الخميس، 9 فبراير 2012

الــــحــاكـــم الــعــربــي (من الماء إلى الماء)


 الــــحــاكـــم الــعــربــي
(من الماء إلى الماء)
 
ـ النصوص: جواد المومني.
jaouadm67@hotmail.fr

الإهداء 
   ـ إلى خياناتي الصغيرة والكبيرة
               ـ إلى حديقةٍ؛ مَا وَطئْتها يوماً، إلا في خيالٍ مّا
               ـ إلى سِربٍ من الغمام سألني وقْتَها: كيف الحُلولُ؟ ( … ) فأجبتُ: ويْحكَ مِنْ عظيم الذنوب!! أَلستَ مرْجَ اللاهثين؟
                   و قبرَ صُنّاعِ السَّفر؟…لا تسل عما بدا لك وهْماً لَهُم !
               ـ إليَّ أنا اليومَ، حين يَصطف نجمُهُمْ إلى جانبِ صنَوْبرتي، فلا يُضاهيها بهاءً .
               ـ إلى بسالتي… حين يُحلِّقُ حول عرشيَ لقْلاقٌ أضاعَ عُشَّه، وتاهَ عن " عشيرته "، فما أن ْ يَحُطّ علْياءَ الأغصان حتى
                   تَمْتدَّ إلى أحلامه الوساوسُ!!

    1 ـ كانَ
  كانَ لِورشةِ الريح في الشجر يومها شأنٌ بهيٌّ وسَديد.
  كان يَحتمل أوْجُه الحب والشهوة !
  نَحْوَها كان يَبثُّ صبابةً تسوءُ كلما اعْتَبَقتْ منه.
  كان المصير وصايةً حُبلى بالمتاريس وشائكِ الحِكَمِ.
  كان الصنوبر سيدَ المكان؛ يوحي إلى غيره في ازدراءٍ بعَتَمَة الفضاء، بينما شموخُهُ ناعورةُ العويل.
  كان الفطيرُ وَشْوشَة الخمائل، يُدَبِّجُ الصورة ولا يَفضحُ الغريزةَ فيها.
  كان المطر وَلْوَلةَ القَزَعِ، يشدو رسْم الغياب.
  كان… كان
  كان لِلْوجعِ يومها وجهٌ آخرُ.
  كان يُسْندُ زُخْرُفَ لَغْوهِ إلى تراتيل جُرحٍ… ما عاد له الغياب.
  كان يُرخي فُسحَةَ نجْواهُ، ولا بسالةَ بعدها؛ يملُّ حُنجُرة لا تُرخي عويلاً يمتدُّ في جُغْرافْياهُ.
  كان الجسد منه يَشْتكي.
ذاك المُمتدُّ بين شُطوط الوجع ومراتع الألم.
  كان الفجرُ لا يتسع لغيره، لِسِواه.
  كان له، لِوحدِهِ، فقط.
  كان يسيل كالشمع ولا يحترق! آهاتُهُ وَأْدٌ لِمطر ينفجر ولا يُفشي الفضائح
  كان لُهاثُهُ وراء الدمع، مصيراً ورَثَهُ.
  و كان ِلْلوجع يومها وجهٌ آخرُ.

      2ـ يَتَحدَّثُ عن نفسه
  الفراغُ… ثم الفراغ… أنا الفراغُ.
  المرايا تَعْكِسني. المرايا تعكس نفسَها
  أنا المرايا !!
  تعكس المرايا صَدَأ لا يُطاق
  كأنها لِفُسْحةِ العقل المُتروّي؛ 
  لا ترى نصيباً من عدالة الشمس.
  تنأى بِأسراب لهيبها
  و تَفِرُّ إلى الظِّلال
  هي مَثيلُ المُدن،
  خانقةً دروبَها
  لها وجهُ صحراءَ
  لا يَكْنِسُهُ إلّا 
  فَحيحُ أفعى !!
  خيراً فعلتِ نفسي!! المصيرُ يا نذيرةَ الشُّؤم اسْتعصى على راكبي صَهَواتي. والفُلْكُ ما بات يتغيّى غيرَ مرسَى لِلأحلام، فيه يُنْشِئُ سحاباً، لا يَطاله الطير، ونحيباً لا تَعجُّ إليه نَديماتُ الويلِ، أو سليلاتُ الفقاقيع الوحيدة المُتبقية.
  ـ هلِ انْتحرَ مصيرُكَ يا أعمى؟
  أخالُهُ ما امْتطى لوْحَ الأنبياءِ بعد ؟
  و ما أظن سَبَأَ اعْتراها موج الجنون!!
  ولا نَسَّمَها الهُدهد بِرعشةٍ 
  خَفقتْ لها جناحاتُهُ المُبْتلةُ،
  فراحتْ أنّاتُهُ إثْر مُصابهِ 
  تُراود المكان
  و تَأتيه تِباعاً
  تُحيّي فيه بسالةَ الذي
  لا يبغي فساداً.
  هو ما امْتهن الكِذْبَ
  و لَا ارْتضاهُ لِلَحظةٍ !!
  كان عليه اختيارُ الموت شجاعةً
  أوْ شجاعةُ موتِ الإختيار.
  صَفَّقَ له الجمعُ..
  و كانوا كلهمُ الجُبناءُ !!


