الخميس، 1 مايو 2008

قصة لماذا تلوّح فقط؟


قصة
لماذا تلوّح فقط؟
في يوم دافئ أحسست بعطش مفاجئ وبحرقة بسيطة في حلقي، كان المطر قد توقف لتوه، وظهرت أضواء شمسية بعد طول فصل مطير، كانت فيه السماء ملبدة بغيوم داكنة على الدوام… خرجت كباقي الكائنات الحية أتمشى على سفح الجبل وأسخن أطراف جسدي. لكن هذا العطش المفاجئ عكر صفو خاطري قليلا… لم يكن من اللائق أن أتزود بقنينة ماء أحملها معي، تلك ضرورة يتطلبها قيظ صيف مازال بعيدا. قلت مع نفسي سأجد بركة ماء قريبة تروي عطشي، فالماء مازال جديدا لم يُلوث بعد، آخر القطرات نزلت في الصبح. لكن المفاجأة الثانية بعد العطش الذي أصابني هو أنه لم أجد نقطة ماء متمددة على الأرض، مشيت خطوات كثيرة، أبحث هنا وهناك، ولا ماء!.. عجبا، في مثل هذا اليوم غالبا ما تبقى برك مائية كثيرة، منها ما يدوم لأيام، فماذا حدث؟ 
  تذكرت حكاية قديمة كانت ترويها الجدات، تقول الحكاية أن شامة الجميلة هجرت أسرتها، وسكنت مغارة في أعلى الجبل، بعدما رفضتْ تزْويجَها من رجل لا تحبه، يُقال أنها كانت أجمل وأذكى فتاة في البلد، تتوفر على أجمل عينين ساحرتين، روعة وبهاء لا نظير لهما يعجز عن وصفه أي شاعر أو كاتب… بالإضافة إلى جمال عينيها الأخّاذ، فقد كانت لهما قوة خارقة، بهما تستطيع تحريك الأشياء، تجذبها أو تدفعها، تعرف ما يوجد بداخل أي شيء بمجرد الرغبة في ذلك، مما جعلها محط احترام وتقدير الجميع، وحتى تهيُّبَهُم الذي لم يُخفه أحد، سوى أقوى رجل في البلد، فقد أرادها لنفسه زوجة فرفضت، رغب في إضافتها إلى بقية زوجاته وممتلكاته، فضلت الانعزال في الجبل، على الرضوخ للأوامر التي تقاطرت عليها من كل جهة.
  مع مرور الأيام بدأت تتساءل مع نفسها:
    ـ هل يمكن أن أبقى بلا زواج؟ أنا في حاجة كذلك إلى رجل يتزوجني وأتزوجه، نعيش معا، نكوّن أسرة وننجب أبناءً، الزمن يمر، الجمال يذبل مع الوقت، تضعف فرص الإنجاب وترْك الخلف، لا نَفْنى حينما نترك الخَلَف الذي يشبهنا ـ تقول مع نفسها ـ ولن يشبهنا الخلف إلا إذا كان نتيجة حب حقيقي…
     لكن كيف تتزوج وهي منعزلة في الجبل؟
   كما حكت لي جدتي مرارا فشامة قررت أن تختار هي بنفسها من تتزوجه، وضعت شروطا يجب أن تتوفر فيمن ستنجب معه ذرية، أولها الذكاء، وثانيها القوة، ثم حسن المعاملة، ووضعت خطة تجرب بها كل من قدرت أن يكون زوجا لها، إلى أن تتأكد من حسن معاملته… ارتأت أن تتعرف على أبناء بلدها كلّهم لتختار منهم واحدا يناسبها، فكرت في أنجع وسيلة يمكن بها أن تتعرف على جميع الشبان بدون استثناء، التجأت إلى القوة الكامنة في عينيها لتحقيق ذلك.
