الاثنين، 11 مايو 2009

الشباب و السياسة بالمغرب: عزوف أم تعصب؟


الشباب و السياسة بالمغرب:

عزوف أم تعصب؟
 



إنجاز: أمين جوطي

     تقديـــــــم:
       تطرح إشكالية " الشباب والعزوف عن السياسة" نفسها كإحدى القضايا الشائكة في المجتمع المغربي، فهذه الإشكالية التي استحالت أو قد تستحيل مشكلة، تستوجب تفكيرا سياسيا عميقا وأن تطرح بجدية بالغة ، وعلى نحو مستمر من لدن الباحثين الجامعيين والمفكرين على تنوع مشاربهم المعرفية والمنهجية ، لما لهذا الموضوع من حساسية بالغة، فعزوف الشباب المغربي الذي يمثل الشريحة العمرية الأوسع في الهرم السكاني عن مجال السياسات العامة ، سيؤدي إلى اتساع فضاء اللاتسيس مما يضعف درجة التعبئة والتوعية وحس المواطنة، الشيء الذي ينجم عنه ضعف مؤسسات الدولة ،  ويسم المجتمع بالشهامة والتضعضع.
إن اتساع فضاء اللاتسيس قد يخضع لعملية مد وجزر في كل المجتمعات، حسب الظرفيات السياسية والإقتصادية، وتتبين ملامحه من خلال عدد المنخرطين في المنظمات السياسية أو المساهمة في الحملات الإنتخابية أو القيام بواجب التصويت، هذه العناصر الثلاثة الأخيرة كمظاهر للممارسة السياسية الديموقراطية، عرفت بالمغرب تراجعا ملحوظا، وكانت أبرز سماته نسبة التصويت الضعيفة في الإنتخابات التشريعية لـ : 9  سبتنمر 2007.
       ويمكن القول  بأن نتائج هذه الإنتخابات والتي جاءت في مرحلة تاريخية حاسمة يمر بها المغرب ، جاءت لتظهر ملامح لخطر الطلاق الذي لا رجعة فيه بين الشباب والسياسة، ولتبين حجم النفور الكبير للمواطن المغربي من " السياسة وأخواتها ".
       وإذا كان العديد من متتبعي الشأن السياسي المغربي ، سواء كانوا مغاربة أو أجانب، يشهدون بأن شروط الممارسة السياسية الديموقراطية أصبحت أكثر توافرا: خفض سن التصويت إلى 18 سنة، اتساع مجال الحريات العامة، فسحة أكبر لحرية التعبير، مناخ يوفر أكثر فأكثر حظوظا متساوية لجميع الأطياف السياسية لتحمل مسؤوليات الشأن العام …. إلخ ، إلا أن نسبة التصويت الضعيفة تطرح على الفاعلين السياسيين، وعلى كل مهتم بشؤون الوطن أكثر من علامة استفهام عن أسباب النفور من عملية التصويت .
       فهل السبب لا يتعدى كون أنه جاء في سياق زمني يعانق كل من العطلة الصيفية ومرحلة الدخول المدرسي واقتراب حلول شهر رمضان ؟ أم ان الأمر الأكثر تعقيدا من ذلك ويستوجب طرح أسئلة أكثر عمقا وجرأة ؟ 
       أفلا يجدر بنا عوضا عن تطمين الذات بتقديم تبريرات وأجوبة سهلة، لحدث قد لا يكون عابرا، كالنفور الذي حصل في انتخابات 2007، أن نفتح باب القراءة لإحتمالات أخرى؟  فلماذا لا نقول بأن ما حصل وقد يكون له سوابقه ولواحقه، جاء يحمل مؤشرات تومض بنور غير خافت ينذر بخطر اتساع رقعة اللامبالاة السياسية للمواطنين بالمغرب ؟ وإن كان الأمر كذلك  فما هي الأسباب التي استبعدت المواطنين، وبخاصة منهم الشباب من ميدان المشاركة السياسية ؟ أليس من الممكن الحديث عن تكون اتجاه يتسم بتعصبه ضد السياسة ؟
لن أختار اتجاه تطمين الذات، وسأحاول طرح المسألة كظاهرة إجتماعية ذات طبيعة مركبة تتداخل  فيها السياسية مع الإقتصاد مع الثقافة ، وما لتفاعل المكونات السابقة من آثار نفسية وذهنية على الفرد وعلى الجماعة.
       فبما أن شهادات عديدة للأحزاب المغربية وللملاحظين الدوليين تؤكد على أن الإنتخابات السابقة هي الأنزه في تاريخ المغرب ، فإنه بإمكاننا اتخاذها مقياسا لحجم اللاتسيس بين المغاربة ، ومطلبا لإستقراء الأسباب الكامنة وراء ذلك بطريقة بانورامية وغير مغدقة في التفاصيل في آن معا.
       إن استقراء موضوعيا لهذه المسألة من شأنه أن يوضح الأمور، ويرفع اللبس الذي يلف واقع علاقة المواطن بالممارسة السياسية، كما من شأنه أن يظهر الجهات التي تتحمل مسؤولية هذا الإبتعاد عن الشأن العام، هل هي الدولة وحدها ؟ هل هي الأحزاب فقط ؟ وأي أحزاب ؟ هل تلك التي أطلق عليها إسم " الأحزاب الإدارية ؟ أم أن الأحزاب جميعها في خانة واحدة في نظر المواطن ؟ أو لا يتحمل المواطن بدوره جزءا من المسؤولية ؟ أم أن هناك عوائق اجتماعية تحول بينه وبين المشاركة السياسية ؟
       تلك أسئلة من بين أخرى نطرحها لكي يتحمل كل طرف عند الحاجة نصيبه من المسؤولية، وسأقدم تفسيري لإبتعاد المغاربة، والشباب منهم على وجه الخصوص من ساحة الشأن العام معتمدا عدة مداخل، هي :
الفصل الأول :   مدخل التنشئة الإجتماعية : واقع تاريخي وتكريس ذهنية .
الفصل الثاني :  المدخل الاقتصادي :  عوائق إجتماعية وآثار نفسية .
الفصل الثالث :   مصادر التعصب ضد السياسة .

الفصل الأول : مدخل التنشئة الاجتماعية: واقع تاريخي وتكريس ذهنية.
       رغم أن الدولة المغربية قامت بمجهودات جبارة لطي صفحة الماضي السياسي المتعلقة بالانتهاكات الجسيمة  لحقوق الإنسان، والاعتقالات السياسية الناجمة عن صراعات حادة بين بعض القوى السياسية بالبلاد وبين المخزن، وكانت الدولة جريئة عندما قررت البحث في هذا الماضي لأجل المكاشفة والمصارحة وإنصاف المتضررين أو ذويهم مما لحقهم من تعسفات ومن تم المصالحة مع الماضي ، للاتجاه قدما لتكريس مفهوم جديد للسلطة، ورغم ما سبق ذلك من إصلاحات وتعديلات سياسية للوصول إلى إجماع وطني بين الدولة والأحزاب السياسية الديموقراطية والفاعلين الأساسيين في المجمتع المدني، بدأت بدستور 1996 وكللت بحكومة التناوب التي عرفت مشاركة أحزاب سياسية معارضة، وذلك سنة 1998 ، فإن عدد لا بأس به من المغاربة لم يستطع التخلص من فكرة أن السياسة مجال خطر، تلفه صراعات وتحركه المصالح الشخصية، طالقين العنان للتعميم.
زاد طين تصور المغربي  للسياسة بلة، ما ساد من فساد في تسيير شؤون الجماعات المحلية من لدن أفراد اشتطوا في استغلال السلطة ونهبوا المال العام، إضافة إلى الإنشقاقات الحزبية وتفريخ الأحزاب.
كل ما حدث وتفاصيله عديدة ومتشعبة، كان يؤثر بشكل كبير في المواطنين ليكون لدى المغاربة فكرة خاطئة عن السياسة بتقديمها بوصفها لوثة تفسد كل من يقترب منها، ومجالا للألاعيب والمؤامرات والأفخاخ ، وهو ما يتغلغل عبر التنشئة الاجتماعية في أوساط الأجيال اللاحقة. وهذا ما يوصلنا إلى طرق باب عوامل التنشئة الإجتماعية التي   تفسر الابتعاد عن المشاركة السياسية.

- التنشئــة الإجتماعيــــة:
       لكل مجتمع سماته التي تميزه من قيم ومعتقدات ومثل … تتعلق بالحياة في شتى جوانبها، والحياة السياسية كجزء هام منها، ونخص بالذكر القيم والرموز الخاصة بالنظام السياسي، وكيف يفترض أن يعمل، وحول ما قد تفعله الحكومة، وحول نظرة الشعب إلى السلطة والتزاماته إزاءها – والأمور السابقة تشكل ما نسميه بالثقافة السياسية – وهي تختلف بشكل ملحوظ من أمه إلى أخرى، وتكون جزءا مما نكون على وعي به أو على غير وعي.
تلكم السمات، وإن كانت قابلة للتغيير، فتغييرها يتسم بالبطئ. وهي تنتقل من جيل إلى جيل عبر احتكاك الأفراد خلال نموههم بمجموعة من المؤسسات الاجتماعية والسياسية،  حيث يكتسبون كثيرا من الأفكار والاتجاهات والقيم تمكنهم من لعب أدوار اجتماعية بالطريقة التي تتماشى مع المعايير المجتمعية.
       وأعتقد أن عملية التنشئة الاجتماعية بالمغرب لم تلعب دوارا إيجابيا في تكوين ناشئة تنظر إلى السياسة بعين الرضا، و لنبدأ بأهم مؤسسة اجتماعية وهي الأسرة .

أ‌-  الأســــــــــــــــــرة:
   ورثت الأسرة المغربية نظرتها للسياسة المختلجة بالريبة والخوف والشك لأبنائها، وأسقطت بذلك وبشكل غير واع الماضي على الحاضر . وهو أحد أسباب اضمحلال عدد المنخرطين بالأحزاب ، بل وسبب في نفور المواطن عن السياسة . هذا النفور كرسه وساهم في امتداده بشكل كبير ، الموجة الجديدة للصحافة .

ب- الإعـــــــــــــــــــلام:
   يدخل الإعلام في عصرنا الحالي كأحد أهم أقطاب التنشئة الاجتماعية، خاصة بعد الطفرة التكنولوجية المذهلة التي حدثت ولا زالت تحدث لتجعل من العالم قرية فعلا. حيث يمكن اعتبار الثورة المعلوماتية التي يقوم بها الإعلام عبر أرجاء المعمورة فصلا رئيسا من تاريخنا المعاصر.
   وقد سمحت هذه الثورة الإعلامية عبر جميع وسائطها الاتصالية من اتساع موجة الديموقراطية اختلفت سرعتها  و وظيفتها حسب كل مجتمع ، وذلك مع إقرار حرية التعبير وحرية النشر وإنشاء القنوات الفضائية.
   وإذا كان للإعلام دور هام في كل مجتمع فإنه لا ينجو بدوره من منزلقات قد يكون السبب من ورائها مصالح شخصية، والاستفاضة في موضوع الإعلام مسألة هامة، غير أنها لا تجد لها مقاما هنا إلا بقدر ما ترتبط بمجال التنشئة الاجتماعية السياسية ، وفي بلد كالمغرب.
اختار المغرب طريق الإنفتاح والسير قدما في مسار تجسيد الديموقراطية ، وهو الأمر الذي تجلى بوضوح في السنوات الأخيرة ، إذ اتسعت فسحة الحريات العامة وعلى رأسها حرية التعبير ، ويقدم لنا عدد الجرائد المتعددة الأطياف والاتجاهات دليلا على ذلك ، كما يقدم تحرير المجال السمعي البصري حجة أخرى دامغة على أن المغرب عازم كل العزم على إتمام جميع أوراشه الديموقراطية.
إلا أن فتح مجال الحرية لكل أطياف المجتمع كي تعبر عن آرائها  لم يسلم من منزلقات، حيث ظهرت مجموعة من الجرائد سمت نفسها مستقلة، واستغلت دمقرطة الفضاء الإعلامي لخدمة مصالحها الذاتية، وذلك عن طريق خلق مواضيع للإثارة لا هدف لها إلا الربح التجاري. متناسية دورها الحقيقي المتجلي تنمية الإدراك والوعي السياسي لدى الأفراد، وزرع حس المواطنة، وتجنيد المواطنين للمشاركة السياسية، وتقديم اقتراحات وبدائل مبنية على الموضوعية والعقلانية. غير أنها وللأسف ساهمت بشكل كبير في رسم صورة بشعة للسياسة وأهلها، فانهالت بازدراءاتها لكل مبادرة ، وتحقيرها لكل مجهود.
إن ما سبق حرك في الأفراد ما يسميه علماء النفس بالمجال العدواني للإنسان، إذ يتم تغييب التحليل المنطقي مقابل إعلاء اللاجدوى والنظرة العدمية والظلامية ، وهو ما يدفع إلى تكوين اتجاهات تعصبية ضد السياسة وأخواتها.
إن الدور السيئ الذي تقوم به بعض الصحف يشوه معنى الأشياء، وإذا كنا كتقدميين ديموقراطيين قد تضررنا فيما مضى بما سميناه بالصحافة الصفراء، فاننا اليوم كتقدميين ديمواقراطيين نعاني بما يمكن أن نطلق عليه : الصحافة السوداء ، التي يمتد تأثيرها السلبي في التنشئة الاجتماعية مع عامل آخر يسهم في عملية التطبيع الاجتماعي ، وهو ما يسمى القابلية  للاستهواء .

ج- القابليــة للاستهـــواء:
   ويقصد بها سرعة تصديق الفرد وتقبله للآراء والأفكار دون نقد أو مناقشة أو تمحيص، خاصة إذا كانت صادرة من منبر إعلامي، أو من شخصية معروفة، وتأخذ مصداقيتها من خلال التداول بين الأفراد.
   وهكذا فالجماعة تتشرب دون قصد أو نقد أو تحليل، العديد من الاتجاهات والآراء عن طريق القابلية للإستهواء، والتي تزيد حدة تأثيرها في المجتمعات كلما كان مستوى الوعي ناقصا ونسبة الأمية مرتفعة.
وتسهم القابلية للإستهواء من خلال التفاعل الاجتماعي لأعضاء المجتمع في تكوين نواتج اجتماعية، من ضمنها بعض الأفكار النمطية اتجاه الجماعات والموضوعات ، وللأسف ، يبدو أن السياسة كفن نبيل هدفه تحقيق مصلحة المجمتع وتسيير أموره العامة تحقيقا للخير العام ، قد تعرضت، وتتعرض في بلادنا إلى تنميط صورتها من خلال العوامل السابقة لتصبح في لا وعي الكثير فضاء لصراع المصالح الذاتوية وللوعود التي يتبعها جحود،  وللضحك على أذقان المواطنين . كما أن تنميط الصورة ذاك وضع عند البعض جميع الساسة والأطياف السياسة التي ينتمون إليها في خندق واحد…

الفصل الثاني: المدخل السوسيو ثقافي:

عوائق اجتماعية وآثار نفسية 
لا شك في أن السنوات الأخيرة التي يمر بها عالمنا المعاصر، وخاصة بعد سقوط جدار برلين أتت وهي تتدفق  بسرعة، حاملة معها تغييرات ضخمة وغير عادية، لتداهمنا بزخم من الأحداث خرافية السرعة، متعددة الاتجاهات، صعبة الاستيعاب، لتبقى الأحداث بذلك متقدمة زمنيا على تفكيرنا وتفسيراتنا.
ورغم أن التغييرات المتلاحقة خلفت تقدما على مستوى الصناعة أدى إلى نمو الاستهلاك، وازدهار في الشغل، وتعدد في مجالاته، إلا أن المكننة وتطور التكنولوجيا أديا إلى الاستغناء أو التقليل من الاعتماد على اليد العاملة، مما ساهم في تفاقم درجة البطالة، وكرس ظاهرة الفقر كما أدى النظام الرأسمالي بشكله المتوحش إلى تكدس الثروة في يد فئة قليلة داخل كل مجتمع، (بل وبين الدول الغنية والدول الفقيرة).
ويشهد علماء الاجتماع بأن الفقر والبطالة، إضافة إلى الأمية وسوء الأحوال الصحية، وانعدام شروط السكن اللائق هي عوائق اجتماعية تؤدي إلى استبعاد الأفراد الذين تحيق بهم من المشاركة في الحياة العامة، فكيف إذا ما اجتمعت كل هذه العوائق الاجتماعية وبشكل كبير في بلد يواجه تحديات جسيمة كالمغرب؟
يعيش عدد كبير من المغاربة تحت عتبة الفقر، مما يجعلهم يفتقدون لشروط العيش الكريم، يعانون حرمانا ماديا  يتجلى في عدم قدرتهم تحصيل متطلبات معيشتهم اليومية من غذاء وكساء وسكن لائق، مما يجعلهم يدورون في دوامة من القلق وانعدام الاطمئنان النفسي، وعدم الإحساس بالأمن الاجتماعي، الشيء الذي يؤثر على صحتهم الجسدية والنفسية، وكذا على سلوكهم وتفكيرهم، حيث أن الإحساس بالحرمان يرفع الإحساس بالقلق والتوتر النفسي، ويدفع إلا الاكتئاب والإحباط واليأس، فيتجه الفقراء بالتالي إلى الابتعاد عن المجتمع وقضاياه العامة.
يمكن إذن اعتبار الفقر نذيرا مبكرا للاستبعاد الاجتماعي، فالعلاقة الديالكتية بينه وبين العوائق الاجتماعية الأخرى جلية جدا، فالفقر لا يعطي للفرد إمكانية الاستفادة من سكن لائق، وعدم توفر هذا الأخير يسبب مشاكل صحية، كما يؤثر على الأسرة بحيث تعاني من مشاكل عائلية متعددة، مما يؤثر بدوره على التحصيل الدراسي، وبالتالي فالأفراد الذين يعيشون في كنف ظروف صعبة إما تتوقف مسيرتهم الدراسية مبكرا، أو يتخرجون من الدراسة بمستويات منخفضة، وهو ما يجعلهم عرضة للبطالة أو للعمل المنخفض الأجر، مما يعني تكريسا لحالة الفقر وتوسيعا لقاعدته، وبالتالي المزيد من الابتعاد عن المشاركة الفاعلة داخل المجتمع،  بل سيخلق في نفسية الأفراد إحساسا بالنقمة الاجتماعية.
ولا يمكن أن يفوتنا القول بأن الدولة المغربية بذلت في السنوات الأخيرة مجهودات كبيرة للحد من العوائق الاجتماعية التي سبق ذكرها، إلا أن الوضع الاجتماعي لا زال في حاجة إلى المزيد من الجهد والسرعة، للقضاء على آفة الأمية، وتكييف التعليم مع سوق الشغل، مع تطبيق عادل لمفهوم المساواة في كليهما –أي التعليم والشغل- على حد سواء، وكذا لتوفير الخدمات الطبية والعلاجية بتكلفة معقولة، وأن تنتشر مراكز الخدمات العلاجية بشكل متكافئ في كافة مناطق المملكة… إلى غير ذلك من سياسات اجتماعية فعالة، وذلك لأجل خلق مجتمع متوازن وسوي، قادر على التواصل الخلاق بين أفراده وجماعاته، منخرط في صلب الشؤون السياسية العامة.
ذلك أن اتحاد عامل التنشئة الاجتماعية الذي تمت الإشارة إليه في الفصل الأول، مع مجموعة العوائق الاجتماعية التي وردت في هذا الفصل، من شأنها أن تخلف آثارا نفسية حادة، هذه الأخيرة تفرز لنا بدورها أنواعا من السلوكات التعصبية في مجتمعنا، لعل "التعصب ضد السياسة" هو أحد هذه الاتجاهات التعصبية التي ربما بدأت تتجسد في بلادنا.
وسأحاول أن أوضح ارتباط ما سبق بنشوء السلوك التعصبي، معتمدا على نظريات علم النفس الاجتماعي المستندة إلى بحوث تجريبية.


الفصل الثالث: مصدر التعصب ضد السياسة
يمكن تعريف التعصب على أنه مرض اجتماعي يولد  الكراهية والعداوة في العلاقات الاجتماعية والشخصية، حيث يمد التعصب صاحبه بأسباب وهمية تفوت عليه فرصة حل إشكالاته ومشاكله بطريقة واقعية.
وقد عرفت البشرية عبر التاريخ بروز صور للتعصب، مما شكل أساسا لحلقات من الصراع كانت مصدرا لتعاسة البشر، وحاجزا للتفاهم بينهم، فالتعصب ونظرا لما يخلقه من صعوبات نفسية واجتماعية، فإنه يعوق النمو النفسي للأفراد ويدفعهم إلى الاضطراب، وهو ما دفع غالبية علماء  النفس الاجتماعي  إلى الاتفاق على أن: "صاحب الشخصية التعصبية هو نفسه صاحب الشخصية المضطربة".
ونادرا ما نجد سببا مسؤولا عن التعصب بمفرده، فهو يرجع لعوامل متشابكة ومتداخلة، لهذا  فمن المهم تبني رؤية شمولية تأخذ في اعتبارها جميع النظريات المفسرة للتعصب.
ينظر إلى التعصب بشكل عام على أنه اتجاه سلبي غير منطقي تجاه جماعة أو اتجاه أعضاء هذه الجماعة، ومن مكوناته بالإضافة إلى التفكير غير المنطقي الجمود، والتعميم المفرط، والظلم، وسيادة الأفكار النمطية، هذه الأخيرة التي تعتبر تطبيقا أتوماتيكيا للتعصب تجاه أعضاء الجماعة التي  تخصها هذه الأفكار النمطية. ومن وظائف التعصب أن المتعصب يجعل له "احتياطيا اجتماعيا" يتمثل في المتعصب ضده، ينسب إليه كل المفاسد ويحمله مسؤولية كل المصائب.
وأعتقد أن ما يفسر ابتعاد المواطنين عامة، والشباب خاصة عن مجال الممارسة السياسية بالمغرب، هو تعصبهم  ضد السياسة، ما يبرهن ذلك ليس هو نسبة العزوف عن التصويت في الانتخابات التشريعية الأخيرة (2007) فقط، بل أيضا الابتعاد الكبير عن جميع أشكال المشاركة السياسية.
وإذا ما أسقطنا تعريف التعصب ونظرياته على الواقع المغربي فإن الخلاصة ربما تقربنا من أن العديد من المغاربة متعصبون ضد السياسة.
ولنبدأ أولا بالتعريف، مقارنين إياه بواقع الحال، جاء في التعريف أن التعصب:
- اتجاه سلبي  غير منطقي اتجاه جماعة أو أعضاء هذه الجماعة؛ ولعل الامتناع عن التصويت الانتخابي، وعدم الانخراط اليومي في الفعل السياسي يشكل موقفا سلبيا، من السياسة وجماعة السياسيين، وهو الأمر الحاصل في المغرب، حيث نسبة الانخراط تبدو ضعيفة جدا بالأحزاب السياسية.
- يتسم بالتعميم المفرط والظلم؛ وهو ما يفسر أن النفور يشمل جل الأحزاب السياسية وأعضاء الجماعات السياسية، دون فرق بين هذا وذاك، بدون قراءة لتاريخ الأحزاب ونضالاتها، دون قراءة للواقع وممكناته… وهو ما يؤدي إلى ظلم البعض على حساب البعض الآخر، كما أن التعميم  المفرط يتجلى في عدم التفاعل والتجاوب من قبل المواطنين مع أي مبادرة تقدمها أية جماعة سياسية بالشكل الذي يجعلها فعالة ومنتجة لثمار إيجابية داخل المجتمع.
- يطبق ويمارس عن طريق أفكار نمطية، وهذه الأفكار النمطية هي صورة عقلية مفرطة في التبسيط تتكون عن بعض فئات من الأشخاص أو المؤسسات أو الأحداث التي يشارك في ملامحها الأساسية عدد كبير من الناس.
فأمام تعقد الأحداث على الساحة العالمية وتأثيراتها على الساحة الوطنية، يلجأ الأفراد إلى التبسيط المفرط، حيث يضعون السياسة وأهلها في "قفص الاتهام"، ليسقطوا عليها كل المشاكل الاجتماعية والفردية التي تواجههم. هذا الإسقاط هو أحد الحيل الدفاعية التي أشار إليها رائد مدرسة التحليل النفسي "سيجموند فرويد"، والإسقاط هو حيلة لا شعورية تتلخص في أن ينسب الفرد عيوبه ومناقصه إلى غيره من الناس أو الأشياء أو الأقدار، تنزيها لنفسه وتخفيفا لما يشعر به من قلق أو نقص. ويتسم هذا النوع من الحيل الدفاعية بطابع الهجوم والاعتداء والقذف.
لكن كيف يتكون التعصب لدى الأفراد حسب نظريات علم النفس الاجتماعي؟
بصفة عامة، يمكن حصر مسألة تكون التعصب في عاملين إثنين:
أولا: التنشئة الاجتماعية:
إذ ترى بعض المدارس بأن التعصب بوصفه اتجاها سلبيا يتكون لدى الفرد من محصلة تجارب وخبرات وتفاعلات اجتماعية تزوده بها عملية التنشئة الاجتماعية، فمن البديهي أن الأطفال لا يولدون ولديهم كراهية لأفراد ينتمون إلى جماعات معينة، لكنهم يكتسبونها من آبائهم وأمهاتهم خلال عمليات التعلم الرئيسية التي يمرون بها. وهو الأمر الذي رأينا في الفصل الأول كيف أن العديد من الأسر المغربية قامت به، إذ كرست لدى الناشئة تخوفا وكرها للسياسة.
كان إلى جانب الأسرة في تكريس هذا الاتجاه التعصبي، العديد من الجرائد التي وجدت في انفتاح المغرب على الديموقراطية بشتى أشكالها مبتغاها، لتسخر أقلامها لا لتملأ الصحف مدادا أسودا، بل لتملأها فكرا أسودا، ضاربة بقدر ما تستطيع كل الرموز السياسية دون تمييز، منتقدة بشكل هدام كل مبادرة يكون مصدرها من أي طيف سياسي، لتكسر كل جسور الثقة بين المواطن والسياسة. وهي تقوم بذلك متاجرة بألم المغاربة، لا لشيء سوى لخدمة مصالحها ومصالح من يرعاها.
إن ما سبق يؤدي حسب كثير من علماء النفس الاجتماعي إلى خلق قيم مشتركة تؤدي إلى تقوية التعصب، الذي سيتفاقم من خلال عملية الاستهواء الاجتماعي، فعندما يكون هناك تشجيع ثقافي واجتماعي للتعصب، سيصر كثير  من الأفراد على اتخاذ الموقف المتعصب سلوكا لهم، كي يجاروا الآخرين.
ثانيا: العوائق الاجتماعية:
جاء في الفصل الثاني أن العوائق الاجتماعية كالفقر والأمية وانعدام السكن اللائق وانتشار البطالة، تؤدي إلى القلق والشعور بعدم الأمان والتوتر وعدم الاستقرار الوجداني لدى من يواجهون تلك المشاكل، وهو ما يوصلهم إلى مستوى عال من الإحساس بالإحباط، الشيء الذي يدفعهم إلى البحث عن كبش فداء ليحملوه مسؤولية ما يعانوه من مشاكل، وهو الأمر الذي تتميز به الشخصية التعصبية.
وتفسر نظرية الصراع الواقعي التعصب على أنه ناجم على المنافسة على المصادر النادرة، خاصة المصادر الاقتصادية وعدم العدالة في توزيع هذه المصادر. أما نظرية الحرمان النسبي فإنها ترى أن المشاعر الوجدانية للواقع والحياة المليئين بالحرمان تكون مصدرا للعداء الاجتماعي وللتعصب.  وأيا ما كان الانحطاط أو الضعف الاجتماعي فرديا يميل الفرد الذي ينتمي إلى طبقة اجتماعية ضعيفة على تكوين تعصبات ضد الجماعات التي ينسب إليها المسؤولية عن انحطاطه أو ضعفه.
وانطلاقا من ملاحظات عديدة فإن عددا مهما من المواطنين المغاربة اختاروا الأحزاب السياسية كي ينسبوا إليها جميع ما يعانوه من مشاكل، ناظرين إلى الأعضاء المنضوين ضمن تلك الأحزاب والذين تمكنوا من تبوء مناصب معينة بعين النقمة الاجتماعية، ليصنفوهم جميعا ودون تمييز ضمن خانة الوصوليين.
و هكذا سيقف التعصب ضد السياسة حاجزا كبيرا أمام أبواب الممارسة الواسعة و الفاعلة في ميدان الشؤون العامة، و ستضمحل نسبة المشاركة في كل ما له علاقة بالسياسة ، الامر الذي لن يؤدي إلى حل المشاكل الاجتماعية و الاقتصادية و غيرها ، فعلى العكس من ذلك سيدفع على المزيد من التشاحن و الصراع داخل المجتمع ، سيكسر الثقة و يؤدي الى التباعد الاجتماعي، فيصبح المجتمع هشا. وهو ما يعبر عنه "ابن خلدون" عندما يقول : }عندما تضعف الأواصر الاجتماعية تقط المدينة{.
و بالتالي فإنه يبقى لزاما علينا مقاومة هذا التعصب و علاجه ،و ذلك اعتمادا على بعض الاساليب و منها :
1. الاتصال المباشر بين الجماعات و الافراد: يرى كثير من علماء النفس أن الاتصال المباشر بين الافرا د و الجماعات من الوسائل الهامة لخفض التعصب، بحيث ان دراسات عديدة أثبتث أنه كلما زادت معرفة الفرد بالحقائق و المعلومات عن الجماعات التي يتعصب ضدها قل التعصب، و تزيد فعالية مواجهة  التعصب إذا ما اتسم التصال مع المتعصبين بالتعاون والاعتماد المتبادل من أجل تحقيق أهداف مشتركة ، و أيضا إذا ما  تم  الاتصال معهم بشكل غير رسمي ، فالتعارف الذي يحدث بشك تلقائي بين الأفراد عنصر أساسي في الانصال.
2. البرامج التربوية : إذا كانت الأفكار النمطية و المعتقدات الخاطئة التي تمثل جوهر التعصب ، قائمة على الخطأ وتشويه للمعرفة، فإن التعرف على الوقائع ربما يساعد في عملية تغيير التعصب ، على الاقل لدى المستويات التعليمية المرتفعة.
3. التزود بالمعلومات عن مصادر الافكار النمطية: وهو ما قد يشكل أنجع الطرق بحيث يتم تعليم الناس أن يكونوا أكثر وعيا للخصائص الإيجابية عند تعاملهم مع الآخرين، بدلا من التركيز على الجوانب السلبية، كما يتم تعليمهم أن تبني موقف الاكتراث بالأمور والوقائع قد يعطي ثمارا أفضل من تلك التي يظنون أنهم سيجدونها من تبني موقف اللامبالاة.
و إذا كانت الأساليب السابقة تعتبر من الخطط العملية للاستراتيجيات الطويلة و المتوسطة المدى، فما هي نقطة الانطلاق التي يمكن البدء منها لمقاومة التعصب وبناء مناخ الثقة و التعامل المتبادل؟
إن ما سبق سرده في هذه الصفحات، يحدد لنا بعض معالم البيئةالسياسية و الاجتماعية التي نعمل فيها ، و التي تبين مدى التحديات الجسام التي تواجه العمل السياسي بالمغرب ، تنضاف إلى تلكم التحديات عوامل أخرى تقف حائلا  دون توسيع مجال المشاركة السياسية ، و لايسع المقام هنا لذكرها كاملة و التطرق إليها بشيء من التحليل، كالغزو الاعلامي الغربي ذو الثقافة الاستهلاكية، وانتشار موجات التطرف والتشدد الديني……إلخ.
إن معرفة البيئة التي نعمل فيها سيدفعنا إلى طرح السؤال التالي: "  مع من سنعمل في المرحلة الأولى؟"