الثلاثاء، 5 يونيو 2007

قصة: تاء التأنيث المتحركة


قصة:     
تاء التأنيث المتحركة
مصطفى لمودن
            1 ـ دردشة
 * من قرية ظالمة إلى شرنقة حالمة  
كنت دائما أحاول أن أكلمها، كبرنا في نفس المدينة الصغيرة، أعرفها منذ كانت تذهب إلى المدرسة الابتدائية حاملة محفظتها الثقيلة على ظهرها، تروح وتؤوب دون التفات، كأنها نملة جادة تحمل هم مجتمع النمل لوحدها…
   أخيرا أتيحت لي الفرصة… وجدتها بجانبي، لا تفصلني عنها سوى بضع سنتيمترات، أبصر الشاشة وأضغط على" الفأرة " بإبهام يميني… بين الفينة والأخرى أختلس إليها نظرة، فأجدها منهمكة في النقر بأصابعها العشرة بسرعة هائلة… ثم تتوقف لتقرأ، فتبدو على محياها ابتسامة دافئة.
   افتعلت إسقاط قلمي قرب قدميها ، حاولت أن أنحني لآخذه، التفتتْ جهتي وابتسمت أكثر… رددت التحية بأحسن منها، تشجعت وقلت في نفسي هذه هي المناسبة، خاطبتها هامسا:
    ـ الأخت الكريمة أريد أن أتحدث إليك، مدة وأنا متلهف لمثل هذه اللحظة…
   ـ ولماذا يا أخي ؟
   ـ لماذا !..
 ضغطت على شفتيّ وسحبت هواء كثيفا وأضفتُ:
  ـ قد نتعارف، وقد تتمتّن علاقاتنا، وقد… 
     أوقفت بضربة من سبابتها الحاسوب، دارت جهتي بكامل جسدها، قطّبت حاجبيها الدقيقين، وعالجتني بسؤال مختصر كأنه رسالة إلكترونية مستعجلة تحمل خبرا حزينا:
   ـ هل تشتغل ؟
  قلت لها: ـ لا، أخي الأكبر هو من يشتغل من ضمن أسرتنا.
  ـ هو أولى من يتحدث إلي إذن. وأضافت صارخة بلهجة صارمة حتى انتبه كل رواد المحل:
  ـ ألا ترى أنني في دردشة؟
 وعادت تحملق في شاشتها، التقطتُ قلمي، واستأنفت تصفحي باحثا عمن أدردش معها من قارة أخرى.
2ـ رحــــــلة
  * من ضيق الدار إلى أفق الانتظار
 دلفت المقصورة، ألقيت بجسدي المنهك على المقعد، وقد بدأت انتعش بفضل الهواء المكيف للقطار من فرط حرارة فصلية مقنطة… بجانبي شاب وسيم وأنيق،يبدو أنه لم يتخط ربيعه الثاني، خدوده تلمع، ملامحه تفصح عن هويته،يظهر أنه من شرق أسيا وقد نال نصيبه من الطفرة الاقتصادية التي بلغت هناك شأنا رفيعا، تجلس على يمينه فتاة نصف مكتنزة، بيضاء البشرة ، تبرز مساحة شاسعة من صدرها العريض،يظهر حملها واضحا من بطنها المنتفخ، وهو يكاد يمزق سترة رهيفة، تتمدد أكثر وتمد ساقيها، يتطلع الشاب إلى دليل سياحي باللغة الإنجليزية حول المغرب ، يسأل عن البلدات والمدن التي يتوقف بها القطار ، تحاول الشابة أن تعلمه بضع كلمات دارجة، يلوكها متلعثما ويضحك كوليد  اكتشف الحبو، ترد هي بضحك خفيف ، فيميل برأسه على صدرها منشرحا كمن تلقف بلسما لا يفنى لروح متشظية.
   انتبهت سيدة تقعد قبالة الفتاة لطريقة جلستها، فقدمت لها بعض النصائح من وجهة نظرها حول الحمل والجنين والولادة… هي تتحدث والفتاة ترد بإيماءة من رأسها، ما أن حدست السيدة مرور التيار بينهما، حتى بادرتها بسؤال عن رفيقها الذي لا يعرف العربية، ردت الفتاة بسرعة وعلامات فرح طفولي بادية عليها:" إنه زوجي جاء من اليابان، وهو مستقر معنا منذ سنة، بعد ولادتي سنرحل إلى بلاده".
3ـ محاكمة
* من جنس السياحة إلى لبس السياسة
 كن ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو س… العدد لايهم… بعدما وضعن محفظات التحصيل، جئن حاملات حقائب الأمل إلى طنجة أو أكادير أو البيضاء أو س…  الفضاءات تتشابه.
بالنسبة لهن انتهى ردح من الظهر وهن جاريات بين ثنايا الشظف، من أجل المعرفة والرغيف، حققن نصف المبتغى ومازال في الخاطر شغف لبناء ذات مولعة بالحياة ، وردِّ دَيْنٍٍٍ فيما قد فات… تحت الإبط شهادة، وفي اليمين براءة، ومن اليسار إشارة نصر مؤجل، ولسان الحال يصدح بالمصير والمآل.
    "البحر من أمامكن، ولجة العنوسة من خلفكن، وعناكب العفن قسرا حول أعناقكن، إما أن تمددن أياديكن مستسلمات، أو تعدن لأوكار مظلمة خانعات، ما لكن من خيار…"
      هذا ما كان يردده أمامهن الغول باستمرار، وهو فاغر فاه، يصطاد ويعدد ضحاياه، ينقش على صخر الفضيحة فتوحاته الدنيئة، مشعلا نار الفضيحة على أعلى جبل.

