الأربعاء، 28 نوفمبر 2012

لــســان الــجــثــة


لــســان الــجــثــة
  نص:محمد صولة
لا تظلموا الموتى وإن طال المدى   إني أخاف عليكم أن تلتقوا

            أبو العلاء المعري  
 … وها أنذا هنا أود أن أفسر ما حدث لي بالضبط، بعد امتطائي خشبة مغطاة بإزار مطرز الحواشي، وبعض أثواب من قطن أبيض وقطيف مزركش باللمعان، ساعتها، يا لساعتها، تلك اللحظة، كما عشتها مع نفسي أنا الذي كنت أحس بما جرى لي، سأستقدم الآن كل ما لدي من قوة وأعلن أني سأبيت هناك، في ركن قصي كما هو شأن بني الإنسان، حينما يأتيهم أجلهم المحتوم. السماء ربما فوقي والأرض تحتي، هكذا تصورت صعودي لأول مرة فوق أكتاف الناس وهم يسيرون بي نحو المجهول، أعرفه حق المعرفة، لا ضير إن أنا كنت ضد نفسي، أو أن هذه الذائقة الموت ضدي، لكني عندما وقفت على سطح الكرة الأرضية لأول مرة، تلك التي لم أعرفها تمام المعرفة، ذات يوم أنبئت بأن الليل مسار دافئ في عقل امرأة، والنهار ثقب يطل منه رجل يفن على هذا العالم المحكوم بالكوارث والجنون والخداع والخطيئة، لا أحد قال ذات لحظة إنه من هذا الرعيل الذي يستأنس بفساد الأمكنة والأزمنة والأحداث، لوينات كقوس قزح تغلف أبهاء المكان، رائحة البخور تضمخه وترش الأرض المعطاء بالبلل الندي من ماء الزهر، طقوس التهجد والتعبد في صمت تصطخب في العمق ولا تمس الظاهر من الأشياء اللاحبة، أنا الآن فوق، أنام ملولبا في غطاء أبيض معقود الرجلين والوسط والرأس، ودعت ذاكرتي هناك، نسيت أني لم أحمل معي أبدا ما راج أخيرا عن الاكتفاء الذاتي في الاقتصاد والسياسة والدين والثقافة والرياضة…و…و…و…وأشياء أخرى، لا يعرفها إلا الراسخون في العلم، أمثال العلماء الذين هم متفيهقون هذه الأيام في كل شيء، أحمل معي جسدي الذي لم أعد أملك منه غير غبار، سيذروه الذين سيأتون بعدي ذات يوم فويق جبل لا أعرف كيف صعدوا إلى قنته قبلا، عفوا، هل أنا من هذي البلاد التي آخيتها لسنين مضت ولم تآخيني، حاولت أن أفهم فيها أشياء تخص التقليد والوسطية والحداثة، لكني وجدت أن الكلام لم يعد كما كان، فكرت في الهجرة إلى خارج الذات، لم أعثر على غير هذه المنسأة التي دوختني أمدا ولم أستطع الخلاص منها، قمت بما لم يقم به أحد هناك وهنا، ألفيت نفسي لا تقبلني كما أنا، أو كما أريد أن أكون، يا لتعاستي هذه الأيام، ويا لفرحتي أيضا بما حصل و يحصل لي، سيحدث أن يقول قائل: إن هذا الذي نمشي به إلى مطرحه الأخير، كان خير الناس وكان أجملهم وكان وكان، جسدي الذي معي، أهملت أعضاءه في دولاب معترك الحياة، يدي لم تبق أصابعها تفرك خلايا الصدر والبطن والفخذين، والأسفل حين أمسه أحس وكأني أعيد الخرائط التي لم ترسمها تكنولوجيات العصر، عيناي تريان قلب رمادهما، ثم يتذوق اللسان مذاق برودة جافة تخلع عن نفسها بريق هبيب هواء يختلي بالشفتين المثلجتين، لزوجة مثل فراغ السديم تخثرت أسفل الحلق