قصة قصيرة: إلى متى أيها الإعلام؟
روما: مصطفى خداد (*)
أصيبت أم مغربية وفتاتاها الحسناوتان بأنفلونزا الخنازير، وكان أهون عليها أن تموت ولا ترى جميلتيها اليافعتين تعطسان أو تلازمهما دزة من المناديل البيضاء وعلب أدوية مضادة للجراثيم.
انحصر الحدث وهوله داخل البيت القصديري الضيق، وتوالت المصيبة تلو المصيبة، وخافت الأم سريان الخبر في حي آخر ما ينقصه هو هذا المرض المرعب.
في ذهن الأم عديد من الأسئلة العالقة بدون أي جواب منطقي ومقنع، سمعت من السلطات أن الوضع مسيطر عليه وأنه لا خوف على المواطنين ولا هم يحزنون، فسلمت وآمنت بقول السلطات .
خمسة أمتار ونصف المتر مربع، تفرق بينها جدران من قطع خشب مترهل، تأكل منها الأرضة ولصوص الزيت لدى المغاربة" سراق الزيت "، و تسكنها عناكب الفقر، أوان مكدسة على لوح خشبي مشحم بزيت الوجبات المتصاعد، تثيرك طنجرة سوداء، غطاءها مثقوب يخترقه سلك مصدأ يساعد على حملها من على النار وهي تشبه إلى حد كبير طنجرة أيام الدراسة العجيبة، تلفاز يشع منه الضوء، وهو ألمع ما يحتويه هذا السجن الرحب، فاخر وفاخم كل الفخامة، تحته مستقبل قنوات فضائي .
ألم يكن من الجدير بهذه الأم أن تستبدل هذا الجهاز بضرورة أخرى تفاديا لعدم التناسق ؟
سؤال يطرحه كل غريب زائر، وهو بالنسبة إلى المنطق المغربي بديهي، لكنه بلادة، بل جهل، إنها لم تشتره إلا لأن له ضرورة تدريها وتعيها كل الوعي خاصة وأن لها ابنتان .
اشتد المرض، أخذ الكل يسعل، فأنتشر الوباء ليصل الجيران وتتسع رقعته إلى أن أصبح الحي كله بؤرة للأنفلونزا.
طرح السؤال من جديد لكن بشكل جماعي :
ــ من أين أتتنا المصيبة ؟
وصل الأمر أخيرا للسلطات، واستنفرت وزارة الصحة والداخلية كل إمكانياتها وطاقاتها لمواجهة الوباء، فعزلت المنطقة كليا وكانت محور وسائل الإعلام المختلفة، أخذوا العينات وضربوا حضرا على المنطقة وشعر السكان بالاهتمام و الأهمية والعناية الفائقة لأول مرة.
انهالت الخيرات على الحي وكان لهم ما اشتهوه من طعام وشراب طالما سبحوا في أحلامهم محاولين "درك بعض ما أصبح لهم" دون جدوى .
استبدلت دور الصفيح بالخيام المؤقتة درءا لانتقادات وسائل الإعلام الأجنبية، وتغير حال الحي داخل المدينة، و علم أعيانها و أكابرها لأول مرة، أن هناك حيا بتلك المواصفات في باحة حديقتهم الخلفية المنسية.
بعد أيام من التنقيب والبحث المضني، توصلت السلطات إلى نتيجة مفزعة للحي قبل الشعب، فقررت كعادتها ألا تذيع الخبر إلى حين إيجاد صيغة لمحاربة الداء، لكن و لأن القرصنة من أبرز السمات التي تقض مضجع النظام فقد تسرب الخبر.
في اليوم التالي ، أخذ الجميع يتخلصون من أجهزة التلفاز والاستقبال معا، فكانت فرصة للمتشردين والباعة المتصعلكين والمتسولين الذين لا يأبهون لأي مرض، لأنهم أصلا في وباء يعتقدون أن لا وباء يضاهيه، كانت لهم فرصة تحقيق أحلامهم البسيطة في التسمر أمام الشاشة الزجاجية لمدد غير معلومة، و عيش إحساس العولمة والانتماء للمدنية الجديدة.
شاع إذن، خبر مسؤولية المسلسلات المكسيكية المترجمة، عن الداء، وخرجت وزارة الصحة عن صمتها أخيرا وأكدت الخبر، فجمع وزير الإعلام حقائبه واتجه صوب المطار، واستقل الطائرة فطار، ولم يعثر له بعد ذلك على آثار .
أعطت وزارة الصحة تفسيرا علميا مطولا لم يفهمه أحد غيري، فحواه أن إدمان سكان الحي لهذه المسلسلات هو السبب في انتقال العدوى، خاصة و أن الجهاز الذي ضبط عند العائلة الأولى، جهاز عالي التقنية والتطور، إذ بإمكانه أن ينقل للمشاهد كامل الشعور ليعش الحدث وكأنه مكسيكي مغربي من بيت صفيحي يصبو إلى الغنى، جهاز يوصل الحزن والبهجة معا، ليتجاوزهما إلى إيصال أنفاس وخفقات أبطال الفيلم، ففيه مجسات تتحسس حرارة الجسم، خاصة لدى الجنس الخشن المشهور باللطيف عند غيري طبعا، لتجعل من المشاهد ذي القلب المرهف والعقل الساذج عبدا لا يحب الحرية والانعتاق.
فإلى متى أيها الإعلام ؟
——————
تنشر هذه القصة بالتزامن ضمن الجريدة المغربية بإيطاليا.
(*) كاتب وصحفي مغربي مقيم بإيطاليا