الخميس، 30 مايو 2013

انتصار الضحية على الجلاد/ ذ. الطاهر محفوظي

انتصار الضحية على الجلاد

الطاهر محفوظي


(المدونة: الأستاذ الطاهر محفوظي من المعتقلين السياسيين في المغرب، وقد  نشر تجربته الإنسانية البليغة في كتاب "أفول الليل".. هذه الورقة ألقاها الكاتب/المناضل في المقر الجهوي لوزارة الثقافة بالدار البيضاء احتفاء بكتابات الاعتقال السياسي)
*************
شكري وامتناني لمختبر السرديات ونادي القلم المغربي والجمعية البيضاوية للكتبيين على تنظيم هذا الحفل الجميل .
لم يكن السجن ومخافر الشرطة مليئة فقط بالعذاب والمعاناة، فقد كان هناك حيز من السخرية والضحك، لقد انفجرت ضحكا في وجه قاضي التحقيق حينما واجهني بتهمة قلب النظام والتآمر واخبرني منتشيا انه سيكون لدي الوقت الكافي في السجن لأضحك. وفعلا ضحكنا كثيرا في السجن ولا زال القاضي النكرة عبوسا، أم هل يا ترى مات منسيا .
في مخفر الشرطة تواجد معنا قاتل اعترف بجريمته الأولى وينكر الثانية وحينما سمع أننا طلبة وتلاميذ وأستاذة معتقلون بتهمة سياسية صرخ: " أيها الشرطي أخرجني من هنا هؤلاء خطر " .
وضحكنا كثيرا حينما أخذ تلميذ يشرح لقاضي التحقيق الثاني أن هناك الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والاتحاد المغربي للشغل والاتحاد المغربي للمهندسين والاتحاد الوطني لطلبة المغرب فصاح فيه القاضي المفروض فيه المعرفة " كفاني من الاتحادات، أنا لا أعرف إلا الاتحاد الوطني !"
لماذا نكتب ؟
 - لحفظ الذاكرة، حتى لا يجيء لصوص وجلادون وسجانون ومؤرخون رسميون ومنافقون وانتفاعيون ويشكلوا عصابة لكتابة التاريخ والكذب علينا وعلى الناس وعلى التاريخ .
- الشهادة على حقبة معينة من تاريخ المغرب الحديث بالتوثيق، بالأسماء والأماكن والأشخاص مع ذكر المحاكمات والقضاة والمحققين .
- تكريم عدد من المناضلين الذين ناضلوا في صمت ونكران للذات وتواروا بعيدا عن الأضواء فاسحين المجال أمام الآخرين للتسابق نحو الأبواب الكبيرة بشاشية حمراء، والوقوف أمام الكاميرات إن لم يكونوا في رحلات خارج الوطن للدفاع عن حقوق الإنسان...
 - تأكيد المفارق البسيطة: يبقى الرجال ويذهب السجان والجلاد، يجمع المناضل ذاكرته يداوي جراحه، يلملم أطرافه ويواصل سيره بطرق شتى مرفوع الرأس يشارك في كتابة التاريخ وتقدم الوطن والبشرية والدفاع عن المبادئ الإنسانية. أما الجلاد فقلما ينهض، تعذبه ذكرياته ولا مجد له ولا تاريخ و لا قضية، كالمرتزق، هل سمعتم بمرتزق شهيد؟ أو مرتزق شاعر أو مبدع؟
في البدء كانت الكلمة، ربما على شكل صيحة مدوية في الغابات والقفار والمستنقعات، صيحة الإنسان الأول أمام جبروت الطبيعة وشراسة الحيوانات المفترسة، بعدما اكتشف الإنسان النار والحروف، سكن المغارات والكهوف، ثم جاء زمن الاستغلال وصار عدوا لأخيه الإنسان وهل هو أخوه؟ لنقل تلطفا شبيهه الأكثر ضراوة وقساوة...