والحنجرة، ترانيم تحتي تخيط الخطو تلو الخطو نحو الملاذ الأخير، وأنا لا أريد أن أكون كما أنا، أنا الذي أحببت الحياة كأي إنسان عاش مائة سنة ونيف، وخرج إلى الناس من محلته بخفي حنين كما يقال، كنت من قبل أرى بعض الأشياء ولا أريد الخوض فيها، لأني أخاف أن يستبقني هذا البعض إليها ويشد الرحال إلى النقيض، أو الشبيه، ويرمي كل آثامه على أديم وجهي الذي تم خدشه من زمان، لم تعد عيناي مركوزتان في موضعهما جيدا كما عهدتهما، فمي استبدل مكانه بآخر لم يعرف أين هو، الأنف خسر حاسة الشم منذ بدأت عفونة تعتري تفاحة القلب، لا أحد بالمرة يمكنه الآن وهنا أن يستبطن ما أحاول تلمسه هناك، قلت مع نفسي أنا الذي لم أختر هذا الإحساس هكذا: ولم أنا في محراب المثول أمام الملكوت …..؟

في الطريق إلى الجبانة الرهيبة، شعرت بي، دغدغني أحدهم حين تمكن من إيصال صوته إلى أذني لاغطا، لم أفهم ذلك قبل، ولا بعد، ما حاولت فهمه أن المرفوع سيبقى دائما مرفوعا والمنصوب منصوبا والمجرور لا حول له ولا قوة، هل تغير شيء هكذا كالعادة؟ سألت نفسي، تمتمت قائلا بأن الكل يعرف ويفهم أن مدبرها حكيم ويتغاضى عن الأمر، هي الأرض تنتشر أمام السائرين بي نحو المكان المعلوم، أتواطأ مع رأسي، أدفعه كي يبقى كما هو، ممددا على شاكلة سمكة مقتولة عنفا وألقي بها في المقلاة، لا أتحلحل، أتمايل وفق حركات الذين يدفعون بي الخشبة أماما، يرددون …، وكأنهم يهتفون، حين اقتربوا من المثوى الأخير أسرعوا الخطو، أنزلوا المحمل أرضا قبالتهم، صلوا، رفعوا الجثة المخبأة وسط إزار أبيض وفوقه بطانية رشت بماء الزهر والحبق والريحان، كانت الخطوات معدودة وخاضعة إلى هندسة دقيقة، لا يمكن للمرء أن يطأ القبر إلا بالتروي، احذر أن تزلق رجلاك وتنهار ثم تسقط، لأنك هنا، نعم  أنت هنا في المقبرة، حيث ينام الإنسان بكامل وعيه الأخروي دون أن يحس بنفسه، ملكت نفسي جيدا، لا أريد أن أعيش من جديد مأساة سنمار، لأني عندما فكرت في خلق شبه كتابة على جسدي السديمي، توعدني أحدهم، لم أكن أعرفه حق المعرفة، وفعل بي ما فعل، ها أنا الآن ممدد على حافة جرح في الأرض التي ستصبح بعد قليل مأواي الظليل والأنقى، ترتفع الأصوات حولي، وبسرعة بطيئة تم الإمساك بطول الجسم من رأسه ووسطه وقدميه، وبرغبة في الوداع الحثيث ينزل بالهيكل في القعر، توضع قطع أخشاب فوقه ثم يبدأ كل شيء في التواري، وكأن الذي كان بالأمس يمشي الهوينى وأصبح في خبر كان، لا، أبدا، لقد وثقت في أمر الذين تركتهم هناك يحملون اسمي، ولأني هنا، فأنا لا زلت أحبهم، ولا أخاف عنهم يوم يأتون، فلا تدعوا وراءكم أتعابكم، إن هنا كل شيء له قيمته، وله كامل الحقيقة، سوف لن أعود إليكم ما دمتم تغادرون الفضاء المنتشي بالصمت، لي مجمل ما تخلفه الوردة حين تقبلها شفة الشمس الصباحية، ولكم ما تبقى من ليلة، لم تر أبدا في زهر كبادها بياضا، يتنبأ بشهوة فجر آت من تخوم الأبدية. 
