الاثنين، 1 سبتمبر 2014

الواقع الثقافي: أندد، أستنكر وأحتج./ ذ. العباس جدة

الواقع الثقافي: أندد، أستنكر وأحتج.

ذ. العباس جدة

 هل آن الأوان للحديث عن إقلاع ثقافي وفني في البلاد العربية؟ في ظل الظروف السياسية والإجتماعية والثقافية الراهنة، هل من المنطقي أن نأمل في نهضة إجتماعية وثقافية وفنية في البلدان العربية وخاصة في مغربنا الأقصى؟ الحلم والأمل لا ينقطعان بالطبع ولا يمكن بأي حال أن نستسلم لليأس، غير أن السبيل الكفيل لبلوغ الهدف لا زال بعيدا وتعترضه صعوبات وعراقيل ومعوقات متداخلة ومتشابكة، منها ماهو موضوعي ومنها ماهو ذاتي. كيف؟ ولماذا؟
 إن الطريق الصحيح لتحقيق النهضة الثقافية والفكرية هو نوع العقلية التي نمتلك: كيف نفكر؟ كيف نتصور الإنسان والعالم؟ كيف نعامل الآخر؟ كيف نتصرف في حياتنا المهنية والعامة والخاصة؟ ماهي القيم التي تسود وتحكم أفعلنا وسلوكاتنا وردود أفعالنا؟ هل هي التسامح الفكري والحوار والإقناع والعرفان واحترام الغير والمنافسة الشريفة والنزاهة والمصلحة العامة والعمل الجماعي وحب العمل والإحساس بالمسؤولية والإيمان بالعقل والمنطق والتشبع بقيم العدل والديموقراطية والإنصاف والمساواة؟
لا أعتقد أن الإنسان العربي والمغربي يمتلك هذا النوع من التفكير والسلوك اللذين يساعدان على السير في طريق النهضة الإجتماعية والثقافية المأمولة منذ عقود طويلة؛ بل إن هذه القيم الحداثية تكاد تنعدم في مجتمعاتنا العربية ليحل محلها التعصب الفكري والتفكير اللاهوتي واللاعقل والدوغمائية والإقصاء والتهميش والنبذ والحسد والمؤامرة والدسائس والكذب والولاءات واللوبيات والطائفية والتكتلات الرجعية، الى غير ذلك من الأفكار والمعتقدات والمسلكيات التي تفرمل بالتأكيد السيرورة الإجتماعية والثقافية للبلاد العربية.
لكن من المسؤول عن هذا الوضع المتردي للثقافة والفن في بلادنا وعن هذه العقلية المتخلفة التي تكبح كل محاولة للتقدم وتناصب العداء للجديد وللحداثة؟
المسؤولية في تقديري يتقاسمها ثلاثة أطراف: الدولة، المجتمع، والمثقفون.
الدولة: لا يختلف إثنان في كون الدولة المغربية تتحمل النصيب الأوفر في تحمل مسؤولية وضعنا الثقافي والفني البئيس والمأزوم. فالدولة بحكوماتها المتعاقبة لا تهتم بالشأن الثقافي ولا تبالي بالوضع الفكري والعلمي والفني للبلاد، بل لا تعمل حتى على توفير الشروط الكفيلة بممارسة فكرية وفنية سليمة وطبيعية، وبالتالي تكرس الجهل بدل الترويج للفكر والثقافة والفن. ويتجلى هذا في ما يعانيه المثقفون والأدباء والفنانون من اقصاء ونبذ وتهميش. إن الكثير من الكفاءات العلمية والمبدعين والأدباء مغمورون ومنبوذون، وتكبح نشاطاتهم العديد من العراقيل من طبع ونشر وتوزيع لأعمالهم الفنية والأدبية، في حين أن من مهام الدولة المواطِنة الكشف عن هذه الكفاءات ودعم وتشجيع الفعل الثقافي والفني؛ لكن دولتنا المغربية بحكوماتها المتتالية تعمق الأزمة بخلق "لوبيات ثقافية" لمحاربة المثقفين والمبدعين، حيث يمكن أن نعثر على هؤلاء الذين يحاولون اغتيال الفكر ومحاصرة المثقفين الحقيقيين في كل قطاع من القطاعات التي لها علاقة بالعلم والمعرفة والفن، كوزارة الثقافة ووزارة التربية الوطنية ووزارة الشباب ووزارة الإعلام وكذا المجالس البلدية والقروية.
 المجتمع: إن المجتمع المغربي بصفة عامة لا زال متمسكا بعقلية القرون المظلمة، ويؤمن بالخرافة ويتشبث بالأسلاف وبماضيهم المجيد. فالجهل هو الذي يحكم المجتمعات العربية بصفة عامة. والجهل حسب الفيلسوف اسبينوزا هو علة كل الشرور والمصائب. إنها مجتمعات تقليدية بعقلية عتيقة، تعادي العلم والثقافة وتناصب العداء للفن ولكل ماهو جديد، متطور وعقلاني؛ وتتمسك بالماضي الغابر وتكبلها العادات والتقاليد والتصورات الماضوية التي تتنافي كليا مع معطيات الزمن الحاضر ومع الفكر الحداثي، بما تفترضه الحداثة من تسامح فكري وحوار وتواصل بين الذوات وتعاون من أجل المصلحة العامة وعقلانية وتقدم علمي والديموقراطية والحرية والحق في البوح بأفكار مغايرة لما هو سائد ومتعارف عليه منذ قرون. والجدير بالذكر أن سلطة المجتمع في تشكل وتكوين العقليات وتطويع النفوس والعقول أقوى وأعظم من سلطة الدولة بكثير. وبناءا على هذه الملاحظة فإن الدولة المغربية وحكوماتها تخشى سلطة المجتمع العاتية، تتفادى الإصلاح أو حتى محاولة تعديل بعض المعتقدات والعادات الشعبية ولو كانت سخيفة ومتجاوزة. ومن ثم تجد الحكومات المغربية نفسها مضطرة- وهنا أتكلم عن الحكومات التي تروم "بعضا" من الإصلاح والتجديد- تجد نفسها مضطرة لمجاراة قيم المجتمع وإبرام الهدنة معه لكي لا تستفز المألوف والمتعارف عليه أو  تشكك في العادات الراسخة الفرعونية والقواعد الإسمنتية، وهكذا تتخلي عن إرادة الإصلاح. فلا قوة ولا مقاومة ضد الماضي والتقاليد البالية.
3 ـ المثقفون: أما الطرف الثالث الذي يساهم بوعي أو بدون وعي في تهميش الثقافة وتأزيم واقع الآداب والفنون، فهم المثقفون والنقاد والمبدعون أنفسهم. إنهم يعمقون أزمة الثقافة في البلاد المغربية (والعربية عامة) من حيث لا يدركون. كيف لا وهم نتاج نبتة غرست بشكل غير سليم ولم تحظ بالسقي الكافي؟ فهناك عدد لا بأس به- وبأسف شديد- من المثقفين والأدباء والمبدعين الذين لم يتحرروا بعد من ثقافة المجتمع التقليدية المعادية للجديد والخلق والإبداع وتتمظهر تبعية واستلاب هؤلاء في بعض السلوكات والمواقف التي لا تنم عن رغبة في خدمة الثقافة والفن، كالحسد وتجاهل انتاجات الزملاء وممارسة الإقصاء والتهميش على المنافسين والإنخراط في لوبيات وتكتلات ذات مصالح شخصية ضيقة ودنيئة، متواجدة في كل الأجناس الأدبية من رواية وقصة وشعر وفنون، كالسينما والمسرح والفن التشكيلي. إن المبدعين والفنانين يتقاتلون فيما بينهم، فلا أحد يعترف بإنتاج الآخر، ولا أحد يعامل زميله الروائي أو المسرحي أو الشاعر باحترام وتقدير، ولا أحد منهم – بالطبع مع بعض الإستثناءات- يحاول التواصل مع الآخر، ولا أحد يعترف بقيمة ابداع زميله في الهم والإهتمام، ولا أحد تملأ قلبه مشاعر( وهنا أركز على المسرحيين من مؤلفين ومخرجين وممثلين لأنني أعرفهم جيدا) الصدق والنزاهة والود والمحبة لأصدقائه المسرحيين أوالمثقفين. كيف للمبدع أن يمارس الإبداع وينتج الجمال وأن يتطلع بفنه الى القيم الإنسانية العليا، وقلبه مليء بالضغينة والكره والنقمة والخداع؟ كل واحد منهم لا يتحدث إلا عن نفسه وعن ابداعاته وانتاجاته الفكرية والفنية الهائلة وبكثير من الوثوقية البليدة وقد جرفته هاوية الغرور والغطرسة وأصيب بجنون العظمة.
لهذا أندد بتقصير النقاد الأدبين والفنيين في القيام بواجبهم المتمثل في اكتشاف المواهب وتشجيعها  وفي ممارسة نقد نزيه وموضوعي ينأى عن الزبونية والولاءات والكتابة "تحت الطلب" والتنزه عن اللويبات الثقافية القاتلة. كما أندد بتخاذل غالبية الأدباء والفنانين الذين لم يتحرروا بعد من ثقافة  القبيلة التي تقوم على التعصب والتحجر الفكري والرغبة في إقصاء الغير واللجوء الى العنف الرمزي والجسدي... أجل هناك من الفنانين والمثقفين الذين لا يترددون في استعمال أياديهم...
وأستنكر سلطة المجتمع القاهرة والعاتية، التي ترهبنا وتفرض علينا وعلى الناس أجمعين قيما وأفكارا مغلوطة وسلوكات تعادي العلم والتقدم والفن.
وأحتج أخيرا على الدولة المغربية التي لا تتحمل مسؤوليتها في محاربة قوى الظلام المعادية للعلم وللفن. واحتجاجي يصبح مضاعفا عندما تتعمد هذه الدولة غرس بذور الجهل والإتكالية والنفور من العمل والغش والفساد في نفوس مواطنيها، ولا تدعم وتزكي مجهود الأستاذ والمعلم ولا تأبه بالمثقف والمبدع.