منذ القدم حار البشر ووقفوا مشدوهين وجلين ومرهوبين أمام ظواهر الرعود والبروق والزلازل والخسوف والبراكين، ونفس الشيء إزاء الموت والجنون والسجن لما يمثله هذا الثالوث المرعب من جبروت لا غالب له... تعامل الإنسان مع كل هذه الأقانيم غير المقدسة بخوف شديد لا زال ساريا حتى الآن وسيستمر قرونا وإلى الأبد، بالمناسبة ما معنى الأبد؟ !
خلال فترة الاعتقال التعسفي والاختطاف والاحتجاز الغير قانوني، وطوال ساعات التعذيب الجسدي والمعنوي كنا وجها لوجه مع الموت والجنون، مع سادية الجلاد وفظائع السجن وخبث وقسوة السجان.
كان الغرض تحطيمنا وكان لزاما علينا الصمود رغم انعدام تكافؤ الفرص. كنا نخبئ الأحلام والأسماء والعناوين والأسرار بين الضلوع، نتمسك بالأمل في مواجهة الألم، نعض بالنواجد على جرحنا كما يعض السوط والقيود على لحمنا، لم نشتك، وممن في هذه الحال نشتكي؟
كانت الضربات ضريبة، فرض كفاية وقربان لآلهة القتل والتدمير الوحشي، كان الوقت إعصارا وكنا في عينيه، كنا أناسا لنا حلم وجنون وكان جلادنا جزءا من آلة جهنمية تعمل دون حلم ولا حلم ولكن بكل جنون الجنون، وهنا كنا متساوين....
فوق قمة الألم صادفنا الجنون وأقمنا معه حلفا شروطه مجحفة، في اليوم السادس والثلاثين من الإضراب عن الطعام رأينا شبح الموت يزحف نحونا بخبث وثبات كضبع جائع ينتظر الفرصة للانقضاض على فريسته... لكننا كنا فريسة مرة تأبى الاستسلام، أحصنة جامحة ترفض الخضوع تشد على الجرح النازف وتقف لتقاوم وتنتصر... ما كان لنا من خيار، فإما الانتصار أو الانتصار... ووحدها الضباع نزلت مهاوي الاندحار، يحفها النسيان، لعنة التاريخ وأكاليل العار.
لقد واجهنا كل هذا الفيض الموغل في العدوانية والسادية بقوة الإيمان في عدالة القضية، ومن أجل الانعتاق من التسلط والاستبداد، ومن أجل غد أفضل لعموم الشعب وخصوصا الطبقات المحرومة ...
في مخافر الشرطة السرية والعلنية وكذا بالسجون، تغدو كلمة طيبة من سجان بطولة، ومنحنا كسرة خبز مجازفة، وابتسامة متواطئة هدية وتضامنا وتشجيعا، يتحول صوت رفيق آت من وراء جدار سميك حصنا منيعا ونشيدا يدعوك للتشبث بالمبادئ والانتصار للقيم الجميلة والنبيلة والصمود حتى الموت.(في العشرين من العمر يكون المناضل أقوى من الموت والجلاد والسجان، لا يخشى شيئا، لا يهاب أية سلطة أو أين كان...).
كان بإمكان خبر سعيد أو رسالة رقيقة مشفرة أن يفتحا كوة باتجاه الشمس ومعانقة النجوم وتحطيم الأسوار... في أحلك اللحظات وأقساها كنا نقاوم بما تبقى لنا من أسلحة: الأنفة والصمود والإضراب عن الطعام والسخرية:" إن السخرية، يقول امبيرطو ايكو، هي أداة للبقاء على قيد الحياة". فما بالكم إذا كان هذا البقاء في شروط رهيبة مضادة للحياة.
كتب التاريخ ملأى بأسماء الأدباء والشهداء، فمن يذكر شاعرا عظيما أو كاتبا خالدا مقرونا بالحاكم المعاصر له؟
نتذكر اسم سقراط، لكن النسيان أكل قضاته الذين حكموا عليه بشرب السم.
