حرب باردة في أجواء المغرب الكبير!
مصطفى لمودن
هل هي حرب باردة جديدة في الأفق؟ أم بداية تسخين لدخول المنطقة حربا حقيقية في ظل التسابق نحو التسلح وأمام اختلالات التوازن الطارئة، بفعل سيل الثورات الجارف وتضارب المصالح..
لم تنشأ علاقات ود واضحة بين دول المغرب الكبير الخمس مجتمعة منذ نيلها استقلالها تباعا عن المستعمر الأوربي، وقد عرفت العلاقات فيما بينها توثرا كاد يقود أحيانا إلى حروب مدمرة كما وقع بين المغرب والجزائر سنة 1963 فيما يسمى بحرب الرمال.. كما خاضت نفس الدول بدورها “الحرب الباردة” بالوكالة في خضم صراع الشرق الشيوعي ضد الغرب الرأسمالي على مدى عقود من الزمن، حيث اصطفت كل دولة طواعية أو مكرهة إلى جانب طرف معين…
وتفاقم الأمر أكثر منذ تنظيم المغرب “المسيرة الخضراء” واسترجاع الجزء الجنوبي ابتداء من سنة 1975، وقد وجدت “جبهة البوليساريو” السند والاحتضان من طرف ليبيا والجزائر. كما وجد نظام الحبيب بوركيبة في تونس معاندة من طرف جاريه الشرقي والغربي باستمرار..
والآن بعد زحف ثورة شعبية سلمية عارمة كاسحة نظام بنعلي في تونس، وبعد طرد العقيد القذافي من “مركب العزيزية” بطرابلس بواسطة بنادق الثوار وراجفات حلف شمال الأطلسي… واستقبال الجزائر لعائلة العقيد المطاح به، وعدم اعتراف نظام الجنرالات في دولة “المليون شهيد” بالمجلس الانتقالي الليبي، واشتراط تطهير ليبيا من “عناصر القاعدة”، مما اعتبره سادة ليبيا الجدد إعلانا عدوانيا ضد الثورة، وقد أكد محمود شمام وزير الإعلام في المجلس الانتقالي الليبي تورط الجزائر في مد العقيد القذافي بالسلاح والمرتزقة، ومنهم طبعا عناصر من “البوليساريو”.. رغم تأكيد وزير خارجية الجزائر مراد مدلسي يوم الخميس فاتح شتنبر بباريس على احترام الجزائر للشرعية الدولية وعدم رغبتها في استضافة العقيد المطاح به، وهو التصريح المغرق في “الدبلوماسية” الهادفة لتلافي العزلة حسب بعض الآراء.
وأمام خيار المغرب الطبيعي الاعتراف بالمجلس الانتقالي الليبي، ومسارعة وزير خارجيته الطيب الفاسي الحضور إلى بنغازي عشية دخول الثوار إلى طرابلس، وهو نفس الموقف الذي اتخذه التونسيون تجاه ثورة بلد جار (الاعتراف والترحيب)، وهم لم ينسوا مناورات القذافي في بداية انتفاضة تونس كي لا يـُطاح بزميله الرئيس التونسي السابق بنعلي… ورغم أن موريتانيا بلد صغير منزوية في آخر طرف من خريطة المغرب الكبير، فلها وزنها السياسي وإن كان البلد يعيش على وقع الانقلابات المتتالية وعدم الاستقرار، فإن موقفها مما يحدث في ليبيا مازال يشوبه التردد، ولم يفصح الرئيس محمد ولد عبد العزيز عن موقف واضح وقد أجل الحسم في الأمر وفق آخر خرجة إعلامية له في بداية غشت المنصرم.
وبذلك اختلطت الأوراق من جديد، وطفت على السطح حسابات أخرى، لا تصل مراميها إلى تهديد “المصالح الإستراتيجية” لكل دولة، بل تهدد الأنظمة في ظل عاصفة تهز العالم العربي منذ بداية السنة الجارية، اسمها ثورات الشباب وانتفاضتهم ضد الظلم والاستبداد والتهميش وغياب الديمقراطية..