انتحار الشباب اليحياوي..وهذا هو المتهم!/حميد هيمة.

انتحار الشباب اليحياوي..وهذا هو المتهم!
 Affichage de 10511328_10202367831857101_3097709787075586263_n.jpg en cours...
حميد هيمة.
نحن، هنا، في جماعة بوكو فساد، نحن هنا في قلب مسالك كتامة! نعم، هنا كولومبيا، حيت تستقر مافيا الفساد المنظم، وعصابات مصادرة أحلام شبابنا في المستقبل!
هنا يتساقط، يوميا، شباب في عمر الزهور في دوامة التعاطي لكل أشكال المخدرات، التي "تتسرب" إلى المدينة بكميات كافية لإشباع الحاجيات المتزايدة لهذا "السوق" الكبيرة، ولتشجيع أفواج جديدة، من الشابات والشباب، لممارسة هذه الغواية القاتلة!
كولومبيا الغرب، كاختزال مكثف لانغراس سلوكات الإدمان على المخدرات بكل أنواعها، وللدلالة على انتشار كل ظواهر الانحراف الاجتماعي؛ من عصابات منظمة للنشل، والدعارة، والسرقة، واعتراض سبيل المارة...الخ.
إن "وعي" "النخبة" الفاسدة بضرورة تأمين شروط استمرارها، هو ما يجعلها تبدع في صناعة حاضنة اجتماعية تُطبّع مع كل ظواهر الانحراف الاجتماعي. ولا نحتاج، في هذا الصدد، إلى استدعاء نماذج للنجاحات الانتخابية المستمرة والمتوالية لكل من يحصل على سند فئات اجتماعية ضحية للفساد والانحراف الاجتماعيين.
إذا لم تُجرب استعمال إحدى أشكال الدوخة، فأـنت بالتأكيد لست ابن سيدي يحيى الغرب! هذه حقيقتنا، هكذا نحن عراة إلا من حقيقة أوضاعنا القاسية والمُرة!
يا للفضيحة، شبابنا، في كل الأحياء، في هجرة يومية إلى تلك الأمكنة السوداء لاقتناء ما تيسر من المخدرات كجواز سفر للهجرة من واقع البؤس والفقر والعهر الانتخابي والسياسي!
أ لم تنتبه السلطات المحلية إلى تلك "الهجرة اليومية" لهؤلاء الشباب في اتجاه هوامش المدينة لاقتناء ما يلزم من المواد المخدرة؟
بهذا السلوك المتوالي في الزمن، ننجر إلى تأويل "شيطاني" لسلوك تعامل/ تطبيع السلطة مع ما هذه الظاهرة: اللهم يتحشو ولا يحتجو باش يطلبو الخدمة والحقوق وداكشي ديال صداع الراس، هكذا قد يردد من لم يوشم في قلبه حب الوطن، ومن ليس على قلبه هواء المواطنة!
في تحدي جماعي على قتل المستقبل، نسمح لأنفسنا بـ"فضيلة" الصمت إزاء انتشار هذه الظواهر في المجتمع المدرسي وفي محيط المؤسسات التعليمية! لن نوفر لأبنائنا إلا تواتر أخبار الفساد الانتخابي، ولتأمين شروط وصول بضائع الموت والضياع والقتل البطئ لفلذت أكبادنا!

