قراءة في المجموعة القصصية "نزيل في التراب" للقاص مصطفى المودن
تعدنا المجموعة القصصية الأولى لمصطفى المودن منذ البداية برحلة في اتجاه الأعماق، أعماق المجتمع؛ حيث ستقودنا إلى الدروب الضيقة والأزقة الفقيرة والقرى المنسية، وإلى كل ما يرمز إليه التراب.
وقد وفق الكاتب في اختيار القصة الأولى لمجموعته، حيث تعكس تجربة شاب مغربي في بداية المشوار وجها من وجوه هذا المجتمع، فتقايض فتيات في مقتبل العمر ليلة دافئة بأجسادهن الغضة.
في هذه الرحلة يخير الشاب بين حضن امرأة لا يحبها ولا يعرفها، بل بين عدة أجساد كان له حرية الاختيار بين واحد منها، وبين النزول إلى التراب والتيه في الفراغ، فمال دون تفكير للاختيار الثاني..
وإن كانت القصة تعكس وجها قبيحا تسترخص فيه أجساد فتيات في مقتبل العمر، فإنها تعكس أيضا وجها مشرقا لموقف الشاب الذي لا نعرف كيف انتهت رحلته ..
وما يثير الاهتمام في هذه المجموعة القصصية بالإضافة إلى مطلعها،هو الحضور القوي للمرأة فيها، كما أنها تتحفنا بتنوع المشاهد والمواقف، رغم تشابهها في محاولة لرسم الوجه القاسي للمجتمع المغربي خلال التسعينيات من القرن الماضي.
ولا يكتفي القاص بتنويع المواقف لكنه يحاول تنويع اللون القصصي أيضا بين القصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا أو ما بات يعرف اختصارا ب ق.ق.ج.
وما يمكن تسجيله على اللغة التي كتبت بها مجموعته القصصية الأولى عموما أنها تجمع بين البساطة والقوة والعمق. حيث لا يكتفي النص بالسرد القصصي، بل يضيف عليه أحيانا البعد التأملي، ويتحفنا بصور رمزية، تصل إلى ذروتها في بعض اللمحات، مثل ما تشي به قصة "حيرة" حيث أننا ننطلق مع الكاتب من البداية في رحلة لا تهم فيها الملامح والسحنات: "يصعب علي تذكرهم جميعا، حتى سحناتهم ونبرات أصواتهم انمحت من ذاكرتي" ولا التفاصيل البسيطة للمكان والزمان، إنها رحلة تيه مقلقة محيرة سببها حمى غريبة كانت صورة رمزية لحال المجتمع، وتنتهي القصة بنفس الحيرة التي انطلقت منها لتترك القارئ حائرا بين كل الاحتمالات.
يحضر سكان قرية ما في تجربة مصطفى المودن بما يشي بنوع من العرفان والامتنان أكثر مما كان تعبيرا عن مجرد الانتماء، في كل قصة هناك رائحة لتراب القرية، حتى عندما لا يأتي على ذكرها بشكل مباشر، إلا أنها تتجسد بوضوح في بعض المحطات كما هو الحال في قصة "الثعبان والبيض المسلوق"
تجربة المجموعة القصصية "نزيل في التراب" تستحق اهتماما نقديا أكبر، لأنها تحمل في ثنايها بذور تجربة مغربية واعدة، لامتلاكها للخيال الواسع، والتمكن القوي من الصورة الرمزية ومن أدوات اللغة.
وككل عمل لا يزال في بدايته لابد أن تشوبه بعض الشوائب، وكقارئة تمنيت لو وضعت بعض القصص القوية جدا في بداية المجموعة القصصية قبل غيرها.
كما أني لاحظت أن لعبة العناوين ليست من السهولة التي تبدو عليها ، فإن كان بعضها قويا ودالا مثل "نزيل في التراب" "عين على مهزلة" "حيرة"…فإن بعض العناوين التي اعتمدها الكاتب افتقدت إلى الدقة، وكانت أطول مما يجب مثل "تاء التأنيث غير المتحركة :عائشة غير التعيسة" في وقت كان من الممكن أن يكتفي بمقطع واحد من هذا العنوان المركب، أو ربما بكلمة واحدة "عائشة" .
انطبق نفس الأمر على عنوان آخر وهو "حالة: فاصلة من حياة مواطن" وكان يمكن، بدل محاولة قول كل شيء في العنوان، الاكتفاء بوضع كلمة واحدة: "فاصلة" أو «حالة" وستكون أبلغ في رأيي المتواضع.
ويجمع النقاد على أن وضع النهاية لأي قصة قصيرة هي الأهم والأصعب في بعض الأحيان، وقد وفق الكاتب في أغلب الأحيان في نسج نهايات بدقة متناهية، لكنه سقط أحيانا في فخ "وعدت فرحا مسرورا" مثل ما حدث معه في نهاية قصة "تاء التأنيث المتحركة: عائشة غير التعيسة" حيث جاءت النهاية باردة تميل للسذاجة.
وفي نفس القصة يقع القاص في بعض الهنات اللغوية، ويتداخل لديه منطوق الكلمات بين اللهجة الدارجة وبين العربية الفصحى، ففي الصفحة 12يقول "كل الكراسي مملوءة، بل محتجزة بالنسبة إلي أنا التي تعبت من المشي.." وبغض النظر عن الصياغة الكاملة للجملة، فربما كان الأولى وضع كلمة "محجوزة" بدل "محتجزة".
في نفس الصفحة يضيف"خاطبتني إحدى النسوتين" بدل "خاطبتني إحدى السيدتين، أو المرأتين، أو إحداهما..
وفي الصفحة 15" وتتحسس أطرافك وتنعل الشيطان" بدل و"تلعن الشيطان..
و تتسرب كلمة أخرى من القاموس العامي دون قصد في الصفحة 17 "وهم يعسفون دون رحمة"
كما يخل الإطناب والإكثار من الكلمات التي تحمل نفس المعنى أحيانا بجمالية النص مثلما حدث في الصفحة 16 "ولا ينسى بعضكم الحديث عن الكرة والبارصا والريال والرجاء والوداد" وتبدو كلمة "الكرة" زائدة يمكن حذفها حيث إن ما بعدها يحيل عليها.
كما تبدو كلمة "عن كلام" إضافة يمكن حذفها في نفس الصفحة "منكم من يتحدث عن كلام في السياسة.." ونفس الملاحظة يمكن الانتباه إليها في الصفحة 18 في عبارة "لا ينادي عليك أحد إلا في بضع المرات القلائل.."
وتبقى هذه الملاحظات إضافة لبعض الهفوات المطبعية القليلة دون تأثير كبير على قيمة العمل، أو قيمة اللوحات القوية التي تزخر بها المجموعة القصصية "نزيل في التراب" مما يؤشر على انطلاق الخطوات الأولى لرحلة قصصية واعدة في المغرب.
*****************