، بينما حجم الإنتاج العالمي يتجه نحو الارتفاع. في ظل هذا السياق إن الولايات المتحدة الأمريكية، كقوة مهيمنة نقديا، اكتشفت آلية الرهن العقاري المجنونة. لا تقترض الأسر الأمريكية فقط من أجل اقتناء منازل كبرى، ولكن من أجل مواصلة استهلاك المنتوجات الصينية. فعشية الأزمة لعام 2008، ارتفع العجز التجاري الأمريكي إلى800 مليار دولار. اندهش النظام الأمريكي؛ وبحكم قوة وضعها الامبريالي، اقترحت القانون الكينزي على المستوى العالمي. وبالتالي طُلِبَ من الاستِدانة التعويض عن نقص الطلب. وبطبيعة الحال، انتهت آلية الاقتراض بالابتلاع، والمداخيل مثل الواردات عبر الانهيار. في هذا السياق، أُعدت خطة التحفيز المتبناة من قبل ج 7 وج 8 وج 20 فهي استجابة عقلانية. لنحتفل بانتصار كينز وعودة الدولة.
-هذا ما لا ينبغي أن يزعجك!
       ـ المشكلة هي تلك التي تتعلق بكينزية الأغنياء. لم يتم تمويل الإنعاش (التحفيز)عبر الخلق المالي – طبع الأوراق المالية - ، الذي لن يكلف الدولة شيئا، ولكن عن طريق الديون التي تسمح بتأمين أموال الأغنياء دون بذل أي جهد كبير للإجابة عن نقصان الطلب. هذا الامتداد الكينزي يشجع النمو الصيني، ويعزز كاك 40 ويسرع اللاتمركز بأوربا. لدى حلول " عودة الدولة " الشهير لن يكون هناك أي شيء آخر غير إقامة اشتراكية الأغنياء. يجب على الدولة أن تنقذ الأغنياء، باسم رمزي؛ " البنوك "، لأن البنوك هي التي تسيطر على وسائل التسديد للمواطنين، وكما قال فريدريك لوردان، فـقد رهنت الدولة من أجل حسابات الأغنياء المساهمين. إذا آثرنا تأميمها، فإنه يمكن تأمين مدخرات الناس العاديين، تعويض صغار المساهمين ومعاقبة المذنبين. فحقيقة هاته المرحلة ليست كون الدولة عاجزة، ولكنها في خدمة الأوليغارشية.
-إذا استفاد إنعاش ( التحفيز ) الأغنياء(المٌقْرضين)، هل سيستفيد الفقراء من التقشف؟    
        ـ ما هو مؤكد هو أن الخطاب ضد التقشف الذي جسدته، مثلا، مارتين أوبري فهو قديم جدا. لقد أدركت الحكومات أن سياسات التحفيز لن تنعش(تحفز ) إلا اقتصاد الصين والدول الناشئة. لكنها ترفض أي إجراء حمائي وطني، قطاعي أو أوربي. في ظل هاته الظروف، يمكن أن يظهر التقشف كرفض سلبي سيؤدي إلى نمو الصين، وهو طريق ثالث الذي أنعته بـ " الحمائية الحمقاء ". هذه حقيقة محزنة، كوننا نُحكم من قبل حمقى. يجب على الرجال الموجودين في القيادة أن يتحملوا مسؤولية أفعالهم. وهذا يؤكد، أنني لست ميلونشوسيت (نسبة إلى جون لـوك ميلونشون، زعيم جبهة اليسار والمرشح للرئاسة الفرنسية القادمة)؛ أعتقد أننا في حاجة لنخب من أجل أن تحكم. لا يتعلق الأمر بإزعاجهم، ولكن ليبعثوا من جديد العدل والحكمة. يعتقد كل من باروان وبيكريس، وبسبب انعدام الكفاءة في القمة - وهذا هو الأرجح - أن العودة إلى التوازن في الميزانية يعطي حلولا لكافة مشاكلنا. ومع ذلك، فمن غير المستبعد أن تكون الحكومات طرحت، وعن غير قصد، خيارا آخر. إذا كان التحفيز (الانتعاش ) مستحيلا والنظام الحمائي غير وارد، فإن الحد من نفقات الميزانية لبلدان العجز هو السبيل الوحيد لإخضاع الدول المصدرة وذات الفائض، وإجمالا يجب إجبارهما للدخول في مسار المفاوضات.            