من منكم، أيها السادة، لا يعرف شابا أو شابة ضحية لهذا الصمت الجماعي! من منكم، أيها السادة، يجهل انغراس سلوكات تعاطي المخدرات في المحيط التعليمي؟
نعم، كل هادشي موجود وسط ولادنا وبالزيادة! نتابع، نتفرج، كمجتمع مدني لم يعد مشغولا إلا بالعائدات المالية لمشاريع "التنمية البشرية"، أو نشارك في حروب بالوكالة ضد أولياء النعمة!
إننا جميعا متهمون في هذه الجريمة في حق زهور أبناء سيدي يحيى الغرب! فالأمن "فشل" في تجفيف هذه السوق المتزايدة لتداول المخدرات، غير أن الوقت ما يزال من اجل التدارك والإصلاح.. إننا لا نطلب إلا الحق في الأمن والأمان، كمطالب حقوقية، لأبنائنا من هذه الظواهر التي تقتحم كل الفضاءات بالمدينة؛ في ظل سياسة القرب التي تنهجها عصابات ترويج المخدرات في الاحياء والازقة!

كلنا متورطون! فالأمن، لوحده، لا يمكنه "معالجة" هذه الظواهر في ظل لا وعي السلطات، الوصية والمنتخبة، بضرورة حماية أبنائنا/ مستقبلنا. وهل سبق للمجالس الجماعية ان بلورت إجراءً واحدا لتحسيس الساكنة بهذه الظواهر؟

الحقيقة أن المجالس الجماعية بريئة من تهمة محاربة ظواهر الانحراف الاجتماعي! فالجالسون على صدورنا لا يفكرون إلا في البيع والشراء في المواطنين كأصوات انتحابية! ولمن لا يعلم فجماعتنا تحمل اسم: بوكو فساد!
كلنا متورطون! فالمجتمع المدني منشغل بمشاريع "التنمية البشرية"، من حيث العوائد المالية، مقابل صمته عن هذا الضياع الذي يلفنا، والنسيج المدني الديموقراطي مرتبك ومشغول بخلافاته وحروبه التي لا تنتهي.
شموع تنطفئ! فمن سيُضيء ظلمة سيدي يحي؟
كلنا متورطون! كيف يتعايش المجتمع المدرسي، وفي مقدمته هيئة التدريس الحاملة لهم الوطن والمواطنة، مع تغلغل هذه الظواهر وسط أبنائنا؟ أ ليس بوسعنا العمل عن قرب في أنشطة ثقافية وتربوية لتحسيس هذه الشموع المضيئة بمخاطر المخدرات؟ للأسف، لم تعد أسرة التعليم، في غالبيتها،  تحترف إلا البحث عن عائدات السوايع الخصوصية، وبيع شرف الكلمة في سوق النخاسة الانتخابية!

الأقسى على القلب، هو صمت الأسر! والأقسى على الروح هو أن يختزل شبابنا أحلام مستقبلهم فقط في تقليد بطولات وهمية لأحد المجرمين! والأقسى على الوطن هو هذا التواطؤ الجماعي على إطفاء شموعنا ليعُم الظلام وحتى ينتعش الفساد بكل هدوء!

"ذاتَ... حُلمين" ، قراءة في كتاب " ضحك كالبكاء" لمؤلفته الدكتورة " مريم لحلو "/ بقلم: جمال الدين حريفي

         "ذاتَ... حُلمين" ، قراءة في كتاب " ضحك كالبكاء"
                                لمؤلفته الدكتورة
" مريم لحلو "(*)
 


              بقلم:
جمال الدين حريفي

        1ـ 
ذاتَ... حُلمين:
حلم أدبي جميل، رأيت فيه سمكة المعنى تنساب برشاقة في ماء الكتابة، تصل إلى منتهى الأخذ بالأنفاس ثم تعود إلى قطرة البداية من جديد، وكأنها تقدم لوحات ساحرة لتفتن الأنظار. وسمعت مع كل ذهاب وإياب للجمل والعبارات موسيقى رقيقة تجلو الهم وترهف الإحساس.
رأيت وسمعت وأنا أتأمل اللوحات الساخرة للأديبة  مريم لحلو ما يراه المستغرق في أحلام اليقظة.
رأيت المعنى ينساب كسمكة في ماء الكتابة، وسمعت إيقاعا للكلمات أشبه ما يكون بإيقاع معزوفة ألفها مبدع متمكن من أدوات الصنعة وفنونها.
ثم في حلمٍ ثان، رأيتني أضحك ملء حواسي كلها وملء مسام جلدي، أضحك ملء صدري وحرقة كبدي على نماذج من السلوك البشري ابتلي بها مجتمعنا، فصارت تنخر بنيانه وأسسه كالسوس وتهدد البناء بالسقوط في أي لحظة.. (وليس يقوم بنيان عشش السوس في أركانه وحيطانه). وما أكاد أنتهي من الضحك على فصل من فصول مهازلنا الاجتماعية حتى تهزني موجة بكاء صامتة.. فأستغرب لأمري، كيف أضحك بصخب وأبكي في صمت، ولا يفعل ذلك إلا من كان مصابه قويا شديد الوقع والأثر.
ذاتَ... حلمين إذن.
حلم أدبي وحلم اجتماعي، وجدتني ممسكا بين يدي كتاب " ضحك كالبكاء" لمؤلفته الدكتورة والأديبة المتألقة " مريم لحلو ".
فالحلمان كانا واقعيين.
كنت أحلم وأنا أقرأ اللوحات الساخرة التي نجحت الكاتبة في رسمها أيما نجاح، أن أقرأ أدبا جميلا وأن أتوغل بعيدا في شعاب الأعطاب الاجتماعية، وكذلك كان.
لقد استطاعت الكاتبة أن تجعل من نقد المجتمع موضوعا يستحق الكتابة، كما استطاعت أن تجعل من كتابتها عن المجتمع أدبا يستحق القراءة، فجمعت بين الأدب والمجتمع، وبين الكاتب ومسؤوليته الاجتماعية جمعا يستحق التنويه والإشادة.
وما كان لي ولن يكون لأي قارئ أن يستمتع بهذين الحلمين إلا لأنهما كانا في الأصل حلمين للكاتبة نفسها.
حلمت الكاتبة " حلم اليقين" بأن تبدع نصوصا مكتملة البناء تامة التناسق قوية التأثير، وقد كان لها ذلك.
وحلمت بأن تناضل بقلمها للكشف عن عيوب المجتمع وأمراضه، ولفضح الأنذال الذين حَوَّلوا كل إشراقة أمل إلى عتمة، وكل بقعة ضوء إلى ظلمة، وقد كان لها ذلك أيضا.
فأحسنت الصنعة الأدبية، وأتقنت النقد الاجتماعي، وجمعت بين الحسنيين، مؤكدة  أن الأدب ليس ترفا نتسلى به أوقات الفراغ، وإنما هو وسيلة ناجعة وأداة فعالة للارتقاء بالوعي والذوق وبناء الوجدان وإصلاح الأعطاب دون أن يسقط في لغة البيانات السياسية أو الخطب المنبرية أو مواعظ  النصيحة، وذلك هو الرهان الصعب الذي ربحته الكاتبة فحافظت على أدبية السرد وأوغلت في تضاريس النقد، وأمتعت واستمتعت، جازاها الله خيرا.
  2ـ  إحدى عشر لوحة / تسعة نماذج بشرية:

تفتح الكاتبة باب معرضها العجيب في وجه الزوار لكي يتأملوا إحدى عشر لوحة من النقد الاجتماعي الساخر، " بل وبالتحديد تسع لوحات ساخرة ووصفتين، واحدة للنجاح المستحيل(1) وأخرى للشهرة الزائفة(2)." (وقد نعتمد تصنيفا غير هذا في حينه)
فالكاتبة ترسم بمهارة الفنان المتمكن على قماشة الورق وبحبر من الألوان الشفيفة الدقيقة الحادة، مسارات تسعة نماذج بشرية أصبحت اليوم ظواهر/ مرضية اجتماعية مكتملة المعالم والخطوط، وصارت لها أعراض قابلة للتشخيص وتداعيات غير قابلة للحصر، بل صارت مستعصية على إي علاج " إلا البتر " بعد أن  كانت ذات وقت "شريف" مجرد حالات طارئة على جسد المجتمع يشار إليها بإصبع الإدانة والاتهام، وتُدفع دفعا إلى حافة الطريق مفسحة المجال للشرفاء والطيبين من الناس.
نماذج كانت تتستر على  بلاويها حتى لا تنكشف فضائحها ولا تفوح روائحها فتزكم الأنوف، فصارت اليوم تمشي بين الناس مزهوة بنفسها لا تنقصها غير الزغاريد ومواكب الزفة لكي تتربع على "عمارية" القذارة البشرية في عرس الأبالسة والشياطين.
هي تسعة نماذج بشرية؛ تسع ظواهر اجتماعية/ مرضية.
 وهم تسعة رهط يفسدون في أرض الله ولا يصلحون، ثم وصفتان بديلتان لآخر وجبة في مأدبة الفساد المستشري في المجتمع، تسعة في اثنين، لأنه ليس لهذه الظاهرة في الأخير غير اسمين:
  " النذالة " و " الفساد".
الفساد في زمن انحسار الفضيلة وانهيار القيم والأخلاق. والنذالة في الزمن الرديء الذي بلا كرامة ولا شرف؛ لأن النذالة في هذا الزمن الوغد تضاعف أرقام الفساد.
تسعة رهط تقبض عليهم الكاتبة / المتحرية متلبسين بالجرم الاجتماعي المشهود، لتعرضهم على محكمة الدين والقانون والضمير والأخلاق والإنسانية... وكل ما.. وكل من يمكنه أن يصدر حكما نزيها في حقهم، بعد أن أصبحت موالاة الباطل أولى عند البعض من موالاة الحق.
وجبةُ فساد كاملة، مع المقادير اللازمة لإعدادها وطريقة الاستعمال، والمقابل مجتمع بلا أمل ولا أحلام، مجتمع بارد الهمة، مشلول الإرادة.
تسعة رهط من المفسدين:
ـ البرلماني ـ المفتش ـ الإداري ـ المدرس ـ الطبيب ـ الشرطي ـ الفاكانسي ـ الكوايري ـ القاضي.
 ثم موظف لا يوجد إلا في المدن الفاضلة، وطريق سيار للشهرة الخادعة.
 وهؤلاء التسعة لا تقصدهم الكاتبة لوظيفتهم أو مهنتهم أو مسؤولياتهم أو المؤسسات التي ينتمون إليها.. بل تقصدهم لذاتهم، وتحلل مضمرات سلوكهم وتجهر بنواياهم وخفاياهم وخبيئة أنفسهم حتى لا يخدعوا الطيبين من الناس والسذج الغافلين من موتى العصر.
هي لا تقصد مؤسسة التشريع ولا مؤسسة القضاء ولا الأمن ولا التربية ولا الإدارة، فلا بد لكل مجتمع حديث من مؤسسات، والدولة لا تكون حديثة ولا ديموقراطية إلا بمؤسساتها، فهي التي تنظم الحقوق والواجبات بين المواطنين والمسؤولين القائمين على خدمتهم " لأنه يفترض في المجتمعات الحديثة أن تكون المؤسسات في خدمة المواطنين".
الكاتبة لا تقصد إدانة المؤسسة بما هي مؤسسة، وإنما تقصد الكشف عن الوجه القبيح لأولئك الذين يلطخون وجهها بقذارتهم النفسية وأوساخهم الاجتماعية.
والكاتبة أيضا حين ترسم أحلام البرلماني والمفتش والمدرس والشرطي والقاضي، فهي لا تقصد المفتشين والبرلمانيين والمدرسين إجمالا، وإنما تقصد برلمانيا بعينه وإداريا بعينه ومدرسا وقاضيا وشرطيا بعينه.
إنها تقصد أولئك الأنذال الذين جعلوا الأشراف في هذه المهن يخجلون من الانتساب إليها.
   3ـ الإهداء النداء / الصرخة(3) :