نتذكر بحب وإجلال الفقيه البصري ومحمد بنونة، العمرين دهكون الباسق وبنجلون العملاق، والحنصالي وكان فيلقا لوحده، وأسد الريف الأمير المناضل، وفاطمة أوحرفو وأختها وأبوها وقبيلتها حين قرر الطغاة معاقبة الأطلس المتوسط بكامله للترهيب، وكانت نكبة الزيانية تشيب لها الولدان. نذكر المهدي الباسل وسعيدة رفيقة الرجال، نذكر الحسين المانوزي، بل كتيبة المانوزيين، نذكر زروال ورحال، نذكر إبادة الريف وشموخ الأبطال في مواجهة قنابل الغاز والاحتلال وجبروت دعاة الاستقلال... فمن يا ترى يتذكر شخوصا كانت تعتقد أنها شخصيات وهي في مجرى التاريخ نكرات، من قضاة باعوا ضميرهم وطبقوا تعليمات عوض النصوص رغم أنها كانت قاسية... لقد تكفل النسيان بهم وطواهم كخرقة قذرة: محمد اللعبي، افزاز، بوعشرين، الدليمي، الطيب الشرفي، محمد بن جلون، المكي- نو- الشريف، العراقي...
والآن وهنا ودون حقد أو ضغينة، لكن دون نسيان، فلا الشهداء تنازلوا عن دمهم ولا الضحايا قايضوا بذاكرتهم الموشومة بالسوط والحرمان المشوبين بالإرهاب والألم، نصر على أن كتاب "أفول الليل" كباقي كتابات الاعتقال السياسي التعسفي والاختفاء القسري هو انتصار الضحية على الجلاد، هزيمة الجبروت أمام الحق العنيد، تحية مدوية لمن عذبوا وقتلوا ولم يتركوا شهادة ولا شاهدة على قبورهم، ولا قبر لهم في وطن وهبوه كل شيء حتى أرواحهم وحرموا من تكريم وهم أحياء ومن لحود وهم شهداء، قوافل الشهداء في حبس قارة، سجن الجزيرة بالصويرة، دار بريشة، بولمهارز، قصور مراكش، ثكنات خنيفرة، ومكناس والرباط والناظور، قصر السوق، تازمامارت، اغبالونكردوس، العذير أكدز، قلعة مكونة (عاصمة الورود) الكورييس، لعلو، اغبيلة، السجن المركزي، عين علي مومن، درب مولاي الشريف، المعاريف، الساتيام، ضيعة مازيلا، دار المقري، تكونيت، ثكنات الوقاية المدنية المخزنية ضد الانتفاضات الشعبية، النقط الثابتة : PF4,PF3,PF2,PF1 الخ... لنا الأسماء المستعارة النضالية ولقوى التسلط والاستبداد مثلها، ياه كم هي عديدة أماكن الرعب على امتداد أجمل بلد في العالم !
في السجن، ومن أجل إركاعنا وتحطيم معنوياتنا، وهذه هي وظيفة السجن أصلا، منعوا عنا أشياء بسيطة وجميلة لكن حيوية: الموسيقى، الراديو، التلفاز، الشمس، الساعة، الجرائد، الكتب، التطبيب، الدراسة، وسلطت الرقابة على رسائلنا وكتبنا وزيارة أهلنا وأصدقائنا، وكتاباتنا وأشعارنا وصورنا...
ومع ذلك وضدا على هذا المنطق اللامنطقي، صمدنا وخرجنا لنشهد على كل هذه الفظاعات...
لقد أطمر حبس قارة، حطمت جدران تازمامارت، انتهت صلاحية درب مولاي الشريف واغبيلة ودار المقري ولعلو احتلت النوارس والنسور جزيرة موكادور، وامكونة لم تعد تحتفل إلا بشهر ماي الوردي وبالفقر باقي الشهور وتتذكر مرور فتية من أهل الكهف الحديث من بني هاشم ومقاومي الصحراء وجيش التحرير...
