الثلاثاء، 23 أكتوبر 2007

قصة قصيرة: حيرة


قصة قصيرة:       حيرة
      يصعب علي أن أتذكرهم جميعا، حتى سحناتهم ونبرات أصواتهم انْمحت من ذاكرتي، و ذلك بسبب الواقعة التي حدثت… كنا جماعة حائرة وجلة، متراصين على جانب النهر، لست أدري على أية ضفة هل اليمنى أم اليسرى، كل ما هناك أن السماء لم تتوقف لحظة عن إنزال المطر مدرارا، والسحب الداكنة غطت كل الآفاق…مياه النهر هادرة متلاطمة، يرتفع   منسوبها  باستمرار… تقترب من مواقع نعالنا، تهددنا بالانجراف…
  ومما زاد أمرنا سوء تعرضنا لحمى غريبة، تكاد تهلكنا جميعا، ما أن تحل نوبتها حتى ندخل في هستيرية مقرفة، نتصايح جميعنا في صخب ونتشابك بالأيادي والأسنان، لتحل بعدها فترة هدوء قصيرة، تتاح لنافيها فرصة التفكير المقتضب في حالنا، بعدما نكون قد افتقدنا كل ما اختزناه بذاكرتنا…
    تكاثرت التفسيرات و التأويلات، هناك من قال أن تربتنا قد سممت، و غذاؤنا لم يعد صالحا، وعلينا أن نغادر هذه الضفة…وهناك من ذكر أن كائنات فضائية سلطت علينا لعنتها، وهناك من ادعى إيجاد الحل لمشكلتنا.
      لم توسعنا حيلة، ولم تسعفنا مهارة… أصبحنا مهيئين لتقبل كل أشكال الحلول، مستعدين لتقمص فئران التجارب…قال المدّعون أن الحل على الضفة الأخرى  ؛ هناك لوح محفوظ، مخبأ في مكان ما، فيه تفاصيل دوائنا، علينا جميعا أن نبحث عنه، صدق الجميع الفكرة و أصبحت همهم الشاغل.
       كان علينا أن نقطع النهر، نظر بعضنا إلى بعض، تحمسنا و عقدنا العزم على التصدي، مصيرنا مرتبط بذلك، غير أن فئة منا انزوت جانبا، تشاورت في أمر، ثم عرضوه على الباقين، وهو ما أثار جلبة و انقساما في الرأي.
     لا أتذكر التفاصيل الدقيقة…مجمل القول أنه كان معنا شخص متحمس لا يكف عن توزيع تباشير الأمل في تغير أحوال الطقس، و قرب حلول عهد جديد، ترتفع فيه عللنا و تحل عقدنا لنهنأ و نعيش مرتاحين… ورأت الفئة التي تشاورت أن الشخص المعتوه لا يفيد الجماعة بشيء، بل إن وجوده فيه عناء لما يحتاجه من رعاية و عناية… و بما أن الأمر خطير جدا و يهمنا جميعا، فلا بد له من أن يبدي تضحية لصالح الجماعة، أي أن يقطع هذا المبشر المعتوه النهر وحده، فإن نجا تبعناه و نجونا كذلك، و إن هلك، نكف عن أية محاولة ستكون عاقبتها أخطر…
     و رأت فئة ثانية أن الرجل واحد منا، ولا يمكن التفريط في أي عنصر من الجماعة، و إذا كنا مستعدين لقطع النهر، علينا جميعا أن نواجه ذلك… لكن الرجل المعني بالأمر قََََََََبل تحمل المغامرة  وتبعاتها.
       الأخبار التي راجت بعد ذلك بين سكان المعمور حول جماعتنا اتخذت ثلاثة أوجه، فتضاربت الأقوال؛ الحكاية الأولى تقول أن الرجل المبشر أو المعتوه أصر على قطع النهر وحده قبل الآخرين… أكبروا فيه صنيعه و شجعوه، و عانقوه،  وقبّلوه، و أشاروا له بالوجهة المناسبة، أزالوا عنه بعضا مما ثقل من ملابسه، وارتمى وسط المياه الهادرة، يخبط بأطرافه، ينقلب، يختفي، يطفو، والجماعة تتابع… إلى أن ألقت به المياه على الضفة الأخرى، وقد هدّه التعب وأضناه…                          تزايدت كمية المياه في النهر الغاضب، و رغم ذلك تشجع جميع أفراد الجماعة و قرروا أن يتبعوه كلهم.. بقي الرجل المعتوه أو المبشر مستلقيا على الضفة الأخرى، لم يلتحق به أحد… بعدما كفت السماء مطرها قام من مكانه،  خطا إلى اتجاه لا يعرفه غارقا في ضحك هستيري، أو عويل مفجع على فراق أصحابه وفقدانهم.
     أما الحكاية الثانية فتقول أن الرجل ألقى بنفسه في النهر… أبدى مقاومة في البداية لكن النهر ضمه بين أمواجه، غيّبه، لم يطلقه، إلا بعدما تقطعت أنفاسه،  وأصبح لقمة صائغة في جوف النهر كقطعة خشبية لا تحرك ساكنا… شريط الحدث تفرج عليه الآخرون، كانوا يتراكضون حفاة على الضفة،  ينظرون، يتصايحون، يولولون… لما تيقنوا من هلاكه، استنكفوا عن أية مغامرة قد تهدد كيانهم بالفناء، واكتفوا بما هم فيه من مأساة، وضعوا أياديهم على خدودهم وظلوا ينتظرون…
      بينما الحكاية الثالثة تذكر أن الرجل ارتمى دون تردد وسط النهر الغاضب، يصارع الأمواج، و يجهد النفس همّه الوصول إلى ضفة الأمان، بدافع الإبقاء على حياته، و لتثبيت جدارته و تأكيد صدقيته… بعد عناء استطاع أن ينجو،  و يضع أقدامه بثبات على أرض الضفة الأخرى،  أخذ يلوح لأصحابه.. تبعوه، قطعوا نفس الطريق الذي عبره، تفوقوا جميعهم على النهر الغاضب،  و بعد هدوء العاصفة أعادوا للرجل الذي سماه بعضهم المعتوه اعتباره…
     فعلا ضاعت أنفس أثناء العبور، لكن لا أحد اكترث لذلك… 
   هذه هي القصة بصيغها الثلاث، اعتبرُها بمثابة نداء لكل من يهمه الأمر كي يدلي بمعلوماته مكتوبة، حتى تتوضح المسألة، و يعرف جميع اللاحقين ما وقع بالضبط، هل كلنا من سلالة تلك الجماعة؟ هل قضي على آفة الحمى؟ هل وجد اللوح المحفوظ؟
                              مصطفى لمودن
           سيدي سليمان  1992 
نشرت بجريدة " اليسار الموحد " عدد 22، بتاريخ 12 نونبر 2003
    وبمجلة "كتابتات" شتاء 2008


في كل شهر سأحاول إدراج قصة مما تراكم لدي، أغلبه نشر بصحف وطنية، ونظرا لصعوبة النشر ضمن "مجموعة قصصية" نكتفي الآن بالواجهة الفضية، عبر الشبكة…كما أننا ننتظر مساهمة القراء للنشر…