    3 ـ حبيبتـُه
  لها أنْ تُعاوِد الإمّحاء. فناءٌ كهذا يروي خلاياها؛ يَهذي بها؛ و يُهْديها نَعرة الأعراس، فتَنْكَوي ذَبْذباتُ الحسّ، ويُنافحُها الجمْرُ لهيباً
  أو ينغرس في ثقوبِ أرضها هلعاً !!
  كان لقاؤها سيداً في موعده.
  رَوَّضَ همسات الشعاع الأزرق
  و رمى المعاجم صوب حقولٍ بلا ألوان،
  حيث لا يُداهمها إلا
  مساء بلا شرفات.
  كان لا يَعْنيها غير تَوَرُّد القلوب
  حائرةً في الفهم،
  و لا مُدركةً مَواطنَ عشقها.
  تُحادي الشُّطوط ،
  و تُبْلغ الغيم عن مواسم الفراشات
  الراسية على بنادرها؛
  أكْوامُها مِنْ رَوْحِ العشب الأصفر الذي
  تَمَنَّعَ عن كُلِّ خَشْخشةٍ
  و ما أَبْقاها إلّا لهُ… لِوَحده !!

    4 ـ كـَيْفَ يُصْبحُ
  في سَحْنَتِه رقصٌ تعالى
  و من حُمقه غِناءٌ
  روى مَداشرَ لِلّهو
  خاليةً كانتْ
  إلا من عُرْي الصّبوات.
  مَرابضُهُ..
  لا تُساوي شمساً وراءَ ضباب
  و لا سِربَ لقالقَ
  يَعُبُّ ما تبقّى 
  من أنينِ بُحَيْرةٍ !!
  لِلْكل رَوْحُ برتقالة
  تَهَيَّأتْ أغْصانها
  لِلذُّرْعانِ المُمْتدة،
  سارقةً هداياها
  في غَفْلةٍ منه.
  هي التي أهْدتْ لَبَنَها العُتاق
  لِمجنونِ وَرْدٍ
  و لِناسجِ موتٍ
  و لكل فراشةٍ 
  تُناورُ نُزولَها
  و لا تَيْأسُ رُغْمَ خيوط العناكب.
               في الصباح مرة أخرى ، يغتسلُ وحْدهُ، يجمعُ أسرارهُ المُختلةَ في سَلّةٍ وما أبْقى على شيء !
              كان شقياًّ، يَتَحسَّرُ ضياعَ ما تلاشى، حين داهمته قطراتُ ندى، عطشى لِفُجور الواضحة.
               ذاكَ الصباحُ الأوحدُ، الفريد، عاندَ الوأْدَ؛ حين انْتَسبتْ خُطاهُ لعرق الحرائق :
               الحريقُ يبدأُ منْ هنا… ولا ينتهي، وعِنْدَ لَظاهُ تَصْطفُّ العيونُ شاديةً نشيدَ الخَتْمِ.
  تَشابَهَ الطَّعْمُ وانْساقَ بجانب المرارة.
  تَحْسِبهُ وجهاً آخرَ لِلحب، أو يكادُ
  رسائله  رذاذٌ من خَدَرٍ
  و سقفُهُ المُهْترئ
  إسْفلتُ الفِخاخِ
  ما أن يُفيقَ حتى
  ترْسوَ الوشْوشةُ على شطه؛
  ولا يُبالي بغير الأجساد 
  من رقابها مُتدليةً في الأَبْهاء. يقول :
  " جَنَتْ على نَفسها…"

    5 ـ مَقولاتُهُ
  ـ " حَقّي في الألم، لا تَنازُلَ عنهُ".
  ـ " كيف لِلْعُري نصيبٌ من الثوب ! "
  ـ " كُلُّ الآحادِ أيام لِلْغد. "
  ـ " بعد النشيد صمتٌ مُطْبِقٌ. "
  ـ " راحةُ الكفّ لا تكفي للراحةِ. "
  ـ " مشيئة القَدَر، صنيعة الأقدار. "
  ـ " نَصيبُ الوحْدةِ في الشتات. "
  ـ " عُقْدة المصائب تحُلُّها ويْلاتُ الندم ."
  ـ " النجمُ الثاقبُ، رحّالةُ العصرِ… والمغربِ. "
  ـ " رُؤْيةُ الأهوال، رؤيا صادقة . "
  ـ " مَرْمَى الأعْداءِ، برُّ الأمان. "
  ـ " نهايةُ الظلم ميمٌ . "
  ـ " سيادةُ القوم هَشُّهُ . "
  ـ " بَعْدَ القُوةِ ، بُعْدُ القُوى ."
  ـ " بُعْدُ النظرِ يُضْعِفُ بَصيرةَ اللحظةِ. "
  ـ " أحْلى ساعةٍ عسلٌ في العقاربِ . "
  ـ " ندامةُ الفقيرِ خوْفهُ من الغِنَى . "
  " مَرسى العَدَم شاطئُ الفوضى ."
          ( … )