وكما الأنبياء وطائر الفينيق، يأت الشهداء للاطمئنان على أرواحهم وعلى شجرة الزيتون والأركانة، وتضميد جراح الأطلسيات والريفيات المرسومة على وجوههن كالوشم لا تزول... كما الإباء والإصرار، شامخات كطبقال، جميلات كالحق، أرزات باسقات يخجل المجد من قاماتهن...
هل كنا على خطأ عندما واجهنا التنين في عز صولته ونيرانه تحرق الأخضر قبل اليابس، ساعتها دخلت الضباع والذئاب جحورها وقال حكماؤها،"يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم" فجند سليمان سيدكون دوركم وهم عنكم غافلون، لكن خلفاء سليمان لم يكونوا غافلين، بل واعين وهم يدوسون على الرقاب بحقد عيونه مفتوحة على مصراع القسوة والإجرام مع سبق الإصرار.
"باق يا شعبي وعمر الطغاة قصير" يردد مع محمد مهدي الجواهري محمد القاسمي الذي فقئت عيناه وانتزعت خصيتاه وتكسر فكه ذات ربيع حين اجتاح الجراد خنيفرة الصامدة...
ومع ذلك لم تذهب نضالاتنا هباء بل حققنا مطالب أساسية كالحق في الدراسة والتطبيب والزيارة المباشرة وكم كنت مسرورا حينما اتصل بي سجين خلال برنامج إذاعي ليؤكد أن كل الامتيازات التي يحصل عليها سجناء الحق العام هي بفضل كفاح المعتقلين السياسيين، واعترف محمد أمين الركالة أنه مدين لليسار بمنحته التي سمحت له بإتمام دراسته الجامعية، إذ أن نضالات اليسار ( الاتحاد الوطني لطلبة المغرب والنقابة الوطنية للتلاميذ ) فرضت على المخزن تعميم المنحة على كل الطلبة .
سأظل والوقت وقت حرث وزرع وفيا لمحراث أبي الخشبي، وله وللأرض التي عشقها كفلاح فقير، وفيا لوالدتي ربة البيت الفلاحة المكافحة... وفيا لجذوري التي علمتني الإباء والكبرياء، ولن أنحني وأعبر للضفة الأخرى منبطحا وفوق رأسي شاشية، فلا يمكن للمرء أن يخون ثم يظل واقفا، وليذهب إلى هناك حيث الرطوبة النتنة التي لن تخفيها لا عطور الغرب ولا بخور الشرق، رائحة تنبعث من بعيد تجتذب كواسر الجيفة وبنات آوى وما عاف السبع.
ويقودني المحراث الخشبي والوقت خريف، إلى الحديث عن جرار شغل الدنيا والناس، ليس كل الناس، أثار زوبعة من غبار، وأعجب كل العجب، كيف استطاع أن يحرث ويزرع ويحصد ثم يدرس في أسبوع واحد ويجمع كل الغلال والمحاصيل ولما يصل الشتاء ولا الصيف...
والجرار كما هو معلوم هو للحرث لكنه تحول إلى آلات متعددة الاختصاصات، كما في الرسوم المتحركة اليابانية، إنه زمن الأسطورة والمعجزات...
وكما لنا سوابق تشرفنا ولا نخجل منها، للمخزن سوابق في هذا الميدان ألم يهزم فرس انطلق متأخرا في السباق كل الأحصنة في السبعينيات وحتى الحمامة انتصرت على كل الحيوانات المحترمة قبل أن يتطاير ريشها لما مر الجرار المعلوم قربها...وعلى أي فالجرار الأزرق أقوى من كل الحمام، بل فيه مئات الأحصنة...
لا تأسى على عذر الزمـــــــان لطالما
رقصت على جثت الأســـود كلابــــــا
لا تحسبن برقصها تعلو على أسيادهـا
تبقى الأسود أسودا والكلاب كلابـــــا
-----------------------
الدار البيضاء في 06/02/2010
---------------------
نشرت بموافقة الكاتب،



ليست هناك تعليقات: