غزة المحاصرة تتعرض للقصف الغادر
تعرضت اليوم غزة المحاصرة لغارات إسرائيلية غادرة أدت إلى استشهاد أزيد من 210 من شعبنا في فلسطين، وجرح أكثر من 700 آخرين، ربعهم في حالة حرجة كما نقل ذلك مراسلون صحفيون، وتأتي هذه الغارة الهمجية ضمن غارات سابقة ومتلاحقة، وبعد توقف ما سمي بالهدنة المؤقتة التي «سعت» فيها دول مجاورة سواء عبر الطرق الدبلوماسية المعروفة أو في إطار «السرية»، وهو الأسلوب الجاري به العمل بين بعض الدول العربية والكيان الصهيوني المغتصب، تلك «المساعي» كانت تهدف فقط إلى رفع الحرج أمام شعوب غاضبة من حصار طال على سكان غزة، إلى درجة أن سكان غزة لم يعودوا يجدون ما يأكلونه، وتوقفت المستشفيات عن تقديم خدماتها، وانقطعت مصادر الطاقة من كهرباء ونفط… في حين رغبت عدة أطراف في معاقبة كامل سكان غزة، وذلك لتأليبهم ضد «حماس» ذات التوجه الإسلامي، واستهداف شعبيتها بين السكان، وجعلهم يرجعون سبب معاناتهم إليها، عوض رده إلى الاحتلال الإسرائيلي أساس كل المشاكل وإلى الحصار، في حين أن خبرة الفلسطينيين المكتسبة عبر تاريخ طويل من النضال والمعاناة تجعلهم لا يسقطون ضحية مثل هذه المغالطات. في هذه الظروف المتسمة بالغموض على مستوى القرار الرسمي العربي والدولي تفعل إسرائيل ما تشاء بشعب أعزل ومحاصر، أما الخلافات الداخلية الفلسطينية خاصة بين حركتي فتح وحماس لا يمكن أن تكون مشجبا لعقوبة البعض لصالح البعض الآخر، كما قد يتوهم كل مغرض أو يدفع إلى ذلك، لأن الخاسر في الأول والأخير هو الشعب الفلسطيني وقضيته المقدسة، وما يحدثه ذلك من تأثير على الروح المعنوية لكافة الشعوب العربية والإسلامية ، وكل الخلافات الحقيقية والمفتعلة والاحتراب الداخلي بين الفلسطينيين لم يعد له أي مبرر الآن، كما لم يكن له أي مبرر فيما سبق.
في آخر اجتماع لمجلس وزراء الكيان الصهيوني أعطيت إشارة كاذبة من قبل إسرائيليين تقول بأنهم لن يستهدفوا حماس الآن، بل في الأمس فقط أعطيت الأوامر كذلك لفتح جزئي للمعابر قصد مد الفلسطينيين ببعض حاجياتهم، بينما تجري العدة لقصف الغادر، وليس ذلك بغريب على كيان بني على الغدر والاغتصاب والاغتيال، فعلا لا أحد من الفلسطينيين يثق بالصهاينة، ويأمن جانبهم، ويمكن في أي لحظة أن يأتي الشر من قبلهم.
وتقول إسرائيل ويساندها في ذلك عدد من الدول الغربية، بأن عملها الغادر هذا يدخل في إطار «الدفاع عن النفس»، ويتم اتهام «حكومة حماس» بأنها تعد من جانبها لمواجهة إسرائيل كما حدث مع «حزب الله» في جنوب لبنان صيف 2006، وتتهم جهات خارجية بتسليح حماس، وتدخل في ذلك دولا في خلاف ظاهر مع إسرائيل كإيران وسوريا… بينما يعلم الجميع أن غزة محاصرة، ولا يدخلها حتى كيلو دقيق، فبالأحرى الأسلحة، بينما الصورايخ البدائية الصنع بالمقارنة مع الترسانة الإسرائيلية المتطورة، هي من صنع محلي، تعتمد خبرة الفلسطينيين ومواد أولية محلية، تطلق منها بعض الفصائل الفلسطينية المسلحة صواريخ في اتجاه قرى في جنوب إسرائيل، وهذا بالطبع لا يعتبر ذريعة لقتل المئات واستخدام أعتا الأسلحة بما فيها المحرمة دوليا.
