قراءة في كتاب
"الزعيم" الذي يظهر في زمن الانتخابات
صدر للأستاذ عبد المطلب أعميار كتاب أشر له بعنوان رئيسي "الزعيم" وبعنوان فرعي "محكيات من زمن الانتخابات"، من القطع المتوسط في مائة صفحة ونيف (*)، ذو نفحة حكائية، أو سرد قريب من الرواية، مفعم بسخرية سوداء لاذعة، سلط فيه الضوء على غرائب وعجائب الانتخابات، والتي أصبحت بحكم التعود وأشياء أخرى بمثابة تسلية أو فرجة أو مهزلة…وقد أتخذ منها عدد من "المثقفين" مسافة الحذر أو التردد أو المقاطعة…فكيف عالج الكاتب " الظواهر الانتخابية"؟ وهل أقنعت "النماذج الواردة" كعينة من كائنات انتخابية تتوالد بدون تناسل طبيعي؟ وهل حمل الكتاب رؤية مختلفة تعرض بلسما يشفي؟ لنقترب من مضمون هذا الإصدار الجديد نقترح أربعة محاور لذلك.
غلاف الكتاب
1ـ نماذج وشخوص:
تظهر على المتن الحكائي للكتاب نماذج من المنتخبين، وشخوص ثانوية مشاركة، وتسليط الضوء على صفاتها، كما وردت كفيل بتوضيح بعض مغازي "محكيات من زمن الانتخابات"، يبدو أنها مستمدة من "الحلبة" المحلية، رغم إصرار الكاتب في تنبيه صارم "أن كل تشابه في الوقائع والأمكنة والشخوص لهو من نسيج المحكي" ص 6 (1)، لكن "خروب بلادنا" متدل واضح لأولي الأبصار(2)
ا ـ الزعيم:
أهم نموذج توقف عنده طويلا، خصص له الكاتب ثلاثة فصول ( 40 صفحة )، وهو يأتي "أفعالا" تتطلبها الظروف الخاصة بالانتخابات، مثل الاعتماد على القبيلة "بحلول زمن الانتخابات…يعود الزعيم إلى القبيلة" ص 21، ويركب على المعتقدات الدينية والأسطورية والمتخيل الشعبي، فيستغل ارتباط الناس بضريح "الشيخ الدايم" وقد رمم ضريحه، وفعل نفس الشيء بالنسبة لقبة الزاوية من ماله الخاص كما يقول بنفسه ص 36، ويشيع زبانيته وسط الناخبين أن الشيخ في زمنه الغابر "رأى في منامه صورة الزعيم المرتقب تماما كوجه هذا الذي يخطب في الناس"، وقد "أوصى العباد بالوفاء لسلالة الزعيم لكي لا تصاب البلاد بمكروه لا قدر الله" ص24، وترفع شعارات عند مقدم الزعيم " تذكر القوم بأن تجديد الثقة فيه من باب الطاعة والإيمان" ص29، والفقيه لرمزيته الدينية هو من يعلن قبل الصلاة "نبأ مقدم الزعيم" ص32، إلى درجة أن شيخ الدوار المكفوف خاطب الزعيم قائلا: "ربي خلقنا باش نطيعوك" ص35، والزعيم لا يعتمد في توسيع شعبيته على ذلك فقط، بل يقيم الولائم، "كان الجمع على موعد مع طقوس الزردة الكبرى، لم ينس كبار القبيلة الذبائح جريا على عاداتهم في مثل هذه المناسبات، حضرت التبوريدة، وطقوس الفراجة…ولم يفت المنظمين إحضار ماء الجذبة لتسخين الأجواء…" (يقصد به الخمر) ص31، وبذلك يبرع"لا في صناعة الكلام فحسب، بل أيضا في تجييش الأتباع وحصد الأصوات" ص33.
فما هي صفات الزعيم كما وردت في الكتاب؟
الأستاذ عبد المطلب أعميار
إنه "الرجل الحديدي الذي لا يقهر" ص30، "ينفخ وجهه الغليظ حاملا بيديه علبة السجائر الأمريكية المفضلة، ليظهر أمام الناس كزعيم حقيقي وأبدي…" ص 27، يظهر وكأنه في عقده الخمسيني، وهو الذي ولد زمن الحرب الأولى" ص30، دائم النجاح في كل الانتخابات، يقول بنفسه مخاطبا أفراد القبيلة: "كاذب من يعتقد أن الانتخابات هي التي تجمعنا، وإلا لما زكتني أصواتكم منذ بداية الانتخابات ببلادنا" ص 44، ويقول عن نفسه كذلك: "يروج الخصوم بأنني إقطاعي، أمص دماء البسطاء"، وإذا كانت الغاية تبرر جميع الوسائل، بما فيها تاريخ الحركة الوطنية، فهو يقول: "منذ انخراطنا في الكفاح الوطني ضد الاستعمار، وإلى حدود الآن، لم نخلد يوما للراحة…" ص44، لكن الخداع لا يمكن أن ينطلي على الجميع، فيوجه له الكاتب خطابا فاضحا منه: " أتعرف يا عزيزي أسرار نجاحاتك التي يفتتن بها الناس؟ إنك تعرفها بكل تأكيد، تعرف كيف بدأت قصتك مع السياسة، وكيف أصبحت شخصية كبيرة في البلاد (…)، تعرف أن كل هذه الأمور خيوط عنكبوتية معلقة بين السماء والأرض، أوهام مطروزة بخدع محبوكة…" ص34، ولا يهمه التخلف المنتشر في القبيلة، فيقول لمريديه عن الأمية مثلا: "متى كانت (…) عيبا حتى يشهرونها سبة في حقكم، وحق أبنائكم؟" ص44. لكنه رغم ذلك يجد بوادر معارضة تنبث، كالعربي البوهالي، الذي ينطق حكمة بالدارجة فيقول: "جاو الكبار للقبيلة/ رهنوا الغابة والتراب" ص33 ( تتكرر مثل هذه الشخصية في كثير من السرديات المغربية والعربية)، ولهذا يخشاه الزعيم على بساطته، فيحذر شيخ الدوار من كلماته "التي تشبه في مضمونها كلام السياسيين" ص48، وقد صنع الكاتب للزعيم مصيرا مأساويا متمثلا في محاكمة على خروقاته، بعدما انفض من حوله كل معارفه، فهو فقط "لص من الطراز الرفيع" ص52
ب ـ الشاب ولد القبيلة:
خصص له الكاتب فصلا ( 13 صفحة)، حالة مرشح آخر قادم من بلاد النصارى (ص79)، أحد المغاربة المهاجرين، يذكرون أن له "عقلية أوربية بامتياز…يعرف كيف يجلب الاستثمار، وكيف يبرم الصفقات، بالرغم من أنه لم يتمكن من الحصول على شهادة مدرسية…" ص88 ـ 98، وهو يقول عن نفسه ردا على من يخاطبهم من المصوتين :" سمحت لهيه فكولشي، جيت سبيسيالمون لحقاش لبلاد تكرفصت يزاف" ص81، في حوار لا يخلو من سذاجة وجهل واضحين بمغزى الانتخابات، وقد جمع حوله شبابا يهتفون في هستيرية، حفاة عراة سكارى، "مقابل بعض الدراهم لليوم الواحد…والتي تصرف كل ليلة في اقتناء الروج الرخيص" ص80.
ج ـ فهيم:
جامعي معطل، وقد تبدلت به الأحوال من النضال في الحركة الطلابية، إلى حربائية مع كل الاتجاهات السياسية، "يميني مع أصحاب اليمين، يساري مع أصحاب اليسار، أصولي مع الأصوليين، نموذج حي لما أصاب شبيبة البلاد من تدمر…"ص82، وقد جاء الكاتب بشخصية فهيم ليمرر عبرها انتقادات قوية للذين ظلوا يحلمون بالثورة، "لقيام ديكتاتورية الطبقة العاملة"، وأستاذه في التأطير هو طالب آخر، "بوبكر المناضل القيادي (الذي) كان يتخلف عن اجتياز الامتحانات…وفاء منه للبرنامج النضالي المسطر، حتى أصبح حافظ سر الجامعة" ص84
دـ السيدإكس:
حالة متعلم أو "مثقف" مفترض، يعيش رتابته البئيسة، وفق إيقاع بطيء يزجي فيه الوقت الممتد بين المنزل والمقهى والشارع والجوطية، والحديث الطويل الممل عن "أخبار" الدنيا والتشاؤم من الانتخابات…
كما حبل الكتاب بنماذج اجتماعية عديدة، أتت "محكيات من زمن الانتخابات" مثل الحاجة "عريفة" التي كانت تتكفل بمجمع النساء( ص 31)، وكنموذج عن العابرين للأحزاب، جيء "بالحراك" الذي "فقد كثيرا من صفاته الآدمية" ص 71، "ويبيع وجهه…لمن يدفع أكثر" ص73
2 ـ مفهوم السياسة:
إن كل "مشاركة" في الحكم، وممارسة الانتخابات والانتماء للأحزاب، وحتى عدم الاكتراث أو المقاطعة…تتحدد بوضع مفهوم للسياسة كمؤطر، فكيف ورد ذلك في الكتاب؟ رغم طابعه الأدبي، وليس التنظيري أو التحليلي للظواهر.
نجد تعريفا للسياسة في الصفحة 12 باعتبارها إقامة للولائم، ووجه الزعيم أو ما صرح به، "وبقدر قليل من الحديث عن السياسة، أو على الأصح عن شؤون القبيلة"، وللسياسة معنى آخر هو صناعة الحاجة إلى الزعيم (ص35)، بل إنها (السياسة) مجرد خداع، "إن الحربائية ضرب من ضروب السياسة، ولا يخجلون من القول بأن عالم السياسة عالم خاص بتبديل الجلدة، ومن ليس له القدرة على تغيير قشرته لا مكان له في دهاليزها(…) لا أخلاق فيها ولا مبادئ، لا ينجح في مشوارها إلا العارف بحيل الإقصاء، والمتمكن من فن الخدع، والمتمرس على أساليب المراوغة، والبارع في التملق…" ص64، كما أنها لا تطيق المنطق والعقل، "لا مجال فيها للإنصات لصوت الضمير، هذا الذي يسميه الحكماء عقلا" ص74، لهذا فالسياسة تصبح كالجذام، بالنسبة للسيد إكس، ممثل المتعلمين، فهو "متيقن بأن السياسة لا تعنيه في شيء" ص97
3 ـ تعليق أول:
يبدو أن كتاب "الزعيم"، هو بمثابة تصفية حساب مع الظاهرة الانتخابية، خاصة بالنسبة للمغرب، وقد استعصت مقاربتها لحد الآن بشكل علمي دقيق، لتحديد مظاهر الخلل بها، وذلك لارتباطها كلية بتعقيدات العامل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي والديني… حيث ترتهن المبارزة للنفوذ القبلي والمالي، وليس لشيء آخر كالأفكار والبرامج.
لم نجد في الكتاب أي ذكر لحالة "مثقف" حقيقي شارك في الانتخابات، له رؤية مغايرة، ويسعى لتشييد بديل مختلف، قادر على "حشد الجماهير"، التي لا يعول عليها حسب الخلاصة العامة للكتاب، إذ أن لجوء الكاتب إلى محاكمة مفترضة للزعيم، وإن كانت تغلب جانب العدالة، فإن ذلك لا يوجد إلا في خيال الكاتب، لغياب سلطة قضائية مستقلة، تلف عدالتها على كافة المجرمين لتخلص الوطن منهم، وليس عبر تدخل من المواطنين أنفسهم.
كما أن هناك استهزاء ظاهر من مطالب الإصلاح، مادامت تأتي على لسان شخصية نمطية شبه معتوهة وساذجة ووصولية كفهيم (ص87 ـ 88)، ألا يعتبر ما ورد على لسان أحدهم خطابا ضمنيا من الكاتب نفسه إلى القراء، إذ يقول: "كيف لي أن أبيع الوهم لكل هؤلاء؟ (…) ها أنذا أتحول إلى صانع للكلام…أبيع الجمل بالمقابل…ولا شيء في الأفق غير مساحات مغلقة من الظلام الخانق، ظلام يحكم قبضته على كل الانفلاتات الممكنة لبريق الضوء" ص90، ونجد في مكان آخر على لسان أحد الشخوص في نفس المنحى الحديث التالي: "أما الكلام عما يسمونه قضايا الوطن فإنه وصفة للاستهلاك" ص74، وهو ما لايبتعد عما تحدثه من أثر سيء سلوكات مثل تلك الكائنات الانتخابية على نفوس المواطنين، أليس الكاتب بدوره شارك كوكيل لإحدى اللوائح الانتخابية المؤدية للجماعات المحلية؟ ولم نر أي ذكر لذلك في الكتاب!
إذا كان الكتاب قد ركز في أهم فصوله على الزعيم، ثم على الشاب ولد القبيلة، في وصف سردي قريب من الأسلوب الروائي، لكن بين ذلك ظهر فصلان أحدثا القطيعة، هما "خطاب وكيل اللائحة الحمار" و " انفصام"، وفي الأخير فصل "السيد إيكس" كحالة عدمية، مما قلل من متعة القراءة والتشويق، داخل نص متسلسل منسجم، تسبح داخله جميع الشخوص، وهي تتصارع، تتكامل، أو تتناقض…في أحداث تأخذ الأنفاس.
كما وردت أخطاء لغوية في جمع "نفس"، الذي هو "نفوس" و "أنفس"، وليس "أنفاس" (ص24 وص35)، بينما كان استعمال كلمة "أنفاس" بشكل سليم في الصفحات 29 ـ 51 ـ 56، والعقد الخامس وليس الخمسيني (ص30)، وهناك علامات تنقيط كثيرة تحتل مكان الفاصلة، المرجو الانتباه لذلك في طبعة قادمة، ومزيدا من الإبداع.
4 ـ تعليق ثان:
أصبحت حلقات "المسلسل الانتخابي"، منذ استئنافه في المغرب سنة 1977، تثير جدلا حول فعاليتها ونجاعتها، لإحداث أي تغيير منشود، أو ضمان تمثيلية حقيقية لمكونات المجتمع المغربي، رغم بعض الإيجابيات التي لابد من تسجيلها، كالاعتماد من حيث المبدأ على عنصر "الانتخاب" وليس التعيين، وإعطاء فرصة للمواطنين لاختيار ممثليهم، وجود تعددية حزبية حقيقية، رغم تضخمها الذي نعتقد أنه سيزول مع الوقت ( تشارك 33 تشكيلة حزبية في انتخابات 7 شتنبر)، تعود المغاربة على إجراء عاد اسمه الانتخابات، لا يقتضي اللجوء إلى العنف والاحتكاك البدني، كما يوجد في بعض الدول. لكن الأخطر هو انتشار عدم الاكتراث، لعدة عوامل، منها عدم فعالية المجالس المنتخبة ( البرلمان ـ الجماعات )، من حيث الصلاحيات الدستورية والقانونية الممنوحة لها، حربائية كثير من المنتخبين، ونهجهم سلوكا غير حضاري، يروم قضاء الأغراض الشخصية أساسا، قبل أي التزام آخر، تعاقب تجارب التزوير، وتراكم خيبات الأمل لدى المغاربة…لكن هل من خيار آخر لممارسة الحكم السليم غير اعتماد الديمقراطية والانتخابات، وتواجد الأحزاب، وتكوين مجالس منتخبة، لكن "اللعبة" أكثر من ذلك، تتداخل فيها المصالح، وتتضارب فيها التوجهات، وتبقى فيها الكلمة للأقوى وليس للأجدر، في انتظار بروز وعي وطني، ونخب تؤثر مصالح الوطن أولا وثانيا…
مصطفى لمودن ـ سيدي سليمان
نشر بالجريدة الجهوية " فضاء الحوار" في العدد 75، بتاريخ 1ـ 9ـ 2007
وبأسبوعية "اليسار الموحد" عدد203، بتاريخ 6ـ 9ـ 2007
هامش:
(*) "الزعيم"
"محكيات من زمن الانتخابات"ـ الطبعة الأولى 2007، المطبعة السريعة القنيطرة(على نفقة الكاتب!)
الكاتب: عبد المطلب أعميار، أستاذ مبرز، يقيم بسيدي سليمان ويعمل بالقنيطرة
(1) ص تعني الصفحة رقم…
(2) سيدي سليمان المدينة ودائرتها الانتخابية