تدخل الدول حسب منطق الأحداث في صراع “نماذج الحكم”، واختلاف “المرجعيات”، حتى وإن كان هناك نزوع شبه تام نحو النموذج الليبرالي الرأسمالي، فقد طفت طروحات ذات بعد إسلامي في غالبية الدول الخمس، مع اختلاف الأساليب، وتقدم مكونات الجزائر في اللجوء إلى العنف منذ تسعينيات القرن الماضي.. وظهر بعد سكون طويل للمجتمع الليبي دام أربعة عقود أن القبيلة ما تزال حاضرة، وهي “نموذج” ما قبل الدولة، مع تقدم مجتمعي نسبي في تونس نحو “الحداثة”، وتأصيل تعددية حزبية حقيقية في المغرب رغم بعض الشوائب وتدخل الإدارة..
احتدام الصراع بين الدول الغربية من أجل خيرات المنطقة، فدول “حلف الأطلسي”، منصبة اهتمامها باستمرار على شمال إفريقيا برمته، وقد تطالب بالمزيد بعد تدخلها العسكري في ليبيا تحث مظلة قرار مجلس الأمن 1973، ومن هواجسها الأمنية مواجهة أي “تطرف” محتمل في منشئه بعيدا عن بلدانها، ولا تخفى كذلك تناقضاتها الداخلية فيما بينها، فمصالح فرنسا مثلا تختلف عن رغبات أمريكا.. الخ. ولا يمكن إغفال مصالح دول عظمى في المنطقة كالصين وروسيا… والجميع يلهث وراء النفط والغاز اللذان تزخر بهما أعماق الصحاري، وهذا ما يدفع إلى مزيد من التوتر في المنطقة.
وبعد اختفاء “داعم” من نوع خاص لجبهة البلوساريو، واحتمال عزلة الجزائر إذا انضافت إلى القائمة موريتانيا، فمشكلة الصحراء قد تدخل منعطفا جديدا، يجعل “جبهة البوليساريو” في موقف صعب، تكون نتائجه لصالح المغرب، وقبول مقترح “الحكم الذاتي”، إلا إذا ارتأى جنرالات الجزائر في ظل الوضع الحالي رأيا آخر، قد يكون “حماقة جر المنطقة إلى حرب” مدمرة، وهو خيار هروبي (محتمل) نحو الأمام في مواجهة مطالب الديمقراطية التي ما فتئت ترتفع في الشارع الجزائري رغم القمع والحصار، وقد حدد الشباب موعد 17 شتنبر القادم كمنطلق جديد للاحتجاج.
إذا وضعت الأنظمة غير الديمقراطية أمام خيار الانقراض أو مسار التنمية الذي قد يقود إلى نماء وعي الشعب وتنوع مطالبه (نموذج تونس)، فإنها (الأنظمة) تختار المواجهة والسير نحو التخلف مع بعض الرتوشات الإصلاحية الخادعة، لكن في حالة نجاح الثورات، وتحقيقها لأهدافها أو جزء منها، سيجعل بقية الدول ونعني بها الجزائر والمغرب وموريتانيا مضطرة إلى إحداث ديمقراطية حقيقية، تفقد بموجبها بعض ذوي المصالح لامتيازاتهم، ما سيجعل هذه الفئات تقف حائلة دون أي تغيير أو إصلاح، بل قد تتحالف هذه الفئات فيما بينها ضد “الثورات” التي حدثت في المنطقة، وبالتالي الدخول في مناورات وحرب باردة أو ساخنة، فلن يقبل مثلا قادة الجزائر تكرار حالة تونس أو ليبيا لديها..
إننا الآن أمام مصداقية الأنظمة الحاكمة، في تبني خيار الديمقراطية الحقيقية بدون لف أو دوران، وفي التأسيس للتداول على السلطة انطلاقا من نتائج صناديق الانتخابات، وفي وضع تنمية حقيقية تلبي مطلب العيش الكريم وتخلق أجواء الحرية والطمأنينة…
ولا يمكن انتظار دعوات الاتحاد الأوربي أو غيره من أجل ذلك، فهؤلاء لا يهمهم سوى “سوق موحد” لتصريف المنتوجات والخدمات، وليس التعاون بين دول المنطقة في إطار “اتحاد” ملموس ومنظم ودون وصاية..
والشعوب من طبيعتها لا تنتظر لا حربا باردة أو حامية.
وأخيرا، حرصنا على الحديث عن مغرب كبير باسم الجغرافيا فقط، تأكيدا على معطى التنوع البشري في المنطقة، ومن أجل ترسيخ قيم الاعتراف والاحترام المتبادل…
==========