السبت، 18 أغسطس 2007

قصة قصيرة: نزيل في التراب


  قصة قصيرة:        نزيل في التراب
 مصطفى لمودن
       قلت لها سأقضي الليلة فقط، دفعت لها ثمن مبيتي، انصرفت تنقر بعكازها الأرض المزلجة، وهي تردد جمل الترحيب المعتادة…
     تمددت بأحد أركان الغرفة المعتمة، أحاول نفض تعبي، وإعادة مشاهد أحداث اليوم المتوالية…
  توديع أفراد الأسرة والأصدقاء، انسياب دموع الوالدة، العناقات الحارة… إلى ركوب الحافلة… آه على الحافلة! تختلط فيها كل أنواع المحمولات، بشر، أمتعة، حيوانات، تدحرج عجلاتها في هدير يصم الآذان، تقطع خلاء يورث السأم  لفراغه الفظيع سوى من قرى متناثرة تسبح في مساحات جرداء يلفها السراب…
     ما إن توقفت الحافلة في نقطة وصولي، حتى تهافت عليها جمع من الحمالين والسماسرة يعرضون خدماتهم على الركاب قبل أن تطأ أقدامهم الأرض…
     قفزت امرأة سمينة تلتحف رداء أبيض على حقائبي، جمعتها، كبست عليها بساقيها، ثم أمسكت بمعصمي، ونطقت بلهجة حازمة :"ستنزل عندنا، كل شيء متوفر، غرف متهوية… والثمن مناسب  جدا ".
    نظرت حولي، التنافس على أشده من أجل الوافدين، كل واحد تسلّمه رجل أو امرأة،  كأنه طرد بريدي يخصه، المدينة في موسمها السنوي، لافتات كثيرة تعلن عن ذلك، وفرص الرواج لا تتكرر… بلعت استغاثتي، أراحتني المرأة السمينة مما ثقل من أمتعتي، تحركت فتبعتها عبر دروب ضيقة… بباب الدار المقصودة وقفت عجوز مرحبة، دفعت لها الثمن، فقادتني إلى غرفة فارغة.
     هكذا كان، إلى أن وجدت نفسي ممددا على هذا السرير الخشن… ما تزال تفصلني ليلة واحدة على تعييني في عملي الجديد، لم أصدق أنني أخيرا سأشتغل! كيف سيكون زملائي؟ وما نوع العلاقة التي ستجمعنا؟ وما..؟ وما…؟ هل صدفة كان من حظي هذه المدينة؟ واليوم هذه الغرفة الضيقة؟ أحملق في الجدران المبرقعة، تفجرت قشور الأصباغ المتراكمة، منها ما سقط، ومنها ما يزال ينتظر أدنى هبة نسيم، والسقف مثخن بالرطوبة، يبدو كسماء ملبدة بالغيوم… غفوت، فنمت ما تبقى من العشية.
    انتشلتني من نومي حركة أقدام، وإيقاعات نقر على الأرض، إنها العجوز بعكازها، دخلتْ دون استئذان، قالت إنها جاءت تسأل عن حالي… غادرت ثم رجعت، كررت الذهاب والإياب، كل مرة تسألني عن شيء؛ عن عشائي، عن رغبتي في شرب الشاي، عينت لي موقع المرحاض في البيت… أحس أنها فقط تبحث عن المبررات، ربما لتقضي معي ردحا من الوقت في الثرثرة تستطلع أخباري… كل مرة أجيبها بإيماءة من رأسي، أو بأقصر الجمل من وراء جريدتي التي لم  تتح لي الفرصة  لقراءة محتوياتها.  
 جاءت مرة أخرى، قعدت قبالتي على مرمى همسة، وضعت عكازها بجانبها، وسألت : "من أي بلاد الله أنت؟"                      
        وضعت الجريدة جانبا، واستويت جالسا على حافة السرير الواطئ:"من مدينة س. ـ قلت لها ـ ".
    حركت رأسها ببطء،  وأطرقت إلى الأرض تداعب عويدات الحصير بأناملها الجافة، دون أن ترفع رأسها، سألتني :"جئت وحدك ؟"
  ـ نعم.
 ـ هل ستبيت هنا ؟
    ـ هذا ما قلته لك، هل من جديد ؟
أحسست أن في الأمر شيئا غير عادي، أجابت:    ـ "لا، لا، فقط سألتك "   
 دارت بوجهها جهة الباب، حملت فردتيْ بلغتيها الموضوعتين بجانب الحصير، لتعيد وضعهما على شكل لائق، دار رأسها بسرعة جهتي، حملقت في وجهي وقالت:"هل ستبيت وحدك ؟"
      ـ وما الضرر في ذلك ؟
      ـ إنك ما زلت شابا ألا تخف ؟
      قلت مستنكرا:"مما ذا أخاف وأنا عندكم؟"
     ردت: ـ "إنك في دار الأمان، ولن يمسك سوء". 
    سكتت قليلا ثم أردفت: "ألست في حاجة لامرأة تؤنسك؟"
      لم أجب، فعادت سؤالها بنبرة حادة، كمن يريد إنهاء الموضوع.
      بعد تردد قلت لها :" ومن أين لي بها؟ إنني لم  أتزوج بعد ".
   ـ وهل تريد أن آتيك بواحدة ؟
لم أرد، سمحت فقط بتسرب ابتسامة تعجب صغيرة.
    قالت : "هل رأيت تلك التي كانت تتمشى في الباحة؟".  
 حركت رأسي معلنا الإيجاب، رغم أ نني لم أ ر أي واحدة.
     بحماس فياض قالت : "هي لك الليلة إذا أعجبتك". ورفعت عقيرتها منادية، فأوقفتها قبل أن تتم كلمتها، ارتفعت حرارة جسدي، واشتد ضغط الدم في شراييني، ظننت في البداية أن المرأة تمزح… فهمت الآن أنني أخطأت العنوان، بل إنه فعلا الموسم السنوي للمدينة! حاولت أ ن أُفهم المرأة أنني لم آت من أجل المتعة، كأنها لا تسمع قاطعتني :"إذا لم تعجبك آتيك بأخرى ". ولما تأكدت من رفضي جميع عروضها، تقطب جبينها، وبرزت تجاعيد وجهها. وقامت هائجة تردد: "أنتم أولاد اليوم لا تفهمون… أنا من يعيلني؟ وهي من يعيلها؟ والأخرى من يطعمها؟ والأخرى؟ والأخرى؟…"
    ما كان علي سوى مغادرة المكان، فسمعتها تصيح من وراء ظهري:"إياك أن تختار بيتا آخر لغيرنا…"
   ألقيت بجسدي وحقائبي في الزقاق الضيق، كانت المصابيح العمومية قد أنيرت، فركت أجفاني، أجساد نسائية نصف عارية، تتزاحم على الأبواب، أو تطل من النوافذ المشرعة، شعور مسدولة، وصدور شبه عارية، وسيقان تلمع… كل واحدة تقوم بحركات توقظ شهوة الجسد، وتدعوني بإلحاح إلى الدخول… أرى الزقاق طويلا فمائلا، فمنعرجا، من المارة من يضحك، ومنهم من لا يعبأ، ومنهم من يلبي… والشهب الاصطناعية تنبعث من وسط المدينة، لتحدث مهرجانا من الأضواء في سماء حالكة.    
ــــــــــــــــــــــــــــ
سيدي قاسم 1994     


   نشرت بجريدة "الصحيفة المغربية" عدد: 68 بتاريخ 6 دجنبر 2006