الفيلم التفزي "صفي تشرب"
أزمة جيل يصعب عليه الاعتراف بالحب
مصطفى لمودن
عرضت القناة الأولى المغربية الفيلم التلفزي "صفي تشرب" ليلة الجمعة 3 غشت 2012، كتب سيناريو الفيلم مصطفى الأزهر (من سيدي سليمان)، وأخرجه إدريس الروخ.. وكان لزاما إلغاء كل الالتزامات والرغبات التي تطفح في ليالي رمضان لمتابعة الفيلم، مادام واضع السيناريو صديق أعلم رغبته الجامحة من مدة طويلة لولوج غمار الكتابة الدرامية، ورغم المشاهدة الوحيدة للفيلم، أحاول هنا إنجاز قراءة متواضعة له..
أهم شخوص الفيلم إبراهيم (عبد الله ديدان)، الصحفي العامل بإحدى القنوات التلفزية، والذي يُعدّ ويقدم برنامجا شهريا اسمه "صفي تشرب"، يستضيف فيه شخصيات متنوعة الاهتمامات..
ثم رحمة (دونيا بوطازوت)، شابة متعلمة، حاصلة على الإجازة في اللسانيات، بلغت الثلاثين من العمر، معجبة بابن خالتها الصحفي إبراهيم الذي يقيم في الدار البيضاء.. بينما هي تسكن منذ صغرها مع خالتها (عائشة ماهماه)، خالتها هاته تحفزها وتدفعها كي تـُسقط إبراهيم في فخها ليتزوج بها، قالت لها "جيبيه ف الشبكة"!.. وقد أخذت الخالة رحمة إلى منزل إبراهيم وتركتها معه، لكن هذا الأخير لا يكترث بها، بل يعاملها بجفاء وقسوة رغم كل محاولاتها لخدمته في بيته، وقيامها بكل ما هو ممكن أو غير مناسب حتى يلتفت إليها.. كإعداد الأطعمة، وتسميم صديقته التي أحضرها إلى البيت، وحبسه في غرفة وإغلاقها بالمفتاح عنوة، ومنعه بذلك من الذهاب إلى العمل.. لم يزدد إلا بغضا لها، فقطع الماء والكهرباء محاولا بذلك إبعادها عن المنزل..
لكن تدخلات المخرج علي (إدريس الروخ) صديق إبراهيم، ومساهمة زوجته هدى(مريم الزعيمي) فيما بعد، جعلهما يساهمان في محاولة تلطيف الأجواء والتقريب بين إبراهيم ورحمة دون جدوى، كما دخل على الخط شخص ثالث وهو المخرج عماد الذي أبدى عن رغبته في الارتباط برحمة..
من اللحظات المفصلية في الفيلم خروج رحمة من المنزل إلى فضاءات الدار البيضاء بحثا عن عمل، وقد وجدته لدى هدى في مقهاها، وكان لهدى دور في "ترشيد" شخصية رحمة، ومساعدتها لتكتشف أنوثتها وتبدو بمظهر آخر جذاب..
ولعل من أهم المشاهد المميزة في الفيلم، والتي جعلته يقفز عن طابع القصص المستهلكة، عدم استجابة إبراهيم لخطط المافيا السياسية، والتي تسعى للدفاع عن مصالحها بالخداع وشراء الذمم، فقد فضح إبراهيم مباشرة على شاشة التلفزة أحد "منتوجات" هذه المافيا، وهو أحد "الوجوه" التي تريد دخول غمار الانتخابات وتحتاج لتلميع صورتها.. عرض إبراهيم الشيك الذي تسلمه من أحد السماسرة كي يمر كمال كضيف على البرنامج الشهري "صفي تشرب"، وقبل انطلاق البرنامج ولما أُدخل الضيف إلى الأستوديو، قال عنه إبراهيم للسمسار "هاذ كما هو اللي غادي يخدم البلاد؟!"، وانتهى البث المباشر للبرنامج بوصفه لهذا "الكركوز الانتخابي" مخاطبا المشاهدين (نحن) "كمال وأمثالو ما يمكن يشربوا إلا الخواض".. أخبر إبراهيم الشرطة ونسق معها قبل انطلاق الحلقة التلفزية كما ذكر فيما بعد للمخرج، هذا الأخير هنأه على شجاعته وجرأته.. غير أن المافيا السياسية اعترضت إبرايهم بمدخل العمارة التي يقطن فيها، فأشبعه مسخرون غلاظ ضربا إلى أن قارب مغادرة الحياة، وبقي السمسار مستمرا في شغله، وقال لإبراهيم وهو يتضور دما وألما، "إل فضحتي واحد، ما تقدرش تفضح كل شي، أحنا بزاف". ليكون الخطاب واضحا لا لبس فيه حول استحالة القضاء على المافيا السياسية التي تنخر واقع البلد..
