الثلاثاء، 16 مارس 2010

حــــالــة 2 تتمة لحالة 1


حــــالــة 2
مصطفى لمودن
حالتك لا تختلف كثيرا عن بقية حالات كثيرة مشابهة، كنت عندما تقصد المكان المعلوم، تجد أمثالك ينتظرون بدورهم، هناك من يوقدون نارا عليها يستدفئون، وهناك من يكوّنون جماعة صغيرة ملتفة يتحدث أفرادها بصوت منخفض، لم تكن لك رغبة في معرفة الموضوع الذي هم فيه منهمكون، كنت تعرف أن قضيتهم قضيتك، ولكن لا تريد حسب أخلاقك العالية أن تصبح متطفلا، كنت تقول لو أرادوا إشراك أحد آخر لنادوا عليه، وعلى أي لم تكن مكثرتا بالأمر، لو كان في الأمر شيء مهم سيعرف الباقون، وأنت طبعا واحد منهم… الآخرون، كل المنتظرين، منهم من يتكئ على جدار، ومنهم من يجلس على الطوار… الجميع ينتظر، تنضاف أنت إلى المجموعة المنتظرة، تعرف أن كل واحد يعرف الآخر، كأنكم جماعة واحدة، رغم أن كل فرد قادم من وجهة معينة، لكل  ظروفه الخاصة به، غير أن ما يجمعكم جميعا هو المكان والهدف المشترك، أحينا تتبادلون الحكايات بعفوية لا يمتلكها غيركم، ليس لكم ما تخفونه، أغلب المتحدثين يتكلمون عن أنفسهم، أصلهم، تاريخهم، طفولتهم، الأبناء والجيران، والرغبات الصغيرة والكبيرة، والأحلام الموءودة، منكم من يتحدث عن كلام في السياسة، تصغون له بتمعن، تشعر بأن لكم تقريبا نفس الآراء والمواقف، لكن يمكن أن تكون للبعض أحيانا أراء أخرى، تتحدثون عن الانتخابات والأسعار والأحزاب، وآخر الأخبار الدولية، ولا ينسى بعضكم الحديث عن الكرة والبارصا والريال، والرجاء والوداد… في السابق كلما انضم إلى جماعتكم رجل جديد، تعرفون بسرعة من أين جاء وما هي أحواله، وهل يستحق أن يدمج بسرعة في جماعتكم الواسعة، هل يحق له مشاركتكم لعبة الورق المحببة لكم، هل يمكن أن تدعونه لحفلاتكم الخاصة، أو أن تبقى درجة الارتباط به في حدود المكان المعلوم، إذا كان لا يستحق ثقتكم…
 لكن بعد ذلك لم تعودوا قادرين على التعرف على كل من يحضر، حتى كلمات المجاملة الضرورية لم تعودوا توزعونها فيما بينكم جميعا، تتساءل مع نفسك؛ كيف تغيرت الأحوال فجأة؟ بل تطرح أسئلة أعمق؛ وكما تتذكر دائما، في الأول كنتم الرجال فقط، فيما بعد انضافت بضع نساء، تنقلب المعادلة وتصبح النساء أكثر من الرجال! تحاول أن تجد تفسيرا، هل الرجال انزووا بعيدا وتركوا المكان للنساء؟ هل استطاع الرجال أن يجدوا بديلا فاستغنوا عن القدوم للمكان المعلوم؟ وذلك قبل أن تكتشف معطى جديدا لم يكن يخطر لك ببال.
تتذكر يوما عندما صعدتم قبل الفجر شاحنة، توجهت بكم نساء ورجالا إلى ضيعة بعيدة، هناك على ربوة تعرف ضبابا ورذاذا خفيفا كل صباح، هناك حيث تعمل أصابعكم بقوة قبل أي جزء آخر من أجسادكم، يريد مشغلوكم دائما أن تخدموا بأصابعكم وأيديكم وتتركوا عقولكم جانبا إلا لغرض واحد، وهو تشغيل الأصابع والسواعد لإتمام العمل الذي أنتم فيه..
  في الشاحنة تتزاحم الأجساد، تتقارب، تتكاثف، تتداخل… والبرد
 يلسع الوجوه، والأسنان تصطك من برد لا يرحم، لا يختلف في قساوته عن "الشاف"، بدوره لا يرحم، يصعد فوق مقصورة الشاحنة ويوزع نعوته النكراء على الجميع، يلعن من هنا وهناك، بل يسب ويشتم، تسمونه "جيرا"، مسير الضيعة، ضخم الهيكل، وجه أبيض مستدير، له شارب كث متدل…
من أول يوم أمرك أن تحمل الصندوق الحديدي المربوط على ظهرك، وأن تمر بين الخطوط كباقي الحمالين، ليفرغ لك الآخرون ما جمعوه من عناقيد العنب، وعليك بسرعة أن تقصد الشاحنة، أي شاحنة أفرغت حمولتها وعادت، تصعد سلم حديديا وتفرغ بحركة نصف دائرة محتويات الصندوق الذي على ظهرك، ليتكلف عامل أو عاملان بتسوية العناقيد المتراكمة، وهم يعسفون بدون رحمة على حباتها الناضجة، "والشاف" يصيح من أعلى شاحنة متوقفة بجانب الحقل تنتظر دورها… قبل أن ينصرف على متن سيارته إلى وجهة لا يعرفها أحد، تاركا "شافات" آخرين أصغر منه يراقبوننا باستمرار…
 من جانب الشاحنة وأنت على آخر درجة من السلم الحديدي يترأى لك العمال والعاملات الذين يجنون العنب كنمل صغير يتحرك ويتقافز… الجميع من أجل جمع أكبر قدر من المنتوج ونقله إلى إحدى المعاصر، من أجل جني أرباح لا يصلكم منها شيء، فقط أجركم الزهيد الذي تنالونه كل خمسة عشر يوما، وضجيج الشاحنة التي تقلكم كل صباح مساء، وانتم تتمايلون بأجسادكم كلما دارت إلى اتجاه.