    6 ـ حينَ يَشتهي
  وَيْحَ الليالي المُشْتهاة، تُقايضُ الحَشْرجةَ ببعض النعيم وتحتفل إليه صانعةً لِنبرها حنيناً عاشقاً بالأفْق المنيع…وَيحَها..!
  ومِثل بروج الحَمام ذات السّقف المُهترئ، تَحَدّتْ فقاقيعُ حنينه كل النوايا الفجَّةِ، واعْتلت حسَّه أشعةُ الشمس الخجلى
  التي ما نشَرتْ أريجَها إلا مخْلوطاً بشدْو الأنين.
  هي سلالاتُ النهي تتقاذفهُ وتحْتويه حين الرعشةِ العُظمى. ظنَّ دخَانَها شطَّ رخاء يتداعى منه خيطُ التوسل!!
  فَمَنْ باشَرها غيره؟ ومن تعمَّدَ شعرَها الفاحمَ سواه؟
  من فسخَ أزرارَ لُحْمتها واكتوى في شُعْلة دفئها غيره؟
  لِمنِ انْتُدِبتْ أوْديةُ مسامِّها تَرشَح الفوضى؟
  لمن تَفَتَّقَتْ خُدوشُها الولهى تلهث طالبةً أقدار الحوريات؟
  أليس لِخَطوها حظُّ السنونو من رحيق الصنوبر؟
  أما كانت عجلى تَتَمسَّحُ اللوعةَ حين اشْتهاها، وحين صارحها بنشيد الخَلْق الأزل؛ أمِ الوسيلةَ كانت خمر الجسد؟ أو نعش
  الجسد؟ بُؤس الجسد؟ أو وَطْءَ الجسد؟!

   ـ مُرافعةُ قلبِهِ
  القلب هناك
  ـ قلبُهُ ـ
  يُرافع عن حق غريب.
  الْمَنْشَأُ ثمّة
  هوَّةٌ عميقة
  على رواد الموت
  تستعصي نواصيها؛
  ذاك فخ المراتب
  يستأصل الآخر
  وتلك النزوةُ
  الفُضْلى
  ذاتَهَا تَعْصى
  ملاذاً تبقى،
  حميميَّ الوقع
  لا يُغني عن المَقت
      حقاًّ
  ولا عن البغْيِ
      نِدّاً
  هو: الوأد أسْمَى
  والنوايا في الختم.
  قلبه يشجب ورد الأحبة المُلقى… تناستْ
  خلاياه عرس الميلاد ـ قيْصريَّ الموعدِ ـ و نسجتْ
  عناءً لِلْودِّ… حَرَّرَتْ
  عُقَدَ الذكرى… نوَّرتْ
  مسالكَ العثراتِ… أَنْجبتْ
  مراتعَ البُغْضِ… شَوَّهتْ
  خليقةَ الرفضِ المُتراصَّةَ… وأَشْعَلَتْ
  دُروباً لِلتِّيه؛  لنْ يُساومها غيرُ الضَّلال. 

   8 ـ حين يَسْكَرُ
  ثمة نشوةٌ تَنِزُّ هاربةً بين الفقاقيع، لا يُدركها أحدٌ فيما دواخلُ كأْسه تفنى بين صعود مستمر نحو المجهول: وبين انفراجاتٍ صفراءَ،
  لا تملك أن تُعَدَّ! تَهوي إلى القمة… سفحُها رُسوٌّ على جنبات العدم، وبُؤرة لَغْوها سديدُ الكَلِمِ.
                                كذا سَرَتْ… من أين المَقْدَمُ؟
                                إلى أين المَهْوى؟ كذا بَدَتْ
                                والباحث عنها صَبورٌ؛ يتأنّى؛
                                فَلاتُهُ، يَعْذُبُ فيها الشدْو
                                يَنْظُر، يرقُبُ، لا يُشْركُ بها أحَداً !!
                                يَسُومُ سوءَ عذابها، 
                                ويَنحني لِمَجدها،
                                فَمَجْرى الحُموضةِ عذْبٌ أُجاجٌ
                                و يا ليْتهُ يصْبو للنوايا المُرَّةِ
                                وَحْدَها تَرَنَّمَتْ … في سمائه.
  شِيءَ لهُ أنْ يَختارَ لها مَيْسَمَ النِّدِّيَّةِ الْأوحَدَ، وأن يلوح في أُفْقها ضوء العَتَمَة. ما عثر عليها مفتاح الأسرار المودَعُ وسط ضباب الجنون، وهيهات أن يَكتُبَ القمر مِشواراً غيْرَها حين يُفيقُ.

    9 ـ حين أَحَسَّ الضّجرَ
  أ ) إعْتلى عرشَهُ صباحاً، وصاح في وجه المِرْآةِ :
         ـ أَضْعَفُ الإيمان… إرْثُ النّفس .
         ـ لحظةُ الميلاد صعْبةُ التحقيق؛ وتحْقيقُ الصَّعبِ ميلادُ اللحظةِ.
         ـ نِسْيانُ الكُلّ، ثلجٌ يَذوب لِلثَّوّ على حَبات رملٍ حارقة.
                               ـ مَرْسومُ عذابي/ هذا
                                أَبْسُطُهُ أمام العذاب
                                علَّهُ؛
                                يُنهي العذاب.
                              ـ  الرّيح صَهْوةٌ
                                يَتَقاسَمُها مَصَبُّ الأهوال
                                والأَنْواء ؟!
  ب )  ولّى بِوجْهه عن المِرْآةِ، و قال :
     مِنْ أين أتى ذلك الخَدَرُ؟
     من أين وَطِئَتْ ساقاهُ سَهْلَكِ؟
    وكيف رَشَقَتْ
    عيْناكِ مَجْدَهُ؟
    أَتَرَسَّبتْ خلْفكِ أيادٍ
    أمْ حاوَرْتِ صدى الجُروح؟
    أَغَنَّتْ حناجرُها
    نَسيبَ العدمِ
    أَمِ انْتَشى لِزَهرها
    هَزيمُ النَّكبات؟!