لم يجد إبراهيم في محنته غير رحمة التي وقفت إلى جانبه واعتنت به كأنها ممرضة مداومة، لكنه ظل مرتبطا على المستوى العاطفي بصديقته، فتكلم معها عبر الهاتف واتفقا على اللقاء ورحمة تسمع، وتلك من إحدى "الصدمات" التي تتلقاها باستمرار من إبراهيم، مما جعلها تغادر الدار البيضاء وتعود عند خالتها بالعالم القروي..
لقد كانت حادثة الاعتداء على إبراهيم بمثابة "الصدمة" التي جعلته يستفيق، وذلك ما أكده بنفسه لصديقه المخرج علي.. وظهر أن صديقته التي التقاها بالمقهى لم تعد تثير اهتمامه، مما جعله يرجع بدوره عند أمه، ويخبرها برغبته الزواج (أخيرا!) من رحمة، التي وجدها مشتغلة في قلب الأرض بعتلتها ويدها معفرة (عوض ملطخة) بالتراب.. لينتهي الفيلم على مشهد "طفولي" تجري فيه رحمة بين الأشجار وإبراهيم يتبعها..
وضعت للفيلم حبكة سردية منسجمة، ركزت على التسلسل المنطقي للأحداث، وعلى طابع التشويق ومفاجأة المشاهد بمنعرجات لم يكن ينتظرها، مع نفحة من الفكاهة السوداء..
حبل الفيلم بمجموعة من التيمات التي تكاد تربك المجتمع المغربي في هذه اللحظات من التاريخ، ولعل منها الحضور الملفت للماضي بثقله وبسلبياته وإيجابياته، وقد مثلت الأم ذلك، فلاشيء يكاد يخرج عن أوامرها وعن سلطتها الظاهرة والخفية..
عدم القدرة على البوح وعلى الاعتراف بالحب؛ وكأن ذلك جريمة لا تغتفر، وهنا تظهر الشخصية المهزوزة نفسيا، بحيث ليس من الضروري بناء الفرد على المستوى المعرفي وإغفال الجوانب الأخرى منها العاطفي، وكأننا أمام جيل مشوّه العواطف مستسلم لقدره.. فرحمة تبدو أحيانا كالبهلوانية، وإبراهيم متردد.. لكن هناك المقابل من الحالات السوية التي يمثلها علي وهدى وهما في علاقة زوجية ملؤها الحب والوئام والتقدير..
صعوبات الوضع السياسي الراهن؛ فإذا كان أحد الوزراء رفض الحضور في برنامج "صفي تشرب" رغم إلحاح المشاهدين عبر الانترنيت، فذلك تعبير عن مشاكل التواصل في المغرب التي تكاد تنعدم، بالمقابل هناك صناعة لكراكيز تـُـمنح لها المناصب والشهرة المزيفة لتسير بالبلد نحو الكبوات..
أما فيما يخص الجانب التقني في الفيلم، فقد اعتمد المَـشاهد السريعة المتتالية، وهي مناسبة للأحداث المتسارعة وللظروف التي تعيش فيها الشخوص.. إلا في بعض اللقطات التي تتطلب التعبير عن البساطة والهدوء كمشاهد التقاء هدى برحمة، أو ظهور الخالة رفقة البطلة.. وجاءت الموسيقى المصاحبة مناسبة لانفعالات كل مشهد على حدة..
في فيلم "صفي تشرب" لحظات إنسانية متسمة بالحساسية المفرطة، حيث يشعر المشاهد بالتعاطف مع بعض الشخوص أحيانا، وبرغبته في التدخل لتغيير مسار الحكي نحو وجهة أخرى، كرفض أن يقسو إبراهيم بذلك الشكل، أو أن تعرض رحمة نفسها لمواقف محرجة.. وفي ذلك إبداع قل نظيره..