 وليس عبثا أن الإهداء في مقدمة الكتاب جاء كالتالي: "إلى شرفاء هذه الأمة"؛ فالكاتبة تخاطب الشرفاء وتدعوهم لكي يرفعوا رؤوسهم، فالذنب ليس ذنبهم في انهيار القيم والأخلاق، وإنما هو ذنب وجريمة الأنذال الذين لا قيم لهم ولا أخلاق... وهؤلاء يجب أن لا نخجل من إدانتهم كلما كان ذلك ممكنا.
كأن الكاتبة تقول لمن لا يزال قادرا على الإنصات إليها منَ " الأولئك ": " أنتم أيها الأنذال، يا مرضى النفوس وذوي العاهات، أنتم من أفسد الحياة وأفسد المؤسسات وأفسد المجتمع. وإذا كنّا الآن نضحك من تفاهتكم وسخفكم، فإننا نبكي في المقابل على ما صرنا إليه من أحوال... فقد كنا مغفلين حقا حين صدقناكم، كنا نعتقد أن البرلماني يدافع على مصالح الأمة والشرطي على أمنها والمدرس على تربية أبنائها والقاضي على إقامة العدل بين أهلها  والكوايري يمتعنا وقت الراحة بعد شوطين من العمل بفن المراوغة الرفيع، فإذا بكم تسعة رهط متحابين متآزرين في الفساد وعلى الإفساد، فكيف لا نبكي على حالنا مما فعلتم بنا وبمجتمعنا وبمؤسساتنا، وقد ردمتم ما بناه الشرفاء طوبة طوبة بالعرق والدم والكلمة "؟
هذا ما يعنيه الإهداء /النداء/ الصرخة / الكلمة:
"إلى شرفاء هذه الأمة".
إهداء نداء / وإهداء استغاثة، لتدارك هذا الانهيار وهذا الانحدار الذي يستحق منَ البكاءِ أكثر مما يستحق من الضحك، إن كان فعلا ما يزال من بين أبناء هذه الأمة من هو قادر على الضحك على مهازلها التي أصبحت مآسي يشيب لها الولدان. إنه ضحك كالبكاء، ضحك أَمَرُّ من البكاء على صور من صلب الواقع المغربي.

 4 ـ 
نقد شركة الفساد:

والكتاب " ضحك كالبكاء "(1*) ليس كتابا في النقد الاجتماعي الساخر فحسب، بل هو أيضا كتاب في النقد السياسي... إنه لوحات ساخرة في النقد الاجتماعي والسياسي القاسي واللاذع والساحر؛ فداخل قفازات من حرير وبلغة جزلة سلسة قوية التأثير، يرسمُ الوجه الاجتماعي لإفلاس القيم ويستغورُ البواطن والمضمرات، ويحدد المسارات التي جعلت أصنافا ونماذج وفئات من الناس تهدد الأمن الشامل للأمة، أي الأمن التشريعي والإداري والصحي والتعليمي والقضائي، من أجل الجنس والمال والسلطة والشهرة. وأيا كانت الوسيلة، فلا شيء يمكنه أن يردع هذه الحثالة من الناس عن الوصول إلى أهدافها وإشباع جوعها المرضي للبروز والتفوق، ولا شيء أيضا يمكنه أن يفك خيوط أحابيلها وشباكها وكمائنها والخطط التي تحبكها وتحوكها من أجل إرضاء غرورها وأنانيتها، هي التي لا تقنع بغير إذلال الآخرين واستغلالهم. لأنها تعيش من أجل ذلك فقط.      
ولا شك  بأن لشركة الفساد هاته، والمُحَفَّظة باسم الأنذال، فروعا وامتدادات وأصولا وشجرة أنساب في غير ما جاء ذكره من القطاعات والمؤسسات عامة كانت أو خاصة.
5 ـ  المفسدون في الأرض:

اختارت الكاتبة نماذجها بعناية فائقة، "وإلا فالمجال كان عندها متسعا لتختار عينات أخرى". وجعلت السارد يلبس جلدها ويتقمص أطماعها التي سمتها أحلاما " وهي أحلام مخيفة مرعبة " بالنسبة للأسوياء.هي أحلام وأطماع المفسدين. تسعة أحلام. تسعة كوابيس لتسع حالات بل لتسع آلات للفتك والدمار.
1) برلماني(4) يصعد رويدا رويدا من جحر الفاقة والشظف، ويحفر كالجرذ طريقه في المجاري والميازيب وليس في ذهنه غير الكرسي الذي تحت تلك القبة ومكتب تتهادى فيه حوله الحسناوات ويحطنه بعناية اللحم البض والشعر الأشقر المنساب. برلماني في الحزب العتيد يستميت في النضال من أجل استغفال الحزب والشعب وكل همه دوام المقام تحت قبة البرلمان .
2) مفتش(5) مدلس ينظر إلى التلاميذ بريبة زائدة، ويتصيد أخطاء المدرسة ولا يتعفف ـ وهو المسن المتزوج  ـ عن التحرش في سره بالطرف الكحيل والخد الأسيل والخصر النحيل.
3) إداري(6) يستغل سلطته الاعتبارية وإن كانت زهيدة القيمة في تشمم أخبار الأستاذات والاحتكاك بأكتاف وأرداف التلميذات أو استدراجهن إلى فخ كبته اللعين وتربيته المشكوك في نظافتها.
4) مدرس(7) يقترح وصفات  للربح السريع ويفكر في وضع التصانيف والتآليف في البيداغوجيات الحديثة من أجل أن يعلم المريدين والأتباع كيف يصبح الواحد مليونيرا في أسبوع.
5) طبيب(8) يعرف الفرق الساطع بين القطاع العام والخاص فيوفي كُلاّ حقه. فقد تعلم حكمة إفراغ جيوب المسنين وجلاليب المسنات من "الكماميس" و"الكموسات"، وأتقن وصف الدواء " الستندار " لكل الأمراض ومتابعة مستجدات تخصصه في لعبة الرامي... طبيب قادر على أن يحول المتلاشيات البشرية التي غلبها الزمن وغدرت بها الأيام إلى سماد لتربة ضيعته وعلف لعجولها...  حين ستصير له ضيعة وعجول يقضي بينها الوقت الفائض عن حاجة المرضى الذين لا يستحقون اهتمامه.
6) شرطي (9) يزهو بالبزة الرسمية ونجيماتها، ويحترف دمغ رؤوس الطلبة وتصيد هفوات الطرق ومخالفات السير، شرطي أخطبوط لا توقفه عن الشطط حقوق إنسان أو بلاغة لسان، و ليس معنيا بعهد جديد أو مصالحة مع العبيد..
7)  فاكانسي(10) يعود بروميته ورخصة إقامته في المهجر ليحرق قلوب العذارى والفتيان وهو يبعثر المال ذات اليمين والشمال لينتقم من أيام الذل والمهانة وزيف التطلعات و كذب الأحلام.
8) قاض(11) يحسن أكل الأكتاف، ودق العظم، وقرع الكؤوس، وتكسير الرؤوس، والحكم بما شاء على من شاء بلا دفاع ولا مرافعة.
9) كوايري(12) لم يعد فقط حلم المراهقين ومالك قلوب العذارى، بل صار يدير رؤوس الحكومات والدول. كوايري ليس له من فن اللعب والمراوغة غير اللعب بالشّعَر والأساور والدمالج كعارضات الأزياء والحلي. فقدْ فقدَ المسكينُ القدرة على اللعب بالأقدام. وضل الطريق إلى مرمى الحلم.
10) موظف(13) لا مكان له إلا في المدينة الفاضلة.
11)  طريق سيار(14) بالجنس والعري والهمز في الدين تلك وصفة الشهرة السهلة المنال والمحاطة بعناية أهل الضفاف الأخرى، إذا ناداهم نداء الواجب حي على تحطيم أصنام القيم وعبادة إله الجنس والمال.

6
ـ  سرير التحليل النفسي :   

أعترف بأنني قد مررت على هذه النماذج البشرية مرورا سريعا، لكي أترك لكل قارئ حقه في الاستفادة والاستمتاع بهذه التحفة الأدبية، التي أحسنت الكاتبة إعدادها وتقديمها برسمها الدقيق للخطوط والتفاصيل، وبعزفها المتفرد على الأوتار الحساسة وسردها الشيق للأحلام والأوهام.
رسمٌ وعزفٌ وسردٌ، تلك هي اللوحات الساخرة من "ضحك كالبكاء". حيث كل لوحة  عبارة عن سرير يتمدد عليه معطوبو النفوس والأرواح ليبُوحوا بما خفي عن الأعين والأذهان من نوايا وأسرار تصنع واقعنا السياسي والاجتماعي والثقافي، وتؤثر فيه أكثر مما تؤثر فيه النظريات والخطابات الساذجة البلهاء.
تأخذ الكاتبة كرسيها كحكيمة جديرة بهذا الاسم، وتجلس عند رأس كل مريض الوقت الكافي  لتدوين هواجسه وهلاوسه ووسوسات نفسه.
الأحلام ليست أحلام الكاتبة. وليس السارد هو الذي يحلم. الذين يحلمون هذه الأحلام المرعبة هم مرضى المجتمع ومعطوبو النفوس. مرضى «منومون"، يتمددون على سرير التحليل بالدور ليُفضوا بدون وعي منهم بما يلمونه ويكتمونه في تلك الغرف السوداء التي تسمى نفوسا، وليكشفوا للعالمين أسرار هذا الانهيار الشامل للقيم في مجتمع نُخرت أسسه وأُكلت أكتافه ودقت عظامه.
هل هي لوحات تتكرر باستمرار وبعنوان مختلف في كل مرة؟ أم أن اللوحات عنوان لعدوى تستشري في كامل أعضاء الجسد؟
 هي هذا وذاك وأكثر من كل ذلك، هي  لوحات ساخرة تكشف من خلالها الأديبة "مريم لحلو" عن اتساع الخرق على الراتق، وعن استشراء جرثومة الفساد في كل المؤسسات والقطاعات، جرثومة تهدد  الكيان الاجتماعي في جوهره، أقصد في القيم الموجهة للسلوك عند الإنسان، وقد اضطلعت الكاتبة بدورها كاملا في دق ناقوس الخطر وفي الكشف والفضح والتعرية لعل الضمائر الحية الشريفة تفيق قبل أن يجرف التيار الهادر للنذالة والفسادِ الأخضرَ واليابسَ.
7 ـ 
مضمرات الكتاب :