   10 ـ حينَ أَحسَّ الإغتراب
  أُتْرُكْه يَتَنَفّس؛ دَعْه يلهو؛ خَلّيهِ يَرْشَحُ عرقاً وَسْطَ مواسمِ النار تَدْعَقُهُ أو تُرْخيهِ، تُمددهُ أو تَحْتويه. هي تعرف متى يُسْديها لَغْوُهُ بريقاً !
  فيعترفَ بحجمهِ النهائي.
  أُتركهُ يُفْضي بتراتيله إلى القادم نحْوهُ؛ ذاكَ الذي يُفْشيه أسرار غُبن حلّ براحلته.
  أُتركهُ يَصْهل أو يَكشفُ أَنينَه، أو يُغني ما تبقّى له؛ كالشراع مُرَفرِفاً يَهفو الرُّسُوّ بعد بَطْشَةِ ريح.!
  دَعْهُ يُصلّي لِإلاهٍ لا يَتناهى إلى سَمعه غير إخْفاق الفراش في لَظَى الشعراء، ينْعونَ حظّاً أَتْعَسَ من نَجواهُم.
  دعه يركض وحيداً بين ألوانٍ ربما ما عهِدَها!! فَمِنْ قَبْلُ ارْتقبَ سطْوةَ الدمعِ، يَرْتكس إلى مِحْجرٍ تَنازَلَ عن كُلّ مائه، والآن تَفجَّرتْ من مآقيهِ كل وَداعاتِ الأحبة، وكل تنهُّدات المُغَرَّبين، تُرحِّب بالحنين ولا تُلْغيه، فتُمْطِرُ العمرَ بأبوابٍ مُوصَدة، لا على نُجَيّا الفراق، ولا على سِياجِ الجُروح المُورِقَة وإنما على رُموشٍ تَشْتاقُ طَلَّةَ الحَبيب… فَلَا تُعانِقُهُ !!
  هي أبداً أرْضٌ جَرُوزٌ. هي دوماً كذلك.
  دَعْهُ يَنْقَضُّ فيها على لذيذِ الألمِ، ومواسمِ الوَأْدِ.
  أُتْرُكهُ مِثْل صَفصافةٍ تُظَلِّلُ ضحك الأحبّة… رُغْمَ عُقْمِها !!

   11 ـ حين أَعْلنَ إيمانَه
  تَوَلَّيْتَ عني سَعادَةَ الكُفر!! أَقْنَعْتني بِرؤيتكَ القاصِمةِ شمسَ هذا الغدير. رَجَمْتَ مَصيري وأَعْلَيْتَهُ ناصيةَ الخَدَرِ… كُنتُ رَشَّحتُكَ وارِثاً لِموتيَ الجميل، ورشحتُ نباهَتَكَ العُليا لِأَقاصي إيمانيَ العميق، سليلِ الورد ونديمِ شجرِ البُطْمِ، وحْدَهُ لا يخجل حين  تَلوح لعناتُ الجفاف بأرض لا يطؤها الماءُ. وحدهُ يقْبضُ الفُتاتَ بين كماشاته؛ يَنحَرُها بدمٍ بارد ولا تُخيفُهُ نعَراتُها، فتأْتيه  طَيِّعةً خَائرةً، حائرةً، من أَمْرِ ذَا الخلق المُصيبِ في إرادتهِ، ذي المشيئةِ الدّانيةِ من عَنَدِ الخسارة.
  أقْنَعْتَني بِمُسَوَّدَةٍ أكثرُ فصاحةً من لِسانٍ ما علاهُ النَّحْلُ قطُّ!! تَقَصَّدْتُ رَواسيكَ، احتميت بِسَعَفِ فُجوركَ إذْ تُراوِدُهُ النداآتُ؛
  مَكْرورةً ولا تلحَقُها لَعْنةٌ !
  كُنْتَ كسَطوةِ الريح في علْيائه، تُرَتّلُ المسراتِ الخريفيَّةَ ولا تُفشيها سر الأزل.
  كنْتَ تُدْني نجواها لكل غَسقٍ؛ هو المَمَرُّ الوحيد، ويا ليتَهُ كان الأوْحدَ !!
  كنتَ لَدَيه نَخْوةً لِلْبَوح… تَنْشَطُ في مسامّ المجد، و تعُجُّ بفوضى الخلاص؟ تُفَكِّكُ المدائحَ وتُبْقيها على المصير الجديدِ  شاهدةً! في مُحَيّاهُ وَسْوسةُ الشُّهُبِ، وعلى يَدَيْهِ ارْتَسَمتْ شُطوطُ الإيمان.

    12 ـ حين نَصَتَ صَوتَ شَعبه
  كَأَني به يُرْفَعُ! ولَطالما تَجَيَّشَتْ حواسّي حينهُ، تخالُهُ يَصْدحُ، مرفوعاً بين أقْبيةٍ وحواشي، أو منَ الدهاليز يَسري؛ وحتى حين  تُصَوِّبُ " التْرامونْتانْيا "* لَظاها صَوبَ دروب المدائن حاشِرَةً كلَّ الدّواب إلى المضاجع !!
  يَلوحُ صورةً لا صَوتاً، تَغْمُرُها أنّاتٌ غريبةٌ. فما أن تتفجَّرَ حتى تبدوَ عظيمةً، خاليةَ الحَشرجةِ عذْبةَ الدَّفق، بهيةَ اللون.
  وما أن تُرْتَسَمَ حتى تَهيمَ فُرشاةُ المُتَلَصِّصين خالصَةً، تَعشقُ بِبَياضها، تَحتويه وتُفرغُ حَمولَتَها القادمةَ من ثُغور الأرض  ومن ثقوب السماء
  لَعَمْري، إنه وَشْمٌ ما اعْتراهُ خَدْشٌ، حَسْبي أنه لَغْوُ الأنبياء !
  وكان أن وَعَتْهُ أَنْسِجتي لحْظَتها، ولم يكن فيه لِلْأحلام مَوْطئٌ، ولا لِلنَّجوى مَمَرٌّ… تَعَرَّفْتُهُ: هو تَرتيلٌ يَتَناهَى من وحْيِ السَّديم
  حَيٌّ، مُسَطَّرٌ، نَغَماً هُلاميّاً، يُفشي حُروفه و ما همَّهُ الّلاقِط أن يُصْغي! قدْ يَلِج وقد يَنْكسر على صَخْر، سِيان ذلك، فما على الصوت إلّا البلاغُ المُبين .
  كُنتُ أَتحَسَّس المَلْمَسَ في ذا الصوت، لِأني أَدْركت في زمنٍ غابر أنّ منافذ الْأنَّةِ رَخْوةٌ تُصيبُ المرءَ في مَقْتلٍ! وكنتُ أَتَهَيَّبُ بالتالي الحُلولَ في كل غَريب. إلا أن سُوَيْداءَ القلب التي اسْتَفْتيْتُ، طَوَّحت بي وعَدَّتْ إلى بَرازخَ وإلى خنادقَ فَجَّةِ النور
  حيثُ السَّمعُ رُؤيا أكيدةٌ !

   13 ـ خِطابُهُ ما قبلَ الأخير إلى شعبه .
  أَحْضِروا سماواتكمْ. أَحْضِروها كلَّها. قد آنَ رَجمُها… قد آن سفكُ دمائكم. ما عادَ لِلشُّموخ دَأبٌ، وما انْهدَّ حيلي بَعْدُ. غاباتُكُم  قَضتْ، واسْتراح البَوحُ على مَيْسَمِ أحلامكم. اكتمل عنكمُ السُّمُوُّ، أَرْخى رَذاذَهُ مِنْ سرابٍ. بَعْدُ لمْ تَكْنسْ أَنْجمي جُموعَكم، ولمْ  تلِنْ. في مدائني بَقايا من نارٍ تُثْلجُ شموعَ العين، وفي لَغْوي موجُ رياح عَتَتْ بلذّاتكم، وانْبطَحَ إثْرها شرُّ ناسوتِكم .
  حين هبَّتْ جماجمُكمُ العطشى بِنِيَّةِ الارتواء من مَعين النّزوات، اقْترفتْ سواعدي ـ عنْ حُسن تدبيرٍ ـ مصيراً تَعُجّون إليه؛ و كنتُم  إثرهُ تَفِدونَ عرايا إلا من عظامٍ مُحَنَّطةٍ؟ ساءَتْ وتَراختْ وامْتطَتْ صَهْوةَ الفزع. كنتم أسرى نجْواكم. فَكَم وِرْداً حَلَّقَ لحظتها؛
  وكم نَشيداً تَهاوَى… لِأنّي الْمالكُ !!
  ألَا فَلْتُسرعوا يا عبيدَ الفراغِ إلى انْتكاساتِكم، دُسُّوها أسْفلَ الجبال ولا تُشْرعوا أَجْنِحَتها ثانيةً. قد آنَ أوانُكُمْ؛ أوانُ الحياة أَمواتاً؛  فقدْ كنتمُ الأحْياء مَماتاً .
  رُدّوا إليَّ شَغَافَ قلوبكمُ المُتكلِّسةِ، فلكل سُدْفَةٍ منّي حِجابُ نورٍ، به تَتَمَسَّحون.
  ألْحَيْنُ يا براعمَ الزَّقُّوم مَصيرُ كل غَيرِ سادِرٍ في عطاآتي… ألَا فَلْتَشِموا هذه المِنَّةَ على جِباهكمْ، واصْرُخوا مِنْ شِدّةِ وَلَهِكُم :
  " نِعْمَ الْمَيْسانُ ضَلالُكَ! هذا إِهابُنا إليكَ قُرباناً في يوم عُطاسِكَ. لنْ نَقْبَلَ أحداً غَيْرَكَ يَبْصُمُهُ، ويَحْشُرُهُ في مدائن عِزته… أَلْبأسُ  بأْسُكَ، والويلُ وَيلُنا. نحْنُ نُجومٌ تائهةٌ ترجو قِبْلَتَكَ… أنتَ المنارُ، أنتَ المنارُ . "

 14 ـ خَواتِمُهُ مع الظِّلِّ
  ولّى ذلك الدهر، حين كانَ الظِّلُّ خِياريَ الْوحيد… صارَ الظلُّ خياري الوحيد، واسْتَأنفَ الفراغُ لَعبتَه الدنيئةَ، بعدَ ما عَتَتِ  الأحزانُ وعانقَ الليل صَهيلَ الدواخل .
  في المسامّ اسْتوْطَنتْ رياحُ اليأس واحْتَشَدتْ إلى الجسد نوازعُ السَّمومِ؛ فتقاذفتْ حُدودَهُ طواحينُ الشرور، تلك العاطشَةُ إلى  يَرقاتِ الدَّمِ… هنالك عندَ السَّفر الغائرِ بين تَلابيب الزمن، وفي شُرود العودةِ إلى عناصر الحياة، تَرامتْ نغَماتٌ بِعُذوبةٍ لا  تُضاهَى، ورشَّحَتْ لِنفسها أدْواراً نورانيَّةً! فَرِحْتُ بها، واهْتَدَيتُ منها إلى سُبُل الخلاص .
  صارَ هذا الظِّلُّ وَكْريَ الأوْحدَ، غيرَهُ ما تَفَتَّقتْ طُرُقاتٌ ولا انْسابَ حنينٌ… يُمجِّدُ الصّهوةَ الولْهى، التَّواقةَ إلى إغْفاءة بين كَرْمِ الليمون أو تحت ورق زيتونةٍ، ما تَناوَلَتْها بعدُ ذُرعانُ القاطفين !
  وكان لهذا الظلِّ ظِلٌّ يتحدّى جروحَ الوردِ. ثم صار هذا الوردُ شهْوةً دائمةً، تَسْقي نداآت المارقين، الغائبين عن وعي الصهيل !
  أنا مِنْ هذا الظلِّ، وهذا الظل مني. صِرتُ أبكيهِ عندما لا يَشْتهيني! أَضْحَى مَعْبداً، وصلواتي لا تَنأى عن وِجْهتهِ،
  المُتراميةِ بين فِجاجٍ ومَساربَ لا تُدركُها النُّهَى .
  هذا الظلُّ قِبْلةٌ مَحَّصَتْ كلَّ النَّواصي وخَلدتْ إلى راحة مصيريةٍ .
  هذا الظلُّ مَصيرٌ خَطَّتهُ أَصابعُ مُحترفٍ، أدْركَ في ما مضى مأْساتَه، فسارَعَ إلى تَسْطيرها… قَدَراً .
  هذا الظلُّ سَطْرٌ تَسَمَّى: " تَعَباً "، فَوَّضَ لَيْلاً بِلَا فَجْرٍ لِخِلافته، وأَسْدلَ من زفيرِ الموتى نافورةً لِخُرافتهِ !
  لِهذا الظلِّ جُغْرافْيا، سُهولٌ من حَنينٍ، غاباتُ وَأْدٍ، حُدودٌ مِن أقاصي الألم، سياجاتٌ من زَهْرِ الحَبَقِ بِلا أَريج، جبالُ أَرقٍ لا تَمْتدُّ  إليها الهَدْأَةُ، و تِلالٌ من حبّاتِ الشّكّ ثاوِيةً إلى الظِّلِّ تَسْعى .
  و لهذا الظلِّ تاريخٌ قُدَّ مِنْ وَهيجِ الحِذْرِ، سُنَّتْ فيه مقاماتُ الإعْوجاج وحرائقُ الخياناتِ… منهُ تَعالتْ صَيْحاتُ الأسْواط والأَسْياخ ؛  لا يَنجو منها غَيرُ مُعْترفٍ بِحقِّ الطُّغاةِ في ما تَبَقّى منَ الفُتاتِ! الْحمْدُ فيه لِلظّل و لِخَواتِمِهِ الفريدةِ، المَصْقولةِ مِنْ نورِ الْعَسْفِ !!

              ـ إنتهى في مَتَمِّ أبريل/نيسان 2011
               ـ پيرپينيان/فرنسا
                ـ جواد المومني.
—————
  التْرامونْتانْيا: ريحٌ شمالية غربيةٌ باردةٌ تَهُبُّ في الجهة المُتوسِّطية، ناحيةَ پيرپينيان .

الأربعاء، 8 فبراير 2012

الوصايا العشر للمناضل المثالي ـ مقالة مترجمة ـ


  الوصايا العشر للمناضل المثالي
ـ مقالة مترجمة ـ 

ترجمة: جــــواد الـــمـــــومــــني 
jaouadm67@hotmail.fr     

   على سبيل التقديم: 
       مساهمةً في الحراك الجماهيري الواسع، الناهض عبر تراب الوطن ( المحلي والكوني )، وإيماناً مني بكون الكلمة تخطو دائما إلى جانب الفعل، أَسوقُ ترجمة لمقالة مايك دايفس ( أستاذ التاريخ بجامعة كاليفورنيا، وعضو تحرير " المجلة اليسارية الجديدة " LA REVUE DES LIVRES–  ) التي صدرت   RdL ( numéro: 3,  janvier/février 2012 )بالمجلة الفرنسية  في عددها الثالث / ينايرـ فبراير 2012 في رُكن: تجارب سياسية (الصفحات: 77 إلى 80)
    وإذ أضع المحاولة أمام أعين القراء المتصفحين، أُشير إلى أنني كنت مُضطراً لحذف بعض السطور من النص الأصلي، لكونها مجالٌ تَوَسَّعَ فيه صاحب المقال بمزيد من الشروح حول التجربة الأمريكية. وإذ أُنَوِّهُ بذلك  فالأمر لم يَحِدْ عن الأمانة العلمية، ولم ينل حيزاً كبيراً من الحجم الأصلي.
       وما دامت المناسبة شرط؛ فلِيَتَأَكَّدِ القارئ أن تفكيري مُنْصبٌّ نحو حركة 20 فبراير المجيدة التي تُطفئ عما قريب شمعتها الأولى… وأنا من هذا المنبر المُشع أرجو أن تكون المساهمة في مستوى الحدث، كما أدعو إلى مزيد من اللُّحمة أكثر من أي وقت مضى؛ نظراً للتكالب المتزايد على المطامح المشروعة للحركة… وإنه لَسعيٌ حتى النصر..