           تقول عائشة: "تموت الحرة ولا تأكل من فرجها "… ولما رأت الأخريات منكسات رؤوسهن أضافت:" لن أتحسر على كثير ليس لي، لا أصله.ولا ألوم نفسي على جهد، لم أبذله… أعرف وتعرفون أن الطريق طويل ، والعابر عليل ، والخطب جليل ولكن لا نعدم حيلة…"
     قامت رقية، مسحت دمعة سالت على الخد، تأملت الجالسات حولها، نظرت إلى الأفق الذي لا يرى، وكمن استفاق من غيبوبة طويلة صاحت:
  -" لماذا؟ لماذا كل هذا الإذلال ؟". رفعت صوتها أكثر باستغاثة مجلجلة انتبه لها حتى من في خارج قاعة المحكمة: "وا مغرباه "، قمن جميعا صائحات: "وا مغرباه "، أعدن إلى المعتقل، بأمر من القاضي، وعلقت جلسة المحاكمة إلى أجل لاحق.  
**********
    إشارة : نشرت هذه القصة بجريدة "الصحيفة المغربية" مجزأة على ثلاث مراحل بكل من العدد 123 والعدد128 والعدد 141، وقد تفضل الشاعر والناقد  محمد الشيخي، فكتب  بالعدد الأخير عن الجزء الثاني "رحلة" قائلا: "أعجبت بهذا النص القصصي الجميل، الذي استطاع بالرغم من اختزاله وتركيزه الشديدين، أن يبلغ بنجاح رسالته إلى المتلقي، وأن يحدث أثره الكلي ومتعته الجمالية. الحدث هنا يبدو بسيطا ومألوفا، لكن أسلوب السرد، بإيقاعه السريع والمتماسك، والذي يتجلى في أشكال التقطيع اللغوي بواسطة الجمل القصيرة المتقابلة، وإلغاء أدوات الربط، واعتماد أدوات الترقيم بتنوعها…كل هذا أوحى بدلالات المفارقة وثقل الواقع، والتناقض الحاد بين الحلم والواقع، بين الممكن والمستحيل. كما أثار انتباهي هذا النسيج المتماسك من لغة صافية ووصف وحوار وسرد في هذا الحيز القصير، مما أعطى لهذا النص بناء متماسكا له بداية ووسط ونهاية مفتوحة، توحي ببساطتها المتناهية بأعمق الدلالات والصبوات المستحيلة…أهنئك على هذا النص الجميل