يعمد الكُتاب غالبا قبل عرض  إبداعهم على الناس إلى الحذف أو التثبيت أو الإضافة، خاصة إذا تعلق الأمر بكُتب تشتمل على مجموعة من النصوص،  فقد يرى الكاتب لغايات يصرّح بها أو يضمرها أن يحذف أو يثبت أو يضيف نصوصا إلى كتابه، وهو وحده  الذي يعرف لماذا وكيف اختار ترتيبا  دون آخر لهذه  النصوص. سأجازف إذن بالتسلل للمطبخ السري لهذا الكتاب، لَعَلَّني أظفر بالوقوف على واحدة من مضمراته فأتقاسمها مع القراء، بعد أن أصبحنا نحن "القراء" وبفضل هذا الفعل الجليل الذي يسمى "القراءة" شركاء في مِلكية هذا المنتوج الأدبي الجميل.
فأقترح للتأمل الجدول التالي :  

نماذج ممكنات (البديل) 
نماذج قدوة (المثال)
نماذج قاعدية (الواقع)


ـ ذات... موظف
ـ طريق... الشهرة السيار



ـ ذات... فاكانسي
ـ ذات... كوايري

ـ ذات... برلماني
ـ  ذات...  مفتش
ـ ذات... إداري
ـ ذات... مدرس
ـ ذات... طبيب
ـ ذات... شرطي
ـ ذات... قاض


فالنماذج البشرية التي اقترحتها الكاتبة على قرائها تتكون من ثلاثة أصناف (ولا يحق لأحد أن يفرض عليها اختيارات أخرى أو يناقشها في اختياراتها، فهي حرّة مطلق الحرية في العمل على النماذج التي تشاء)
ا) نماذج قاعدية: هي الأركان الأساس التي يقوم عليها المجتمع والحياة المدنية ـ علما بأن لها أشباها ونظائر في كافة القطاعات والمؤسسات وعلى مختلف المستويات من أدناها إلى أعلاها في المهام والرتب، وهي نماذج استشرى فيها الفساد لدرجة أصبح يهدد المجتمع تهديدا واضحا صريحا، فالتنذر بفتوحاتها اللأخلاقية والضحك على تفاهاتها وسخفها هو في الواقع بكاء على أنفسنا أكثر منه ضحك عليها. وتشمل هذه النماذج ( البرلماني والمفتش والإداري والمدرس والطبيب والشرطي والقاضي ). بتعبير آخر( التشريع والتربية والتعليم والأمن والصحة والإدارة والعدالة ). ولا يمكن لأي إصلاح أن تقوم له قائمة إذا كانت مثل تلك الجرذان الموصوفة آنفا تقرض وتقوّض بالليل ما بنته ورفعته إرادة الإصلاح بالنهار.
ب) نماذج قدوة: ولسنا نقصد القدوة الصالحة في هذه الحال، بل نقصد ما يقدَّم للشباب كنماذج ناجحة في الحياة، وما يقدم لهم كقدوة تمتلك قدرة هائلة على الجذب والتأثير والإغراء والغواية، إنها " الهجرة " و" الكرة "، إلى جانب مثيلاتهما وصويحباتهما في السينما والغناء.
والكاتبة تفضح الوجه الحقيقي لهذه النماذج المبتذلة من خلال " الفاكانسي " و"الكوايري"، النموذجين التافهين الفارغين الأجوفين مهما كانت غوايتهما قوية وإغراؤهما كبيرا للشباب، فأفقهما مسدود، لا يُلبي رغبة ولا يقضي حاجة، إلا الرغبة في الشهرة والكسب السهل السريع .، هذا إن حقّـقا ذلك فعلا، وقلّما يفعلان.
ج) نماذج ممكنات: وهي نوعان ـ  موجب، ولكنه مستحيل التحقق في مجتمع قادر على غسل الأدمغة والضمائر ومحو الذاكرة ودوس الشرف.
ـ  وسالب، وطريق هذا سيار لا عقبات فيه، وربحه مضمون ومحمي بألف ذراع.
    إنهما  البديلان المقترحان من طرف المجتمع على أبنائه لتحقيق ذواتهم:
     *) الموظف المنضبط القائم بالواجب الملتزم بلوائح العمل الحريص على إرضاء ربه وضميره وأهله ومجتمعه.. وهذا مكانه المدينة الفاضلة التي لم تعرف لها بعد طريق.
     *) الوصولي لانتهازي الذي  يسعى إلى الشهرة بألف وسيلة، فيختار أيسرها وأسهلها؛ " الجنس والسياسة والهمز واللمز في قناة الدين، مع توابل من توافه الأغاني وسقط الكلام وسفاسف المعاني".
        نماذج من الواقع فاسدة و قدوة تافهة واستقامة مستحيلة وطريق سيار إلى  نهاية القيم والأخلاق النبيلة.
هذا ما عليه الحال. لا قاعدة ولا قدوة ولا بديل. وإن يكن، فالكاتبة رغم كل شيء ترنو بنظرها إلى نصف الكأس الممتلئة، وتستنهض بأدبها همة أشراف الأمة.

8ـ  
قوة الأدب :   
الجنس والمال والسلطة والشهرة، هذه هي القيم الوحيدة السائدة الرائدة والموجهة لسلوك هذه النماذج البشرية التي وصلت بالمجتمع إلى الحضيض، وإذا قيل سابقا بأن الأدب يكشف عن أعطاب المجتمع ويشرّح جسمه ويشخص أمراضه أفضل مما قد يفعل ذلك البحث الاجتماعي أو الدراسة النفسية، فإن هذا يصدق أكثر على هذه المجموعة من اللوحات الساخرة التي عرضتها الأديبة "مريم لحلو" على أنظار زوار هذه القاعة الكبيرة التي نسميها مجتمعا. إنها لوحات أدبية تكشف أكثر مما قد يكشفه البحث الاجتماعي والدراسات النفسية من أعطاب وأمراض.