ويبدو أن قادة الكيان الإسرائيلي في تنافس بينهم حول من يبيد أكثر عدد من الفلسطينيين قبل إجراء الانتخابات في فبراير القادم، «يهود باراك» عن حزب العمل هو بالمناسبة وزير«الدفاع»، أي المسؤول المباشر عن تحرك الجيش، ذكر في ندوة صحفية ودم الشهداء مازال ساخنا يسيل بأن إسرائيل ستقوم بما سماه «إجراءات أخرى» ضد حماس، وذلك لكسب مزيد من النقط لدى الناخبين، سواء ضد اليمين الديني المتطرف كحزب«شاس» ، أو ضد «تزيبي ليفني» الحليفة في نفس الحكومة الحالية والمسؤولة الجديدة عن حزب«كاديما» بعد الوفاة الإكلينيكية للسفاح شارون وإقالة «إيهود أولمرت» على خلفية فساد مالي، وكل هؤلاء في سباق مع الزمن ضد العائد الجديد «النتن ياهو» زعيم حزب «الليكود»، والذي تعطيه بعض الاستطلاعات تقدما طفيفا أمام خصومه قصد الوصول إلى سدة الحكم، وهو ما فتئ باستمرار ينتقد عجز المسؤولين الحكوميين عن«الدفاع على إسرائيل»، معطيا الانطباع بأنه القادر على التنكيل بالفلسطينيين أكثر من غيره… وعليه لا يمكن للعالم بأسره أن يظل يتفرج على مأساة الفلسطينيين وهم يتعرضون لإبادة ممنهجة من طرف إسرائيل، فقط لأن السياسيين يتنافسون فيما بينهم على ذلك!؟
غالبا ما تختار بعناية دولة الكيان الإسرائيلي «التوقيت المناسب» لإجراء هجماتها الهمجية ضد الفلسطينيين، والقيام بالأعمال الدموية سواء ضد زعماء فلسطينيين، أو ضد الشعب بأسره، هذا التوقيت يصادف انشغال وسائل الإعلام بأحداث فرجوية مثيرة، تشد إليها اهتمام الناس خاصة في الدول الغربية تفاديا لخلق أي تعاطف محتمل مع الفلسطينيين، وقد تكون هذه المناسبات حدثا رياضيا كالألعاب الأولمبية أو كأس العالم لكرة القدم… وهذه المرة لم يكن صدفة أن تقصف إسرائيل الفلسطينيين أثناء عطل أعياد الميلاد، حيث أن أغلب شعوب الدول الغربية المسيحية منشغلة بالعطل واحتفالات آخر السنة الميلادية، وعدد من مسؤولي تلك الدول في إجازات مع أسرهم، والقنوات التلفزية تجري وراء كسب ود المشاهدين والرفع من نسبة المشاهدة قصد جلب أكبر قدر من المستشهرين، وبالتالي لا مجال ولا وقت لإظهار صور الدمار والجثث كما حدث اليوم في غزة، حيث ظهرت عشرات الجثث مبعثرة في الشوارع، والدخان والسنة النيران تتصاعد من مختلف أطراف المدن… وهذا لا يعني أن قنوات الغرب وإعلامه يمارس المهنية الإعلامية والحياد في غير المواسم والأعياد، ليظهر حقيقة مأساة الفلسطينيين، ولولا بعض القنوات العربية وعلى رأسها «الجزيرة» لما نشرت تلك المشاهد المروعة.
ذكرت بعض وسائل الأعلام ومواطنون من العالم العربي أن إسرائيل ما كانت لتقوم ب«عملها» لولا تأكدها من عدم حدوث أي رد فعل عربي رسمي معارض، وتشير قرائن أن إسرائيل تستشير أو تخبر بعض الدول بذلك في منسبات مماثلةمثل هذه، وتضيف مصادر أخرى أنها تُعلمها مسبقا بنوع تدخلها ودرجته وأهدافه، وقد تأكد بأن وزيرة خارجية إسرئيل «تزيبي ليفني» على الأقل قد أخبرت صديقتها كونداليسا رايس كاتبة الدولة في الخارجية الأمريكية، وهي تعيش بدورها آخر أيام المسؤولية في ظل بوش، الذي سيغادر البيت البيض بشكل رسمي في العشرين من يناير القادم، فهل تريد إسرائيل بعملها الدنيء هذا تجاه الفلسطينيين توجيه رسالة ملغومة أو بالون اختبار إلى الوافدين الجدد على البيت البيض من الحزب الديمقراطي، مفاد هذه الرسالة أن سياسة دعم إسرائيل اللامتناهية وغير المشروطة من قبل المسؤولين الأمريكيين ستستمر حتى مع رئيس يريد أن يعطي عن نفسه انطباع الاعتدال، رغم تصريحاته السابقة المؤكدة على مساندة إسرائيل؟
كل مؤمن بالحق في الحياة تستفزه سياسة إسرائيل المتغطرسة، وتدفعه همجيتها إلى إدانة أعمال القتل والاغتيال التي تقوم بها، بينما هي تسمى في الأعراف الدولية ب«الدولة» العضو في هيأة الأمم المتحدة، بينما هي في الحقيقة دولة إرهابية بكل ما في الكلمة من معنى، فعلى هذا المنتظم الولي أن يتحمل مسؤوليته، ويدين عمل سفك دماء الأبرياء، ويتخذ إجراء عاجلا لحماية الفلسطينيين، وإلا فإن كل كلام عن «العدالة الدولية» و«الحق»و«القانون» سوف لن يكون له أي مصداقية وتأثير على الشعوب المقهورة، فكفى من الخداع والجميع متأكد من أن مجلس الأمن الدولي لن يدبج ولو جملة إدانة في حق إسرائيل، بينما بقية المنظمات والهيئات الإقليمية معروف بشكل مسبق وآلي موقفها كما تأكد ذلك باستمرار من مواقف «جامعة الدول العربية»، والتي قد تجتمع في قطر كما دعت الدوحة إلى ذلك، أو في أي مكان آخر، بينما المعول عليه حقيقة لمساندة الفلسطينيين هو الشارع العربي، حينما يعلن عن غضبته المدوية تجاه ما يقع، بالإضافة إلى محبي السلم والعدل في كل بقاع العالم. وفي هذا الصدد نظمت اليوم سبت 27 دجنبر 2008 «مجموعة العمل الوطنية لمساندة العراق وفلسطين» وقفة تضامنية بالرباط، وأكيد ستتلوها وقفات واحتجاجات هنا وهناك… المطلوب هو الدعوة باستمرار لمقاطعة الكيان العنصري الصهيوني وعدم التعامل مع مسؤوليه بصفة نهائية، فدم أبناء فلسطين المهرق ظلما وعدوانا ليس بالرخيص الذي يمكن نسيانه بسهولة.
مصطفى لمودن