الثلاثاء، 10 ديسمبر 2013

الفلسفة والأدب/ العباس جدة (*)

الفلسفة والأدب
العباس جدة (*)


     كيف يحق لنا أن نتحدث عن صلة الفلسفة بالأدب، في حين أن هناك تمايزا بينا بين الإنتاج الفلسفي والإنتاج الأدبي بين الخطاب الفلسفي والخطاب الأدبي؟
     فإذا كان العمل الأدبي والفني يرمي إلى إشباع الذوق، فإن العمل الفلسفي يعمل على الاهتداء الى المعرفة ويسعى إلى الحقيقة؛ إذا كان الخطاب الأدبي يتوجه إلى وجدان المتلقي ويحفز مشاعر الإنسان، فإن الخطاب الفلسفي يروم إثارة ذهن المتلقي ويطرح السؤال؛
    يحق لنا أن نتحدث عن صلة الفلسفة بالأدب، في حين أن هناك تمايزا بين الإنتاج الفلسفي والإنتاج الأدبي، بين الخطاب الفلسفي كيف وإذا كان الإنتاج الأدبي يبحث عن الجمال ويهدف إلى تحقيق المتعة الفنية الخالصة والاستجابة لميل الإنسان لكل ما هو نبيل وجميل، فإن الإنتاج الفلسفي يستحث ملكاتنا العقلية والمعرفية ويدفعنا إلى مراجعة قيمنا وأسلوب تفكيرنا وطريقة عيشنا. ويميز شوبنهاور في كتابه " الفلسفة وعلم الطبيعة " بين الفيلسوف والشاعر قائلا: " إن ما يرمي إليه الشاعر من وراء إنتاجه الفني هو إتحافنا بمجموعة من الصور اللفظية التي تصور لنا أشكالا من الحياة، ونماذج مختلفة من المواقف البشرية وأنماطا متنوعة من الشخصية، وإن كان في وسع كل واحد منا من بعد أن يفسر تلك الصور الفنية وفقا لما يتمتع به من مقدرة ذهنية خاصة. أما الفيلسوف فإنه يصور لنا الحياة على هذا النحو، بل هو يعرض علينا أفكارا مكتملة واضحة المعالم، استطاع بقدرته العقلية المتميزة أن ينتزعها من صميم الحياة. والواقع - يستطرد شوبنهاو- أن الشاعر أشبه ما يكون بالرجل الذي يقدم لنا مجموعة من الأزهار، في حين أن الفيلسوف أشبه ما يكون بالرجل الذي يضع بين أيدينا خلاصة رحيق تلك الأزهار."
    ولكن لو رجعنا إلى تاريخ الفلسفة، لتحققنا من أن الصلة كانت وثيقة بين الفلسفة اليونانية وبين الأدب، أو بين الميتافيزيقا والشعر. ومن هذا القبيل مثلا ما رواه بعض مؤرخي الفلسفة عن السوفسطائيين، من أنهم كانوا يستشهدون بهوميروس ويلتمسون من أشعاره تأييدا لمذهبهم. فنحن نعرف كيف أن أنكسمندر قد صاغ معظم آرائه الفلسفية في عبارات شبه شعرية؛ وهذا بارمنيد زعيم المدرسة الأيلية قد نظم قصيدة طويلة رائعة يعبر فيها عن أفكاره الميتافيزيقية. ويعتبر أفلاطون الفيلسوف الذي مزج بحق بين الشعر والحوار المسرحي والفلسفة في أسمى صورة. وما علينا إلا أن نعود إلى محاوراته، لنتبين ما تحمله من قيم فلسفية مصاغة بلغة فنية وفي صور بليغة وجميلة. ونجد لدى فلاسفة الإسلام اهتماما بالتعبير عن المعاني الفلسفية بأساليب شعرية وفنية، وهذا ما فعله الفيلسوف الأندلسي ابن طفيل في روايته " حي ابن يقظان" بما يعرف به  فن الرواية من عناصر أساسية كالرمز والتلميح والصور الفنية. كما وجد بين مفكري الإسلام فلاسفة أدباء كأبي حيان التوحيدي الذي وصفه ياقوت في " معجم الأدباء" بأنه " فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة" حيث مزج الأدب بالحكمة.
    وظهرت في العصور الحديثة مؤلفات فلسفية بارزة تقوم على الصياغة الأدبية، فقدم لنا الأب الروحي للوجودية كيركجارد مذكراته الشخصية، ووضع لنا نيتشه أشعارا فلسفية في كتابه " هكذا تكلم زرادشت". بل أصبح العديد من الفلاسفة المعاصرين أمثال جابرييل مارسيل وجون بول سارتر و ألبير كامو وسيمون دي بوفوار، يعمدون إلى صياغة مواقفهم الفلسفية من خلال القصة أو الرواية أو المسرح أو الشريط السينمائي.
    ولم يمنع هذا الأدباء أنفسهم، أن يقدموا لنا أعمالا فنية ذات مضمون فلسفي. فإذا ما تصفحنا رواية " الجريمة والعقاب" أو "الإخوة كارامازوف" للكاتب الروسي دوستويفسكي  فسنتبين بأن الروائي يحمل نظرة فلسفية عميقة لقضايا الإنسان الأساسية كالحرية والمسؤولية والأخلاق. ونفس الشيء بالنسبة للروائي التشيكي فرانز كافكا في روايتيه " المسخ" و" المحاكمة" اللتين تجمعان بين التعبير الأدبي الفني وبين التأمل الفلسفي والتفكير في الوضع البشري. وقد حظي كل من بول فاليري وأندري جيد ومارسيل بروست الفرنسيين بتقدير الفلاسفة واهتمام مؤرخي الفلسفة، لما تتضمنه مؤلفاتهم الأدبية من إشارات فلسفية ونماذج تأملية خاصة.