-الانبهار الفرنسي بالنموذج الألماني يسير في مصاف نمو ألمانوفوبيا…
 فضلا عن معاداة السامية وفقه السامية اللذين خلقا روايتين هما زيادة الاهتمام والمرضية المفرطة بسؤال اليهودية، فجيرمانوفبيا (ألمانوفوبيا ) وعبادة (تقديس) ألمانيا هما وسيلتان (طريقتان ) لأن تأخذ ألمانيا الأمور على محمل الجد، وهذا ما أدى إلى تفاقم المشاكل. في بداية الخطة الخماسية، كان لدى نيكولا ساركوزي موقف إلى حد ما ضد ألمانيا، وقد أظهر دليله على ذلك من خلال المرونة في اطرح الاقتصادي. فالاحتفاظ بفرانسوا فييون بقصر ماتنيون وتسمية ألان جوبيه في مقر أورساي كرس عودة اليمين الأورثدوسكي والأفكار الاقتصادية البالية والمؤدبة. لهذا تبنت الحكومة ومجموعة من المثقفين الفرنسيين خطاب تقديس ألمانيا، وهو خطاب خطير حتى على ألمانيا نفسها. خصوصية الشريك جذابة ولكن ملامة (مُنْتَقَدَة )، لقد انغلقوا بإعجابهم بجمالية نموذجهم. الحاجة اليوم ليس التملق لهم، ولكن إيقافهم.     
-ألــم تذهب في بداية إنشاد لحن مقزز؟ خمسون سنة من القوة الألمانية هي التي صنفتها كدولة ديمقراطية قوية.
     ـ لن أنعت قسرا بالديمقراطية دولة تطبق الوحدة الوطنية بكل طيب خاطر أكثر من التداول على السلطة، ذلك، وبناء على الاستعداد الأنتربولوجي للنظام، إن الاشتراكيين الديمقراطيين استطاعوا الوصول بسياسة الضغط للقبول بالأجور. قادت ألمانيا إستراتيجية أنانية بإحكام للتكيف مع التجارة الحرة، وذلك عن طريق نقل خارج منطقة اليورو جزء من صنع المكونات الصناعية، عبر ممارسة مكافحة التضخم التنافسي ضد كل من فرنسا، إيطاليا وإسبانيا، وبعد ذلك تستخدم منطقة اليورو كسوق تتحكم فيه، حيث تمكنت التخلص من الفائض التجاري. هاته الإستراتيجية هي استمرار لتقاليد استبدادية ولا متكافئة بطرق أخرى.
-هل تغامر لتجعلنا خائفين؟ 
   ـ أنا لا أجازف، ولكن يجب أن تخاف. فالدول الخاضعة لمراقبة التقنوقراط والمهددة هي اليونان، إيطاليا، إسبانيا والبرتغال، هي دول حديثة الديمقراطية. فضلا عن ذلك، ومن أجل تأمينهم داخل الفضاء الديمقراطي تم إدماجهم في أوربا وفي منطقة اليورو. ولكن اليوم، وبعيدا عن الاستقرار الديمقراطي الهش، فالآليات البيروقراطية/ المالية عجلت بوضعهم في أسوأ اللحظات وأصعب من لا استقرار في الماضي. نعم فالوضع خطير. إن خطر انبعاث إيطاليا الفاشية، يونانية الضباط (الكولونيلات) ، إسبانية فرانكو وبرتغال سالازار واقع جد حقيقي. أتريدني أن أجعلك خائفا؟ في الديمغرافية، يبدو لي إعادة   ظهور معارضة عام 1930 بين أوربا الشمالية/الغربية للديمقراطية الليبرالية، حيث أن الخصوبة تميل إلى 1.9 أو طفلين لكل امرأة، وفي أوربا الاستبدادية، الفاشية والشيوعية القارية حيث أن الخصوبة جد منخفضة تصل ما بين 1.3 و1.5 طفل.