      المقال :
      مؤخراً في كندا، سألتني صديقة عن مدى إمكانية استفادة حركة: " احتلوا وُولْ سْتْرِيتْ" من دروس الحركات الاحتجاجية ترددتُ في البداية لِاشْمئزازي من لعب دور الفاهم المُدرك والناصح، لكن إصرارها ولَّد عندي تساؤلا جوهريا عميقا :
      - ماذا يمكن الاحتفاظ به في آخر المطاف بعد حياة لصيقة بالحركية النضالية ؟؟
على سبيل الجواب أضع بين أيديكم عَشْر نصائح/ وصايا شخصية راكمتُها من خلال تجاربي الميدانية وكذا مما كان يُشير به عليَّ
عدد من الرفاق المُجرِّبين الذين يفوقونني سناًّ:
  1- الأمر القطعيّ في البدء هو التنظيم؛ أو بالأحرى تسهيل التنظيم الذاتي للأعضاء الآخرين، فالتَّحفيز مهم لكن التنظيم أهم.
 2- على القادة أن يُحسوا بأنهم " مُؤَقَّتون " وأنهم دائما قابلون للتَّنحي، فمهمة المُنظم النموذجي هي تنظيم " تقاعده" النضالي،  وتوفير شروطٍ يصير فيها قابلاً للتَّعويض في كل لحظة وحين.
 3- على المتظاهرين أن يُبْرزوا نوعاً من المقاومة ضد بعض التوجهات الإعلامية التي تعمل على " تشخيص" الحركية النضالية؛ فمثلاً، أليس غريبا تخليد " يوم: مارْتِن لُوثر كينغ " بدلا من يوم: حركة المطالبة بالحقوق المدنية ؟؟ مِن ثَمَّ وجب كذلك التغيير المستمر للناطقين بِاسْم الحركة الاحتجاجية .
 4- أُومن بضرورة يسارٍ ثوري عُضوي فعّال، لكن لا يحقّ لمكوناته التصريح بذلك إلا إذا أُعْطيتِ الأولوية في بناء "الصراع" من مُنطلق شفافيةٍ ووضوحٍ في البرامج السياسية بتعالُقٍ تام مع الأعضاء المناضلين المُشكِّلين لهذه الكتلة.
 5- في سِتينيات القرن الماضي تعلَّمْنا أن " الديمقراطْيا التوافقية " غير " الديمقراطْيا التشاركية "، فاتخاذ القرار مثلا على مستوى مجموعة صغيرة قد يتم عبر التوافق، لكن الأمر يختلف عندما يتعلق بمعاركَ طويلة الأمد، أو حين يكون القرار عبر الحضور الكبير للأعضاء؛ هنا تصير " الديمقراطْيا التمثيلية " أسمى تعبير عن كل الأطياف، وعن أكبر قدر ممكن من الآراء.
 6- تهدف " الإستراتيجْيا التنظيمية " إلى حشد أكبر كمٍّ من المشاركين في المعارك المفترضة أوّلاً، ثم إلى وضع المحطة في سياقها ثانياً، لِاعتبار خصوصية الظرفية. كل ذلك بِتَوازٍ بين المعركة النضالية والأهداف المُسَطرة في حالة القمع.
فمثلاً، خلال ستينيات القرن الماضي لجأتْ " حركة السُّود لِلتحرير" إلى مُناورة ضمن استراتيجيةٍ مُحْكمة، حيث عمدتْ إلى  نقل الصراع إلى قلب معامل السيارات ب " دِيتْرُويْتْ " حتى تمَكَّنتْ من تشكيل :" عُصْبة العمال السُّود الثَّوريين ". وحاليا ثمّةَ فُرصة سانحة ومماثلة لِمُؤيِّدي حركة :" احتلوا الْأَحْياءَ " في علاقتها بالأزمة التي تمرُّ بها حقوق الإنسان لدى العمال المهاجرين، حيث
يُلْمَسُ تصاعُدُ وثيرةِ الاحتجاجات عند هذه الفئة إلى درجة أنها خلال الخمس سنوات الأخيرة باتتْ تُعَدُّ من أكبر التظاهرات في  تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، فهل من الممكن أن نرى خلال فاتح ماي المقبل اصطفافاً واحداً لكل هذه الحركات والتشكيلات أثناء يومٍ حركيٍّ احتجاجي واحد؟؟
7- عند خَلق حركة ذات ارْتباطٍ وثيق بالضعفاء والمعطلين، يجب التفكير مُسبقاً في توفير البُنى التحتية لأجل تلبية عدد من المطالب الإنسانية الضرورية والمُستعجلة من قبيل: المأكل، المأوى، التطبيب… كما يتطلب الأمر كذلك التفكير في تعاونياتٍ من أجل توزيع الموارد على الشباب المعتصم في الصفوف الأمامية، ثم لا يَفوتُ أن  نسعى إلى تشكيل جمعيةٍ لرجال القانون
المتعاطفين مع الحركة ( مثل: الجمعية الوطنية لِلحقوقيين - خلال الستينيات ) لأنّ الأمر حيويٌّ هنا في مواجهة القمع الشرس !
 8 - إن مستقبل حركة  " احتلوا وُولْ سْتْرِيتْ" ليس مرهوناً بالضرورة بِعدد المتواجدين في " مُنْتَزَهِ الحرية " ( رُغْمَ أن الدعم الكمّي أمر أساسي لِاستمرار الحركة ) وإنما بقدرة البقاء والصمود في مختلف الأحياء الأخرى المساندة. كما أن الانتشار المكاني/ الفضائي لِلْمتظاهرين يجب أن يتميز بحضورٍ دائمٍ ومتنوع، لِمختلف الأطياف ( السّود، النقابيون..)