أحس، وأنا أسفل الأقدام، بيد تدق فوق رأسي خشبة شاهد، وأخرى ترسم امتدادا لرجلاي، شبه مطر تتساقط قطراته على الثرى، ما تبقى من خطوات تتسكع حولي، لا أكاد أفتح عيناي للتو لأرى أين أنا إلا وتحرجني جنبات الشق المفلوع من غير أن تسعفني لتحتويني، رائحة برودة التراب تملأ ثقوب جسدي الذي لم يعد يتحمل المزيد، لا أتململ إلا بفضل ما يمكنه أن يحصل عبثا هكذا، وفعلا شيء ما حصل، ضربات على الأرض تنزل بقوة عليها، وقع أقدام أشخاص لا يريدون مغادرة المكان، حفار القبور هو الآخر لا يزال يدك بقايا الرغام فوق استطالة القبر، يدعكها بقبضة فأسه، ثم يرش الماء المتبقي في قعر السطل على جنبات مرقدي ويبدده شرقا وغربا، أتصور وأنا في عزلة تامة عن العالم، كيف يحيا الميتون في موات الأحياء؟ وفجأة، يخرج طابور من النمل الأحمر يجري نحو صدري، أشعر بدبيب بارد يسري في جنبات جسدي المترهل، ألتزم الصمت الصارخ والمطبق بالكامل، لا أريد صداع الرأس هنا، ومع من؟، ها هو العفريت يختال بخطوه فوق معابر جسمي المخرومة وكأنه يخيطها بعد تمزيق معنف، أكاد أنجر إلى نزاله، وهل أقوى الآن على تحمل تبعات كل ما من شأنه أن يقع لي في هذا الحيز الصاعق بالسكينة والرطوبة، لا أدري ما يمكن أن أفعله للحظة فقط، أدفع رجلاي الباردتين نحو تخوم القبر، ليس هناك حدود بالمرة، عجبا ! اتسعت رقعة مضجعي وارتمت أطرافها خارج حد البصر، كويرات بيضاء تتساقط على أنفي، فتيت من التراب الندي أشبه بحبات الرمل ينزلق صوب صدري وظهري، انفرج الكفن شيئا ما على وجهي الأملس والمثلوج، يداي مصمتتان، وما تبقى من لساني ينهشه ارتباق العطش المكين، حشرات بيضاء تنغل قحاف رأسي، تنبعج عيناي بفعل اندغام البؤبئين في دغش الهامة، بارد أسفل حوضي كشوحة مخروطة تعبث في جوفها الريح الهادرة، وكمن ينصت إلى صمته في غيبة شهية، تأكد له أنه لم يأت إلى هنا ليدع كل ذاكرته هناك، تخيل وقوفه العنيد أمام شبحه، تجاسر، مد يده إلى ريشة سقطت للتو بين أصابعه، أرهف السمع لصوت يناديه من شتيلة ربيع نبتت على أطراف القبر، كان أنذاك يوصي من يأتي إليه، أن يقرأ ما يلي: يحدث هناك شيء ما خارج صفقة التاريخ، يد الخصم تخشبت، قامته الفارعة سمكة نفقت لتوها، ماذا حدث؟ لا شيء، غير أن تمثال المجد الرملي هوى أمام بحات حناجر بقامات شبابية. 
لم أكن كذلك، لكني رأيت في ما يراه النائم أني أركض نحو جماعة من كلاب الليل، تربصت بي، وحاولت أن تجعلني أنام قبل الوقت، استفقت وحملقت في المتحلقين حولي، تنفست الصعداء، تبسمت، قطرات مائية تنقذف على وجهي، أحرك يداي وحوضي ورأسي، أململ لساني ، ألفظ بصاقا وأقول متلعثما: أنا حي، أنا حي.                        
   22ـ11ـ  2012 سيدي سليمان