 9 ـ  
قوة الأسلوب
واحدٌ من عناصر قوة هذا الكتاب وهي كثيرة، إنه أسلوبه الذي يؤكد علوّ كعب الكاتبة في فن السرد، والكاتبة بارعة في توظيف ثقافتيها "العالمة" و"الشعبية" معا " اقتباسا وتضمينا" (15) في نصوصها الإبداعية دون أن يُخلّ ذلك بإيقاع سردها ولا بنبض كلماتها أو بصمات تعبيرها، وهي ميزة لا تتوفر إلا للأقلية القليلة من المتمرسين والمتمرسات بالكتابة، فنجد في كتابتها من الثقافة العالمة والشعبية الدُّرر المختارة من شعر أو حكمة أو مثل وقول سائر، كما نجد المقطع الغنائي(16) يجري في توافق تام مع النغم الخاص الذي توقع عليه جملها وعباراتها. وهو أسلوب يؤكد أيضا ثراء وغنى المخزون الأدبي الذي تصدر عنه الكاتبة بعد أن تمثّـلته واستوْعبته ثم أجرته متدفقا منسابا سهلا ممتنعا وعصيا على التقليد كما هو الشأن في كل أدب جاد، وأصيل، وحقيقي.


10
ـ عود على بدء:
أما بعد؛ فذات... حلمين؛ حلم أدبي جميل، بأن تتاح لي فرصة قراءة نصوص إبداعية تؤثر في الوجدان والعقل وتُمتع وتفيد في الآن نفسه.
وحلم اجتماعي بأن أقرأ أدبا ملتزما بقضايا الناس ومنحازا إلى شرف الكلمة والموقف.
وجدت بين يَدَيَّ كتابَ " ضحك كالبكاء " للدكتورة الأديبة مريم لحلو.
الآن فقط سأحقق الحلمين، وأشرع في قراءة لوحات ساحرة من الأدب الجميل والنقد الاجتماعي الساخر.
الهوامش :

(*)الكاتبة : مريم لحلو" أم بثينة"
أستاذة مادة اللغة العربية بالثانوي التأهيلي وأستاذة زائرة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة.
- شهادة الإجازة في الآداب، شعبة اللغة العربية وآدابها، كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة، 1990
- شهادة استكمال الدروس، تخصص أدب عربي قديم، 1991، كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة.
- شهادة التخرج من المركز التربوي الجهوي سنة 1991 بوجدة.  
- شهادة الدكتوراه في الآداب، تخصص أدب مغربي،2003 كلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة،
الأعمال: 
 1ـ كتب منشورة في مجال الدراسة والتحقيق:
-  كتاب:"  إسماع الصم في إثبات الشرف من قبل الأم للمراكشي الأكمه، ويليه إسماع الصم في إثبات الشرف للأم لمحمد بن مرزوق: دراسة وتحقيق" الطبعة1،  1426 هـ/2005م ، مطبعة الهلال وجدة. الطبعة 2، 1427~ 2006 مطبعة الشرق وجدة.
-   كتاب "شرح ياقوتة البيان" لمحمد الصغير الإفراني :"دراسة وتحقيق" الطبعة1، 1427هـ/2006م. ، مطبعة الشرق وجدة.
_   كتاب " "أراجيز مغربية في علم البلاغة" يضم خمس أرجوزات نادرة لناظمين مغاربة."جمع ودراسة وتحقيق" الطبعة1، 1427هـ/ 2006م ، مطبعة الشرق وجدة.
 2 ـ   في السرديات:
ـ  كتاب "ضحك كالبكاء" لوحات ساخرة الطبعة،2013 مطبعة الجسور وجدة
ـ  عدة  مقالات منشورة في مجلات وجرائد وطنية وعربية  كدعوة الحق ومجلة الذخائر البيروتية.
ـ      المشاركة في عدة حلقات دراسية و ندوات وطنية ودولية،مثل ندوة اللغة العربية والأصول الشرعية وندوة ربيع المخطوط الأندلسي الدولي تكريما للدكتور بنشريفة ، وندوة الشعر العربي المعاصر في المغرب:مفاهيم وقضايا

 (1*) الكتاب :    " ضحك كالبكاء/ لوحات ساخرة.
            لوحة الغلاف : نور الدين بورحمة
           الطبعة الأولى: 2013    
           المطبعة : مطبعة جسور ش.م.م/ وجدة .
*  تنويه خاص : تجدر الإشارة إلى أن هذا هو الكتاب الرابع الذي يحمل نفس العنوان المقتبس من البيت الشعري الشهير للشاعر الأشهر " أبو الطيب المتنبي"
ـ "وكم ذا بمصر من المضحكات  //  ولكنه ضحك كالبكاء".
أما الكتب الأخرى فهي على التوالي:
ـ ضحك كالبكاء: للمغربي إدريس الناقوري  ـ نقد الأدبي / دار النشر المغربية 1985
ـ ضحك كالبكاء: للعراقي  ماجد الحيدر ـ  مقالات  ساخرة/بغداد 2010
ـ ضحك كالبكاء: للسوري نور الدين الهاشمي ـ  قصص/ دار نينوى دمشق 2010
ويعتبر كتاب الأديبة "مريم لحلو" بدون شك إضافة نوعية في مجاله لهذه السلسلة.
 هوامش من داخل الكتاب
1ـ ذات ...موظف: صفحة 74
2 ـ طريق الشهرة السيار صفحة 80
3 ـ الإهداء صفحة 5
4 ـ  ذات... برلماني  صفحة 17
5 ـ ذات ...مفتش صفحة 25
6 ـ ذات ...إداري صفحة 30
7 ـ ذات ...مدرس صفحة 35
8 ـ ذات ...طبيب / صفحة 44
9 ـ ذات ...شرطي / صفحة 52
10 ـ ذات ...فاكانسي / صفحة 57
11 ـ ذات ... قاض / صفحة 84
12 ـ ذات ...كوايري / صفحة 69
13 ـ ذات ... موظف / 74
14 ـ  طريق الشهرة السيار/ صفحة 80
15 ـ انظر مايلي : صفحة 17 ـ 21 ـ 22 ـ 27 ـ 48 ـ 50 ـ 57 ـ 64 ـ 70 ـ 72 ـ 83 وغيرها .
16 ـ انظر بالخصوص : صفحة 70 ـ 52 .   
                                                       ــ جمال الدين حريفي   
                                                  القنيطرة في 29/08/2014