 علينا أن نَعِيَ أنّ أندية الإعلام الاجتماعي على الانترنيت، تُشكِّلُ فُرصة تاريخية لِإقامة حوار أفقي وطني، إنْ لم يكن كونياًّ بين كل النشطاء. كما أن فتْحَ باب الدعم للحركة من طرف الفئات المثقفة ذات النفوذ في المراكز الجامعية الحضرية الكبرى باتَ يفرض نفسه. كما سيكون مهماًّ جداًّ لو تشكلتْ بُؤْرة مكتب وطني من المُحاورين والمتدخلين مُعْتَمِدٍ على إمكانياته الذاتية.
  و في هذا الخضم، لا بد أيضاً ـــ و بنفس الطريقة ـــ من الكشف عن كل الحقائق التاريخية المغلوطة منها أو المسكوت عنها، مع جدولة زمنية لِلتظاهرات، ووضع الشارع في الصورة التي يتواجد عليها أولئك الذين يُنجزون حركاتهم البطولية في كل رُبوع البلاد مع الفضح المستمر لِلْخروقات.
 9 - إن المشارَكة المتزايدة للنقابات خلال تظاهرات: " احتلوا وول ستريت " بما فيها تلك التي صَدَّتْ إلى حد بعيد شُرطة نيويورك وجعلتها تتراجع مؤقتاً عن محاولتها في تفريق الاحتجاج بالقوة، لَقادرةٌ على قلب الموازين وبالتالي خلق أمل في جعل هذه الهَبَّةِ تَوْطئةً للصراع الطبقي الحقيقي. في نفس الوقت، وجبَ التنبيه إلى أنّ غالبية القياديين النقابيين تنتمي للحزب الديمقراطي، وهي نفسُها الغالبية التي عملت جاهدةً - في ما مضى و في إطار صراعات داخلية لا أخلاقية -على كسر شوكة كل أملٍ في الصراع العمالي.
يبقى أن نشير إلى ضرورة تمتين الروابط بين المتظاهرين ضد الرأسمالية وبين اللجان الفرعية الأكثر تقدُّميةً العاملة ضمن النقابات.
 10 - إنّ من أَسْهَلِ الدروس المُستنبَطة وأعتاها ضرورةُ التكلُّم بخطاب معرفيٍّ مفهوم. فقيمة الخطاب تَبْلُغُ ذِروتها حين  يتقاسمها أكبر قدر ممكن من الناس، ولنا أمثلة واضحة على ذلك من قبيل: تُومْ پّاين، فريديريك دوغلاس، جِينْ ديبْسْ، مارْتنْ لُوثر كينغ، مالْكومْ إيكس، مارْيو سافْيو… هؤلاء استطاعوا عبر أصواتهم الراديكالية أن يُلامسوا قضايا الشعب الأمريكي من خلال
كلمات قريبة وقوية، ولنا مثال عظيم على ذلك في: آپْتونْ سانكليرْ الذي خلال الحملة الانتخابية المحلية بكاليفورنيا سنة 1934 والتي كانت تحت شعار:" من أجل القضاء على الفقر بكاليفورنيا الآن " عمِلَ على تنزيل برنامج " الحزب الاشتراكي " في شكل خطابٍ وعظي إرشادي مقتبس عن الإنجيل، فكانت النتيجة حصوله على ملايين الأصوات!
     - فهل يمكن أن نتساءل عن أي شكل من أشكال الخطاب الذي يمكن لحركات: " احتلوا…" أن تبلوره وأن تتبناه كلغة سياسية واقعية جذرية؟
  على المناضلين الشباب المُتحمسين تركَ- ولو مُؤقتاً -آراء: "باكُونِينْ" (مُنظِّر الفوضوية واللاسُلطوية الجمْعوية- المُتَرجِم )، لينين، سْلافُويْ زِيزيكْ " (فيلسوف سْلوفيني مُعاصر وناشط وحركي في التنظيمات اليسارية الجذرية - المترجم ) وغيرهم، والعودة إلى برنامج الحملة الانتخابية الرئاسية لِروزْفلت سنة 1944، حيث كان النداء الخالص من أجل: " مُواطَنَة اجتماعية
وإعلان عن الحق في الشغل والسكن والصحة والحياة الكريمة ". كانت لغة برنامج الحملة الانتخابية الرابعة هذه تَمْتَحُ من بياناتِ " كونْغْريس المنظمات الصناعية " لسنة 1938 ( منظمة نقابية كبيرة- المترجم ) ومن مطالبها الأساسية. 
حقيقةً؛ لم يُشكل كل ذلك برنامج اليسار الذي كان يُطالب بمِلْكِيَّة اجتماعية ديموقراطية للأبناك وللشركات الكبرى، إلا أنه كان بمثابة الطرح الأكثر تقدُّميةً عما سبقه من برامج انتخابية رئاسية.
   على الحركات الاحتجاجية ضَخّ المزيد من المطالب الأساسية ، وبخطاب قريبٍ، بعيداً عن الواقعية السياسية قصيرةِ النظر.
*************
             انتهت الترجمة ب: پــــــــــيرپــــــــــنيان/ فرنســــــــــــــا يوم الأحد 29 يناير/كانون الثاني 2012.   
———————————– 
ـ صاحب المقال: مايك دايفس
:  ـ عن المجلة الفرنسية 
  ( LA REVUE DES LIVRES– RdL numéro: 3,  janvier/février 2012)