   ماذا نفعل لو أن ألمانيا قاومت كل المفاوضات حول قدرة تدخل البنك المركزي الأوربي؟ هل نموت من أجل اليورو؟ دعونا لا نبالغ. إذا كان من المحزن أن نرى ألمانيا تُريد إخضاع شركائها من خلال التعصب بالإعجاب الذي يكرسه لها اليمين الأوربي، فإن ذلك لا يعني السقوط في الــدُهان (الجنون ). ألا تتذكر أن الألمانيين لا يريدون سماع كلام عن اليورو، كما لم يتوقفوا، منذ إنشائه، عن تهديدهم بمغادرة منطقة اليورو. لقد أدركت الحكومة والباطرونا أن نهاية اليورو سيضع ألمانيا على المحك، حيث أنها الوحيدة التي رفضت التخفيض. في الواقع، فإن الألمان أكثر مرونة مما لا نتصور. لكن لا يفهمون إلا المفاوضات الصريحة والعنيفة.
 -بالمناسبة لماذا أنت متشبث إلى درجة ما باليورو؟    
 ـ  لست مرتبطا بوجه خاص باليورو. أقول إنه في ظل نظام التجارة الحرة فإن اليورو قُضي أمره. لا أتنبأ هنا بالمستقبل، لكن أصف الواقع. على أي حال، فالرهان الآني ليس اليورو، ولكن أزمة الديون. لنكن صرحاء، فالديون السيادية لن تسدد. لقد بدأت الشكوك أيضا حول القروض الألمانية. لدينا احتمالان؛ طباعة الأوراق المالية والامتناع ( التخلف) عن دفع الديون، حيث سيكون الحل الأفضل، حسب رأيي، حيث نظافة العملية الجراحية نهائيا. فالامتناع عن دفع الديون يسجل بداية إعادة انفتاح الدولة على الديمقراطية المثالية، لأن اختلاس أموال الدولة والابتزاز ناتج عن الأوليغارشية المالية.
    -نعم، ولكن عن" رهون " صغار المستثمرين الفرنسيين والمتقاعدين الأمريكيين، فعدم أداء الديون المتفاوض عليها، ألا يشبه فعلا نهب مسؤول؟   
     ـ ولكن هؤلاء المُقرضين هم من سلبونا. لماذا تركنا النهابين يلتهمون ما تبقى من تراثنا الوطني؟ أما بالنسبة للرهون، أي صغار المستثمرين، بفرنسا ومن أجل حمايتهم، فإن تأميم البنوك أمر حتمي (ضروري)، مع التوقف عن التباكي على صغار المتقاعدين الأمريكيين، فأمريكا تعيش الائتمان على مسؤولية العالم منذ سنوات. فليس صغار المتقاعدين من يمتلكون ثلثي الدين العام الفرنسي. إضافة إلى ذلك، فإن تخلفت(امتنعت ) فرنسا عن تسديد الديون، سيؤدي إلى مواصلة الدول الأخرى الامتناع عن التسديد. في ظل إعادة هذا التوزيع العام، فإن الامتناع عن التسديد سيُلغى أساسا من أجل الاثنين. وسوف تكون بعض الدول خاسرة. وفي النهاية، فإني أؤكد أن المذنب أكثر – دولا وأفرادا - سيعاقب أشد عقوبة.
-هل يمكن أن نفهم أن قادتنا خائفون، أم لا؟
   ـ فضلا عن نهاية الإيديولوجية والفكر المجتمعي الذي أضحى واضحا، وفضلا عن رجال القمة الذين ينتشون في خطاباتهم المهيمنة، فإن ذلك أوجبهم وضع تحت البيع ممتلكات الدولة وخفض الأجور. فالسلطة تلتجئ إلى نوع من الجحود الميونيخي؛ ومن غير الرضى إقامة نظام غبي، فالرجال، المفترض كونهم عصريين وأكفاء، سيتركوننا في حالة عدم الاستعداد من أجل إدارة (تسيير ) انهيارهم. دعونا من التخويف، إنه مجتمع متطور، متخصص بمستوى تعليمي عال وتكنولوجي، فهو قادر بالطبع أن يتكيف بعد انهيار نسقي لهذا النظام. نجتاز سنة صعبة جدا، ولكن مع سرعة تحرير الطاقات والموارد سنتمكن من مستقبل جديد. إن نزع الشرعية عن النخب القليلة الذكاء والفاسدة سيحدث انطلاقة جديدة لبلدنا، وتنظيفا أقل حزنا (ألما ) من تلك التي حدثت سنة 1940، وتنظيفا كذلك بدون قوات مسلحة.  
————-
(*)كاتب صحفي، فرنسا