أهلا بالموت في حضرة شيخها
إلى روح العزيز الحسين الإدريسي
الفقيد الحسين الإدريسي أثناء حفل التكريم (14 نونبر 2010)وخلفه محمد صولة
محمد صولة
وماذا بعد؟
لا أظن أنني سأجد مساحة مناسبة أزرع فيها بعضا من زهيرات برية خبأتها لهذا اليوم، وما من شك في أن المطر هو الآخر سيروي تربتي غدا، عندما أيقنت ـ ذات لحظة ـ أني لا محالة إلى زوال، ومع ذلك سأبذل قصارى جهدي لأكون عند حسن ظن العزيز الحاضر في خبز البسطاء والغائب عن لغط الموتى الأحياء، ولأنني لا أريد أن أترك الجزء الذي جزئ مني خلسة، سأحاول أن أفتح صدري قليلا لأنفث من خلاله ما يساورني من لواعج، هكذا، أرى العزيزالحسين الإدريسي ينهض من رماده كالعنقاء، مشيرا بيده إلى النصر، وهو حتما قادم، في تكريمه كان قويا، وفي مرضه كان الأقوى، لما زرته بعد عيد الأضحى بيومين في منزله العامر، في يوم الجمعة بالضبط، خشيت أن أثقل عليه، لكنه استقبلني كعادته، سألني عن الأصدقاء وحقوق الإنسان، على الرغم من أني في بعض الأمور لا أعرفها، وسألني عن كل شيء، شدني من يدي بقوة وقال: يا ربي ترحمنا يا ربي ترحمنا، سكت وقال ثانية: الله يلعن بو الدنيا، كنت أحس أني أضيع وسط بركة ماحقة لا قرار لها، تذكرت لقاءاتنا في النادي السينمائي وبعض الأنشطة الثقافية في دار الشباب بسيدي سليمان، وخارج المدينة في تازة، وتطوان، ومرتيل، وشفشاون، والرباط، وسطات، وسيدي قاسم، ومكناس، وأماكن أخرى، تذكرت السينما والمسرح والشعر والعمل الجمعوي والسياسة، تذكرت النقابة والحزب والاعتقال لمدة خمس سنوات، وتذكرت أصدقاءه الكثيرين الطيبين.
أنا أسكن في بلوك44 وهو في بلوك 45، لا تفصلنا عن بعضنا البعض إلا منازل قليلة، جاء معي ذات يوم ورأى منزلي وهنأني، ولما تزوجت في1991، قال لي: الآن أصبحت كاملا يا شباب، في طريقنا الوحيدة حيث نسكن، نتناوش ونتنابز، ألقاه أو أصادفه عند ياسر أمام باب صيدليته أو في داخلها فأحييه، أو عند سليمان الخضار أو عند مصطفى البقال، نتجاذب أطراف الحديث هنا وهناك ثم نتوادع، لما كانت له سيارة كنت أركب معه، ومعي أنا أيضا أركبه إلى مقر حزبه ، أو إلى المقهى الذي يحتضن سلالته، كنت أرى فيه أستاذا نموذجيا وتلميذا نشيطا بامتياز، يتأبط محفظته ويسافر بها إلى أقصى ما يمكنه أن يكون السفر، يصغي عندما يتكلم أحد، ويتدخل وقت التدخل مناقشا ومحللا، يترك بصمته في كل مكان يتواجد فيه، في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، في النادي السينمائي، في التجمعات السياسية والاجتماعية والثقافية، مع المعطلين، في ودادية حومته، مع التلاميذ أو الأساتذة، هذا ما سمعته عن رجل أكن له كل الاحترام والتقدير، ولا يمكن لأحد إلا أن يقول فيه: طوبى لإنسان أبيض رحل ومعه كل هذا الحب للجميع بدون استثناء، فانهض أيها العزيز لتر الذين يمشون معك إلى مثواك الأخير، صورتك وعلم فلسطين وكلمات الله تغطي فضاء الطريق، من مسجد الهدى إلى المقبرة، حيث كنت شامخا وجميلا، جعلت الجميع يحس بإنسانيته، لا فرق بين هذا وذاك، هكذا كنت وستزال في أذهاننا، نحن الذين عايشناك وتعلمنا منك كيف نهتم بالأشياء الصغيرة التي تؤسس هذا الذي رأيناه في رحيلك.
جاء في الحديث القدسي عن الرسول صلى الله عليه وسلم: من فزع نفسه بالموت هانت عليه الدنيا.
وجاء عن أمير المؤمنين عليه السلام: إن للمرء المسلم ثلاثة أخلاء، فخليل يقول له: أنا معك حيا أو ميتا وهو علمه، وخليل يقول له: أنا معك حتى تموت وهو ماله، وإذا مات صار للورثة، وخليل يقول له: أنا معك إلى باب قبرك فأخليك وهو ولده .( المعاني 69 الباب 59) .
وقال عز وجل: كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة .(الأنبياء
35).
وقال ناظم الزرجاوي:
لو كان مجيئي باختياري ما جئت… ولو كانت صيرورتي بأمري ما صرت
وقال قيس بن الخطيم:
أرى الموت لا يرعى على ذي قرابة… وإن كان في الدنيا عزيزا بمقعد
وأنا أبحث وجدت أعرابيا يقول في الموت:
في السابقين الأولين من القرون لنا البصائر
لما رأيت موارد للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها يمضي الأكابر والأصاغر
أيقنت أني لا محالة حيث سار القوم سائر
وقال شاعر:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته… حتما على آلة حدباء محمول
فإذا حملت إلى القبور جنازة… فاعلم بأنك بعدها محمول.
فهل أوفي العزيز الحسين الإدريسي حقه هنا، لا أظن، وليسمح لي، لأني ربما أعرفه سينام وهو مطمئن البال، فهو الذي كان يجمعنا في حياته، وهو الذي جمعنا في مماته، وقد قيل: إن الناس في غفلة… فإذا ماتوا انتبهوا.
ومرحبا بالموت حبيب جاء بعد غياب كما سلك أنس بن مالك.