قصة قصيرة: الجذور والعاصفة
عندما اصفر أديم الشمس وشحب الأفق، رفع المعطي رأسه، استقامت قامته المنثنية طول النهار. مسح بكمه عرقا باردا تصبب على الجبين، تأمل الشجرة الوحيدة الباسقة في إباء وعنفوان وسط حقله الصغير متحدية جميع العواصف كقمة جبل شامخ… كان جده يوسف جادا في تلقين أحفاده درسا في الكبرياء والثبات، هو من غرس الشجرة منذ عقود خلت، وأوصى برعايتها… تظهر من بعيد، تميز حقله عن الحقول الأخرى، كانت الوحيدة إلى أن فطن الجيران لفائدة غرس الشجر. لكن شجرة الجد يوسف بقيت هي الأعلى، كان المعطييذكر باستمرار أن من جذوره ممتدة لا تحركه ريح ولا تهيجه غواية.
ينتقل بصر المعطي إلى النظر في التربة الداكنة، وهي تدثر بذورا ظل ينثرها طول النهار، يقبض كمشة من التراب، يذريها بنفخة من رئتيه، يتشبث غبار بخياشيمه، ويلتصق تراب بصدرته المبللة بالعرق، يضرب بعتلته الأرض متحسرا على زمن كانت فيه المحاصيل تكفي أسرته على مدار العام، ويبيع منها الباقي…أما الآن فقد طرأت على المنطقة متغيرات.
تكاد كارثة تعصف به وبجيرانه الفلاحين، لم تعد ساقية الماء تحمل للحقول ما يكفي، حفروا الآبار فغار الماء سنة بعد أخرى، زادوا في الحفر إلى أن هدت سواعدهم، أما جارهم الثري، المستثمر الجديد كما يسمعون تسميته على كل لسان،والذي لا يعلمون عنه شيئا، بل لم يرونه قط، من أين حل؟ لا أحد يملك جوابا! قد يكون مترفا من إحدى المدن، يكتفي بالإطلاع على دفاتر الحسابات لمقاولاته الكثيرة، قد يكون مجرد شركة عابرة للقارات تملك أسهما وسندات في بورصات العالم، قد وقد… المهم أن حقول المستثمر الجديد تينع، ويرتفع مردودها، تصطف باستمرار على جنبات حقوله شاحنات متنوعة لنقل المنتجات إلى أسواق بعيدة…العمال المجلوبون يوميا عبر شاحنات مكشوفة، يتقافزون من هنا وهناك، والآليات المختلفة تملأ المكان بالضجيج والدخان…
في البداية اقتنى المستثمر الجديد حقلا مهجورا رحل وارثوه إلى الخارج لتتوسع أرضه باستمرار… كل الأشجارالمغروسة تتساقط بإعدام سريع، تزأر المناشير الآلية وفي لمح البصر تتناثر الجذوع كأنها جثة جنود سقطوا ضحية غارة غادرة… يعري الأرض ليزرعها بنباتات فصلية كما يريد! بعد بضعة شهور يقلع بقاياها الذابلة، يعوضها بأخرى سريعة ألإنبات وفيرة الإنتاج، تشحب بدورها وتزال في بضعة شهور…
تزحف البيوت البلاستيكية إلى محاذاة حقل المعطي، وهي تشبه قبوراعملاقة متحركة، تحجب مزروعات مختلفة، استحوذ المستثمر الجديد على كل المياه، واستحدث آباراإضافية أعمق.
المعطي يشتَمّ يده التي احتضنت التراب، يجعل أسنانه تصطك، يسمعلها رنينا يطن داخل جمجمته، تُحدث له حمى خفيفة، توقظ فيه هوسا بدأ يظهر عليه وينقطع، وقد اعتبره كل عارفيه بداية جنون أوعتهٍ، يَعُدّ على أصابعه ويتمتم، يقلّباحتمالات مصيره، ومستقبل أبنائه؛ قد يرحل، قد يبيع أرضه، قد يصبح أجيرا بثمن زهيد لدى المستثمر الجديد، قد يتشرد، قد…
يتمشى بخطوات عريضة متثاقلة، يقيس مساحة حقله بالخطوات… يتساءل: إذا باع كم سيأخذ؟ ماذا سيفعل بالنقود؟ السماسرة يدقون بابه باستمرار، تتساقط التساؤلات على رأسه، كأنه في لجة من نار يتقاذفه اللهيب.
توسط الحقل، مال على جدع الشجرة الباسقة، تهاوى جسده، لم تعد رجلاه تقويان على حمله، انغرزت أصابعه في التراب… وهو في شبه غيبوبته المفاجئة تناهى إلى سمعه نداء باسمه، بحركة بطيئة رفع رأسه، فرك عينيه، رأى ثلة من جيرانه الفلاحين قادمين نحوه، نفض عنه دوخته كما ينتفض الديك من بلل قطرات المطر، أجهد نفسه ليستقبلهم بجمل الترحاب المعهودة، سألوه عن حاله، رغم أنهم على علم بها، فوضعيته لم تعد تخفى على أحد.
أحاطوا به، لم يقف المعطي، أحنى رأسه أكثر، شعروا بعجزه الفظيع، تبادلوا النظرات التي تغني عن كل المعاني…بادر أحدهم ممزقا رداء الصمت الرهيب:
ـ أنظروا لحالتنا كيف أصبحت، كل يوم نفقد جزءا من الأرض، وقريبا سنصبح عاجزين عن الإيفاء بضروريات أسرنا…
جلسوا مفترشين التراب، جعلوا من المعطي حلقة لسلسلة دائرية من أجسادهم المنهكة، بذلك يستطيعون رؤية بعضهم البعض، الموضوع خطير يحتاج تبادل الرأي والاستماع لكل واحد من الجماعة… ، اتفقوا على دمج حقولهم وتكوين تعاونية فلاحية، وتغيير أسلوب العمل، وتحديث أدوات الإنتاج، والمطالبة بنصيبهم العادل من الماء،"سنهد أي عائق يقف أمامنا"، بجملة واحدة تأكدوا من إصرارهم الجماعي على التحدي… وافقهم المعطيالرأي لكن بشرط واحد.
رفع سبابته إلى السماء، فأرهف الجميع السمع منتبهين لفرد منهم ظل طول الوقت صامتا، أطلق العنان لصوته المجلجل المعهود:
ـ لن تقطع شجرة، سأمنعكم من قطع الشجر، حتى ما ينبت في حقولكم!
تبادلوا النظرات التي توحي بالاطمئنان ولو على حالة المعطي. خاطبه مالك اقرب حقل له من جهة الشمال:
ـ كن مطمئنا لن نزيل شجرة جذورها تمتد لقلوبنا…
أرادوا إيقافه فنهض مسرعا كجمل جافل أعياه الجثوم.
قرروا إضافة بند أخر إلى نص اتفاقيتهم المنتظرة، تضمن الإبقاء على الأشجار وغرس أخرى كلما أمكن ذلك، وتواعدوا على اللقاء في الصبح القادم.
مصطفى لمودن
(سيدي سليمان)