الجمعة، 26 يوليو 2013

مع محمد شكري في خلوده

مع محمد شكري في خلوده

محمد شكري 


مصطفى لمودن
دخلت إحدى المكتبات أبحث عن كتاب بعينه لم أجده، وفي نفس الوقت أتصفح العناوين، فقد أتصادف مع كتاب أحتاجه أو يروقني.. وإذا بي أجد بضعة نسخ من "الخبز الحافي" وهي تحمل الطبعة الحادية عشر، جميل فعلا أن تطبع في المغرب مثل هذه الرواية التي خلفها الفقيد محمد شكري أكثر من عشر مرات في مجتمع يقال عنه إنه غير قارئ!.. شكري انتصر على خصومه، انتصر على كل "المحافظين" الذين يتقمصون شخصية القرصان الذي يغطي عينا بالسواد.. فلا يرون إلا جانبا واحدا من الوجود، لا يرون إلا ما يرغبون في رؤيته، وينكرون أن يكون العالم مختلفا ومتنوعا.. انتصر شكري على كل الذين ضايقوه وحاصروه.. كان شكري يطبع كتبه من جيبه، وأي مال يتوفر عليه شكري؟!
مرة شارك شكري في برنامج ثقافي متلفز وقد وصف "ناشر" ما يكتبه شكري بأبخس وأقذح الأوصاف دون أن يرف له جفن، وقال إنه لن ينشر مثل هذا الأدب في إشارة لما يكتبه شكري.. ها نحن الآن يا شكري شهود على هزمك لذلك الناشر الذي لا يفرق بين نشر الغسيل على السطح ونشر الكتب.. وكتباك "الخبز الحافي" على رأس قائمة الكتب المغربية المترجمة للغات العالم، فقد ترجم إلى ما يناهز أربعين لغة حسب ما جاء في غلاف الرواية نفسها في طبعة "الفنك" ماي 2007.. لقد ظل شكري (1935ـ 2003) يحمل معه مسودة الرواية في جيبه لأزيد من عقد، ولم يجد من ينشرها. ولما ظهرت أولا مترجمة إلى الفرنسية على يد الطاهر بنجلون في أوربا، ولما توالت الترجمات والدراسات والتنويهات والنقد لهذه الرواية "المفازة" في شساعة بيداء تحمل الغموض الواضح والوضوح المبهم.. حينها ظهر "لزوما" نشر الرواية الأصل بالعربية!
سأظل ممتنا لأحد أساتذتي في مادة الفرنسية بالثانوي وهو منحدر من أصل بلجيكي وقد أمدني بنسخة من رواية الخبز الحافي بعدما قبل طلبي، لكنه اشترط علي أن التحق به في داره ليمدني بها.. ف"الخبز الحافي" بمثابة علبة الهيروين ممنوع تصفحه أو حمله علانية.. وقد بقي الكتاب ممنوعا تداوله في المغرب لسنوات طوال، لنتصور فداحة الأمر، دولة بكاملها تشن الحرب على كتاب!.. إلى أن جاءت "حكومة التناوب" فأفرجت عن الكتاب. وانتصر من جديد محمد شكري على كل خصومه.. قرأت شكري ابن بلدي في وطني المغرب بالفرنسية أولا.. يا للفداحة وقد بقينا صامتين على ذلك، كما ما نزال صامتين على فداحات ترتكب هنا وهناك.
شكري بحسه النافذ جاء برواية قبل زمانها، ليس ذلك مرتبطا بما قد يعتقده البعض عرضا بورنوغرافيا (Pornographique) حينما يتحدث عن المغامرات الجنسية وعن علاقاته مع خادمات الجنس، أو أن يتحدث بكل تلك القساوة عن والده حيث كتب "كثيرا ما كان أبي يباغتني في الشارع من الخلف ويقبض علي من ياقة قميصي أو يلوي ذراعي إلى ظهري بيد وباليد الأخرى ينهال عليّ ضربا حتى يسيل دمي.." (نفس المرجع ص 75)، أو أن يثير كل تلك المأساة التي لاقتها أسرته وهي ترتحل بين مدن المغرب والجزائر (وصلنا إلى وهران ليلا . ص:53)، قبل أن تستقر في طنجة وكيف يرى إخوته يتضورون جوعا أو يموت أحدهم والمتهم هو أب شكري؛ "يلوي اللعين عنقه بعنف. أخي يتلوى. الدم يتدفق. أهرب خارج البيت تاركا إيّاه يسكت أمي باللكم والرفس." (ص9).. ليس في كل هذا التوصيف القاسي فقط، بل في تلك المحاكمة التي رفعها ضدنا، ضد كل المجتمع.. هنا تكمن عبقرية شكري في "الخبز الحافي"، إنه يوجه رسالة قوية إلى كل من يدعي العفة والنزاهة والمسؤولية أن ينظر في هذه الرواية (البيان) بكل ثقلها التعبيري الواضح حول تحدي الجميع، تحدي القيم التي تمجد النفاق دون أن تفصح عنه، من خلال الرواية (السيرة الذاتية) شكري ليس ممتنا لأحد، حتى تعلمه حروف اللغة وقع في السجن.. وليس خارجه، لنتصور هذه المفارقة، تعليم اللغة بما تعنيه من بحث عن الحرية والانطلاق والرغبة والتواصل تتم بين جدران مغلقة.. لولا طموح شكري بذاته لما وصلنا كاتب في قيمة شكري.. تلك هي الخلاصة الثانية.. عصامية الرجل في كل شيء، لهذا سعى أن يقيم محاكمة ضدنا عبر معاناة أسرته ونذوب جسده وطموحاته وإخفاقاته، بل حتى عبر طبعه لكتبه من ماله الخاص..  شكري ليس حالة فريدة في المعاناة، لكنه تخلص من معاناته بالكتابة، وبذلك خلد بيننا وبين الأحياء اللاحقين.
ألف تحية لك أيها الريفي البدوي الذي شق له في سماء الأدب اسما لامعا.
أيها الشباب اقروا أدبكم، أدب المغاربة، أدب شكري ولا تلتفتوا لمن يرفع لواءات التحجير على عقول الناس، ولا ينفك يفصح عن غيرته من الفن لما يحمله من إبداع وحرية وتواصل وانطلاقة..
-----------

وبجريدة "فضاء الحوار" عدد 335 بتاريخ 23 يوليوز 2013