    والحال لو رجعنا إلى تاريخ التفكير الفلسفي في بلد كفرنسا مثلا، لوجدنا بأن القرابة كانت وثيقة دائما بين الفلسفة والأدب. فمن الناحية الشكلية نلاحظ أن المسرحية والرواية والقصة والشعر كثيرا ما كانت الأشكال التعبيرية المفضلة في التعبير عن الآراء الفلسفية لدى المفكرين الفرنسيين. وإذا نظرنا أيضا إلى بعض الأدباء الفرنسيين من أمثال بلزاك وهيجو وفلوبير، فلا يمكن سوى التسليم والاعتراف بمقدرتهم المميزة على مقاربة الوضع البشري مقاربة فلسفية واضحة.
    وإذا كان الأدب هو الذي يحتل المجال الفلسفي في القرن 19، يلاحظ اليوم، أن الفلسفة هي التي تحتل الميدان الأدبي، إلى درجة أضحت معه احتجاجات الأدباء تتعالى معلنة عن تطفل الفلسفة على الأدب واقتحامها لميدانه. لكن سرعان ما اقتربت الفلسفة من الأدب منذ بداية القرن 20 وذلك لاهتمام الفلاسفة المعاصرين بالقيم الإنسانية وحرصهم على الرجوع إلى التجربة البشرية الحية بما فيها من عمق وواقعية بدل الاهتمام بما وراء الطبيعية وأصل الكون. وهكذا أصبح الفيلسوف المعاصر يفكر في مصير الإنسان وموقعه في الوجود ويـتأمل علاقة الشخص بالغير، وفي السعادة والعدالة والجمال، ويهتم بالحقوق والواجبات وبالحرية الفردية، ويفكر في المجتمع وفي علاقة الفرد بالمؤثرات الاجتماعية والثقافية، وفي السلطة السياسية... وبناءا على ما سبق لم يكن اعتباطا أن تتلاقى الفلسفة مع الأدب، ما دام الموضوع الرئيسي للأدب إنما هو الإنسان.
   غير أن برييه في كتابه " تحول الفلسفة الفرنسية" يحذرنا من المغالاة في التقريب بين الفلسفة والأدب، ما دام أن الشيء الرئيسي في الأدب، إنما هو الفن وننشد فيه اللذة الفنية لا الحقيقة أو المعرفة العقلية. فالأديب يقدم لنا عملا فنيا نرتاح له ونستمتع بصوره البلاغية ونعجب به روحيا ونفسيا. أما إذا حشد في عمله الفني أدلة عقلية وبراهين واستدلالات فلسفية، فإنه سيفقد لا محالة كل ما في إنتاجه من شعر وفن وجمال. هذا بالإضافة إلى أنه من العبث مقارنة عمق الفكرة أو التصور الفكري لدى الأديب بعمقه لدى الفيلسوف، فعمق التأمل والتفكيرعند بالزاك لا يقارن بفكر أوجست كونط  الفيلسوف، وعبقرية بيتوفن لا تقارن بعبقرية هيجل. والقرابة الحقيقية بين الفلسفة والأدب هي التي تتمثل في اهتمام كل منهما بالإنسان وقيمه الأخلاقية والثقافية، كالحق والعدالة والعنف والألم والخوف... وعلى هذا الاعتبار كان بلزاك ودوستويفسكي وبروست وكافكا وكونديرا وغيرهم روائيين فلاسفة. ثم جاء سارتر وألبير كامو ليعبرا عن مذهبيهما الفلسفيين من خلال القصة والرواية والمسرحية كروايتي: "الطاعون" و"الغريب" لكامو، أو مسرحيتي: "الذباب" و"جلسة مغلقة"  لسارتر.
   والوجوديون عندما يقربون بين الفلسفة والأدب، فليعبروا عن شتى "المواقف الميتافيزيقية والوجودية " للإنسان بأسلوب روائي أو مسرحي يتناسب مع الوضع البشري الذي يطبع بطابع درامي غرائبي وعبثي. وما دامت الحقيقة لا تدرك – حسب الوجوديين- عن طريق العقل وحده، وإنما هي في صميمها تجربة حية وفعل وعاطفة قبل أن تكون فكرا وتصورا. من هذا المنطلق يرى الوجوديون بأن الأدب ليس دخيلا على الفلسفة بل هو تعبير حي عن ذلك " البعد اليتافيزيقي" في الإنسان الذي ينكشف من خلال قلقه وجزعه وخوفه من الموت وحنينه إلى الوجود وتعشطه للمطلق، قد يعجز النظر العقلي على تبيانه والتعبير عنه. والنتيجة هي أن الحقيقة ليست من شأن العقل وحده بل قد تتدخل في تكوينها المشاعر والرغبات والأهواء والغرائز والخيال والحلم والوهم والكذب. وفي هذه الحال يكون الفن أبلغ وسيلة للتعبير عن حقيقة الإنسان وعن وجوده المركب والمعقد.
-----------------------

(*) أستاذ فلسفة ومسرحي يقيم في القنيطرة وهو يساهم في اغناء "مدونة سيدي سليمان"

ليست هناك تعليقات: