في أول بادرة من نوعها اتفق أعضاء "تجمع المدونين المغاربة " على إطلاق أول حملة إعلامية تدوينية موحدة، وقد تم اختيار التطرق لموضوع" أطفال لا يخيمون"، ينشر كل عضو مساهمته في مدونته، ويشار لها في المدونة المشتركة للتجمع، ويتم الترويج لذلك على نــــــــــــطــــــــــاق واســـــــــــــــــــــــع.
أطــــــــــــــفال لا يخيــمــــــــــــون
تهون معضلة "أطفال لا يخيمون" أمام أطفال لا يدرسون، لكن تصبح الظاهرة أخطر أمام أطفال يشتغلون، وما أكثرهم، لتوضع على المحك مسؤولية الجميع بما فيهم الجهات الرسمية الموكول لها تطبيق مجمل اتفاقية "حقوق الطفل" التي صادق عليها المغرب، وكذلك بقية التشريعات الوطنية التي تحمي الطفولة. لا يعقل أن يشتغل طفل ليعيل عائلتين، عائلته وعائلة مشغله، منتهى الظلم.
هل كل الأطفال يخيمون؟
هل كل الأطفال يروحون عن أنفسهم بعد موسم دراسي طويل؟
هل كل الأطفال يروحون إلى الجبل أو الشاطئ أو أي مكان آخر ليسوا متعودين على العيش فيه لقضاء لحظات استجمام؟ هل كل أطفال المغرب يتركون وراءهم ذويهم وأصدقائهم وزنقتهم وحيهم لينطلقوا نحو الآفاق؟ نحو فتح علاقات إنسانية جديدة، وأصدقاء جدد، وفضاء أرحب لممارسة شغب طفولي جميل تكون ضوابط الامتثال نادرة فيه أو منعدمة؟
وهل أصلا كل الأطفال يدرسون؟
تلك حكاية أخرى، جرحها أعمق من عدم التخييم.
دفعتني للكتابة في الموضوع الرغبة المشتركة العارمة في إبداع "حملات إعلامية تدوينية" بين رواد التدوين المغاربة، وخاصة أعضاء "تجمع المدونين المغاربة"، وأكيد أنها ستتلوها حملات أخرى، لمواضيع أخرى، كما سيتم تحسين مثل هذه "الخرجات الإعلامية" باستمرار.
لكن دافعي الشخصي للكتابة في هذا الموضوع بالضبط هو معاناة كل تلاميذي الذين أدرسهم، عند كل بداية مشوار دراسي جديد، أطرح أسئلة عليهم حول الأماكن التي زارها كل طفل أثناء العطلة الصيفية الطويلة، يدخل ذلك في إطار الحوار الذي يجب أن يلجأ إليه المدرس (ة) باستمرار، لخلق جو من الألفة والتقارب، وكذلك سبر الأوضاع الاجتماعية والنفسية لكل متعلم(ة)… لن أنسى إطلاقا جواب أصغر تلميذ أجابني حول نفس السؤال في بداية السنة الدراسية 2008/09، فقد ذكر أنه لم يزر إطلاقا حتى أقرب مدينة صغيرة تبعد عن قريته بعشرين كيلومتر وهو في سن الإثنى عشر!
تتفاوت إجابات بعضهم، منهم من يزور أقارب له لمدد معينة، إما في قرى مجاورة، أو في مدن، تكون أسباب الزيارات في الغالبة عائلية محضة، كحضور حفلة عرس مثلا، وهناك من يقضي بضعة أيام عند أفراد من الأسر، وغالبا ما يدخل ذلك في إطار تبادل الزيارات لا غير، ويفضل القرويون رد الدين لأقاربهم الساكنين بالمدن في فصل الربيع حينما تزهر الحقول ويعتدل الجو ويحلى التجوال في البوادي، فتستقبل الأسر القروية ضيوفها بكامل الترحاب والمودة.
أعرف أن أغلب أطفال القرى ينغمسون في أعمال مختلفة أثناء عطلة الصيف الطويلة، هناك من يرعى الماشية من طلوع الفجر، إلى رسو الشمس في كبد السماء، ومرة ثانية في نفس اليوم من الزوال إلى غروب الشمس، الأبقار والأغنام لا تشبع أبدا، والأطفال وراءها يلهثون طول النهار. كل الأسر تعتبر فصل الصيف للعمل وجمع المحاصيل وليس "للعب واللهو" والاصطياف! كل أفرادها يتعاونون من أجل توفير القوت والمعيشة، وكل يوم فيه عمل، وللطفل دور في ذلك ينتظره.
لا أحد من الجهات الرسمية يفكر في حق أطفال القرى وأطفال الفقراء في التخييم، لا يدخل في "همّ" الجماعات المحلية "المنتخبة" ذلك، بل هذه الجماعات وحسب ما تتوفر عليه من مستشارين أميين وأشباه أميين، في الغالب لا تفكر في أي جانب ثقافي وترفيهي للساكنة، فبالأحرى أن يسترعي انتباها تخييم الأطفال، النيابة التعليمية التي أشتغل ضمن مجالها الإداري أخبرتنا على غرار بقية النيابات المتواجدة في كل إقليم، عبر مذكرة رسمية أن إحدى المخيمات خصصت لأطفال الإقليم خمسين مقعدا! وبالمقابل طبعا، ودون الحديث عن التنقل وغيره، وهم يعلمون مسبقا أن مذكرتهم مجرد "صيحة في واد ليس له قرار".