 ساعة بالتمام لتناول وجبة الغذاء، يحسبونها بالدقيقة، ثم تقومون إلى قرب مغرب الشمس، وسفر من جديد، أوبة إلى المنازل والبيوت لأخذ قسط من الراحة، والقيام في الهزيع الأخير من الليل، تقول عن ذلك في نفسك؛ هل نحن آلات من حديد؟ حتى الحديد، من شاحنات وجرارات ومضخات… تراهم عاكفين على الاعتناء بها أو إصلاحها أو وضعها في جانب مخصص لها… عكس البشر كما تؤكد ذلك لزوجتك باستمرار…
لماذا قل الرجال في الموقف؟ تتساءل؟ لم تعد تجد بعض زملائك السابقين، حينما تأتي باكرا كعادتك، تحملق في الوجوه، تتحرك بين الواقفين والجالسين والمقرفصين، لعلك تجد أحد معارفك القدامى… هل أنت فقط من بقي من الجيل القديم؟ هل أنت وحدك من كان نصيبك هذا الشقاء الذي سيلازمك طول عمرك؟ هل اغتنى الآخرون أم وجدوا شغلا آخر يغنيهم عن القدوم للموقف وانتظار ما قد يأتي وما قد لا يأتي، أحيانا تظل تنتظر من يأخذك لعمل، من يطلبك لشغل، من يضيفك إلى من اختارهم أي رب عمل أو تاجر خضر أو راغب في كنس حظيرة حيوانات أو … لكن تلاحظ أنهم يختارون نساء أولا ثم شبابا أصحاء في مقتبل العمر… وأنت لا يعيرك أحد اهتماما، أنت متأكد من قدراتك على العمل، متأكد من صحتك التي ما تزال تملكها، هي كل ما تملكه، لكن لا ينادي عليك أحد إلا في بضع المرات القلائل، أو يعتذر لك أحدهم، فيقول، لقد اكتفينا، حتى لمرة قادمة… ورغم ذلك تصر على الاشتغال، ليس لك منه بد…
 وأخيرا لما قررت البحث عن بقية رفاقك السابقين، علمت أنهم فقط غيروا المكان! وكما ذكر لك زميل لك في مختلف الأعمال الشاقة التي تخوضونها باستمرار، لقد مللنا تلك الأشغال، وطريقة اختيارنا من قبل مشغلينا، ألم تلاحظ أنهم لم يعودوا يرغبون فينا؟ ألم تلاحظ أنهم يفضلون البنات والسيدات؟ إننا نعرف السبب كما تعرفه أنت، لهذا غيرنا المكان، لكن تأكد أنها نفس الأشغال الشاقة، لكن بأسلوب آخر، عليك أن ترافقنا لترى…
وهذا ما كنت تنتظره، وصلت بدورك باكرا إلى المكان الجديد، وبدوره المكان لا يختلف عن كل الأماكن التي يقصدها طالب شغل يومي، طبعا ليس فيه قاعة انتظار أو كراسي أو حتى حصير ممزق… على مدخل المدينة، بجانب الطريق، وكالعادة هناك من يبقى واقفا وهناك من يجلس ممددا على التراب… في انتظار مشغل من نوع آخر، هذه المرة تقوم الأشغال على الحمل أو الوضع، حمل السلع أو وضعها، من أكياس مختلفة الأشكال والأحجام؛ دقيق، سكر، قمح، أسمدة… آجور، إسمنت، حديد البناء… وليس للعمل وقت محدد، يمكنك البقاء هناك طول اليوم، وكل مرة يأتي صاحب شغل معين، تتناوبون فيما بينكم، هناك من يصعد الشاحنة ويذهب للعمل، وهناك من يبقى ينتظر دوره مع مشغل آخر…
 تتعجب؛ ليس في هذا العمل نساء، كيف؟ تتساءل مع نفسك، هل هو شاق فعلا؟ كل الأعمال شاقة؟ كل الأعمال تتطلب منكم جميعا جهدا وعناء، وتضيف متسائلا، هل سيأتي الدور على هذه الأشغال، لتؤمها النساء والفتيات في مستقبل قريب؟ أم ستبقى من اختصاصكم أنتم الرجال، ما دامت فيكم قوة،ولديكم عضلات تستجيب، تبسط كفك وتتأملها، ليس لقراءة خطوطها، تعرف أنها لا تحمل جديدا، وأنت من طبعك لا تتق في خرافات لا تسمن ولا تغني من جوع ولا توفر دقيقا أو زيتا، ولكن لترى مقدار تلك الشعاب التي خطت لها منعرجات على كفك، تظهر لك كوديان تقود نحو مجهول، أو نحو مغارة دون نهاية، وتقول مع نفسك، إنني أعمل وأشقى وأتعب لأضمن قوت أبنائي بعرقي، أعرف أن ما أعطى من اجر هو هزيل جدا، اعرف أننا ضحية قانون سوق همجي لا يعترف بالضعفاء مثلك، ورغم ذلك تعود إلى بيتك المتواضع مساء، إلى حضن أسرتك بكامل شرفك ونخوتك وعزتك…