مرة حاولت أن أبادر لنفك عن بعض الأطفال العزلة المقنتة/البغيضة التي تلفهم، فعقدت اتصالا مع إحدى الجمعيات الناشطة بأقرب مدينة قصد ضم بعض الأطفال من العالم القروي إلى صفوف روادها، لكن استجابة الآباء كانت منعدمة، والسبب معروف، بالإضافة إلى تشغيل الأطفال، هناك عامل نقص التجربة لديهم، وعدم شعورهم بجدوى التخييم، وقد حاولت أن أطمئن الآباء، وأخبرتهم بحرصي على سلامة أبنائهم والمساهمة في تنقيلهم من القرية إلى المدينة، وإعادتهم إليها حالة رجوعهم من المخيم، لكن لا أحد استجاب رغم إعلان الرغبة القوية للأطفال في ذلك.
ما يثير الانتباه في مسألة التخييم:
ـ قيام الدولة في السنوات الماضية المنصرمة بجهود واضحة من حيث الرفع من عدد الأطفال المستفيدين من المخيمات.
ـ ما زال الاعتماد قائما في تنظيم وتأطير المخيمات على مساهمة جمعيات مختلفة المشارب والتوجهات، وعدم قدرة الجهات الرسمية على القيام بذلك بنسبة مهمة مادام ذلك يدخل في إطار مهامها.
ـ ضعف التجهيزات في غالبية المخيمات الصيفية، مما قد يعرض صحة وحياة بعض المخيمين للخطر.
ـ حصول تمييز غير مقبول بين أطفال المغرب، بين الفقراء وسكان البوادي، وبين فئات اجتماعية أخرى تجد الفرصة ليخيم أبناؤها.
ـ توفر بعض المؤسسات العمومية والخاصة على مركبات سياحية يخيم فيها أبناء الموظفين والمستخدمين فقط، ولا ينفتحون على جزء من أبناء الوطن الآخرين كمساهمة رمزية من جانبهم، على الأقل سينمو أبناؤهم على التعايش مع مختلف الفئات الاجتماعية.
ـ لا يجب أن نعتبر المخيمات الحضرية تخييما بكل ما في الكلمة من معنى، ليس انتقال أطفال محرومين كل يوم من منازلهم لمؤسسة عمومية في نفس مدينتهم "مخيما"! هو نوع من "السجن" للمحرومين وغبنا في حقهم، به تضخم الجهات المسؤولة أرقام الأطفال المستفيدين.
ـ بقدر ما تساهم الجمعيات في تخفيف الضغط عن الجهات المسؤولة والنيابة عنها، مما يؤكد عدم تحملها مسؤوليتها كاملة، بقدر ما تعتبر بعض تلك الجمعيات العملية مناسبة سنوية لجمع أرباح، والاقتصاد من ميزانية التغذية لنفس الغرض، مما يضر بالأهداف النبيلة للعمل الجمعوي.
ـ ضعف التأطير والتنشيط على العموم؛ ليس التنشيط هو إتعاب الأطفال بمهام صعبة سواء من أجل المساهمة في بعض الأشغال، أو تكليفهم ببعض "المهام" التنشيطية أمام الفراغ الذي يجد المشاركون أنفسهم فيه، فيلقنهم بعض " المنشطين" أناشيد وأغاني تافهة المحتوى، مما يفرض الاجتهاد لوضع أنشطة مختلفة، وضرورة إنجاز الجمعيات المساهمة لأغلبها، مع الحرص من رفع مستوى تلك الأنشطة، علما أن الوقت للاستجمام وليس لتلقين دروس إضافية.
ـ أن تضع الجهات المسؤولة "دفتر تحملات" يتضمن توفر الشروط الضرورية، الخاصة بكل جمعية حتى تقبل مساهمتها، في انتظار أن تتحمل الدولة مسؤوليتها كاملة.
ـ ضرورة مساهمة كل الإدارات العمومية في التخييم، كل من موقع مسؤوليتها، الجهاز الطبي للمراقبة الصحية المجانية، السكك الحديدة للنقل بثمن رمزي وإعفاء أبناء الفقراء من ذلك، الجماعات المحلية تساهم لصالح الأطفال بما تستطيع… الوزارات المعنية توفر اللوجستيك المطلوب.
ـ ضرورة انخراط كافة جمعيات "الأعمال الاجتماعية" التي يساهم فيها الموظفون والمستخدمون والأجراء بقسط من أجورهم، كما تحصل بعض هذه الجمعيات على مساعدات حكومية أحيانا، لكن مساهمة بعضها يبقى جد ضعيف، كما هو عليه الشأن بالنسبة ل"مؤسسة محمد السادس للأعمال الاجتماعية" الخاص بموظفي التعليم والتكوين المهني.
خاتمة: المخيم ليس ترفا، ومطلبا زائدا لا رجاء من ورائه ولا طائل، إنه إعادة الحيوية للأطفال بعد سنة دراسية متعبة، إنه فضاء للمعرفة والتعارف والتعود على تحمل المسؤولية، المخيم حلم ينتظره الأطفال بشغف، وذكرى لن تنمحي لمن أتيحت لهم فرص المشاركة، لا يمكن أن نسكت عن الإجحاف الذي يمارس ضد فئة اجتماعية تعاني قهرا مضاعفا، لنساهم في رفع الغطاء عن الأطفال المحرومين، ونحيي بالمناسبة أعضاء من "تجمع المدونين المغاربة" الذين بادروا للكتابة في الموضوع، وتأكيدهم على تأطير أنشطة "لأطفال لا يخيمون" أثناء هذه العطلة.
حتى لا ننسى، في بحر هذه السنة زار التلميذ النجيب الأصغر في القسم الخامس الابتدائي أقرب مدينة لسكن أسرته، وذلك لأول مرة في حياته، بعدما بلغ سن الثالثة عشر، لكنه أكيد سيقضي سحابة صيفه وراء قطيع الغنم، إلا إذا حدثت معجزة.
مصطفى لمودن