       صعدت إلى أعلى القمة، نظرت إلى كل الأرجاء، وفي لمح بصر حولت كل عيون الماء والبرك المائية الصغيرة المتناثرة هنا وهناك إلى أسفل الجبل الذي تسكنه، بذلك سيأتي إلى مصدر الماء كل الرعاة وكل من يريد جلب الماء إلى بيته، وكل من يرغب في إرواء عطشه… حينها ستختار من يناسبها، غير أن تدفق مياه جميع العيون كون بحيرة كبيرة حول الجبل.
 أنا أريد أن اروي عطشي، ما زلت أتـمشى، أبحث عن أي منبع ماء أو بركة. بعدما أزحت عن طريقي غصن شجرة مائل رأيت بحيرة تمتد أمامي! 
    لم تكن هذه البحيرة من قبل، لم يحدث أن رآها أو تحدث عنها أحد، كيف تكونت إذا بين عشية فصل الشتاء وضحاه؟  
 اقتربت أكثر من ضفة البحيرة وأنا أحاول ألاّ تـنـزلق قدماي في الماء أو تنغمسا في الوحل، أشد بقوة غصنا يانعا، يشد بدوره في جذع شجرة وارفة متشبثة بالمكان، أريد أن أروي عطشي، ملتُ بجسدي على صفحة الماء اللامعة فترآى لي وجه صبوح لفتاة لم أرها من قبل، مخضتُ برجة خفيفة رأسي، مسحت عيني، الصورة واضحة، فتاة جميلة تنظر إليّ وتبتسم، آه فهمت لم أفكر في الأمر منذ البداية، هي فوق غصن وصورتها تنعكس على الماء! نظرت إلى الأعلى، لكن لم يظهر أي أثر لأي فتاة! غريب! هل هذا حلم؟ تحسست أطرافي وتأكدت من أنني لست نائما، أدخلت أصبعي في الماء فتكونت دوائر تتباعد داخل البحيرة إلى أن تتلاشى… لحظتها يتحرك طيف الصورة، تتمايل ثم تعود لمكانها، تبتسم لي أكثر، تميل بوجهها الجميل يمنة ويسرة. لكن الغريب في الأمر أن أصبعي لم يبتل بأي قطرة ماء!..
 قلت لأحدثها إذن:
   ـ ما اسمك يا رائعة؟
   لم ترد، أعددت عليها السؤال، فلاحظتُ حروفا على صفحة الماء الهادئ، مفاجآت كثيرة هذا اليوم! تهجيت الكتابة: "هند".
    قلت لها:  
 ـ ياهند أريد سماع صوتك.  
   لم أسمع شيئا، لكن أصبعا ظهر وخط بحروف أنيقة على سطح الماء:
 ـ اسمي خديجة. 
 قلت لها:  
 ـ يا خديجة، هل أنت هي شامة التي كانت تروي عنها الجدات؟
 كتبت: ـ ممكن.
 أعلنت بكل لهفة:
ـ اظهري أريد رؤيتك كاملة. 
 كتبت مرة أخرى بأصبع يشع منه نورٌ فضيّ يُضيء أكثر صفحة الماء:
 ـ ليس الآن.  
 قلت لها:  
ـ إن شامة قد تزوجت، ولكن ليس من أحد رعاة الغنم، لم يعجبها أحد منهم، فارتأت أن تمر إلى طريقة ثانية بعدما أعلنت للجميع رغبتها في الزواج من طرف أحد شبان البلد، لقد علمتْ أن هناك آخرين لا يرعون الغنم، ولم يزوروا قط البحيرة، اشترطت على كل من يرغب في الزواج منها أن يكتب لها قصة، ثم أن يكون الأول من يقطع البحيرة سباحة، انتشر الخبر وكان لها ما أرادت.
 قرأتْ كلّ القصص التي توصلت بها، واختارت منها واحدا وعشرين قصة ليتبارى كتابها عوْما في ماء البحيرة البارد.  
 رأيتُ أول حرف على سطح الماء، فعرفتُ أن رفيقتي غير المرئية تريد قول شيء، كتبت:
 ـ إنك طيب ولا أريد خداعك، اسمي الحقيقي رشيدة. فأكمل حكايتك.
 ـ لا يهم ما يكون اسمك، كل المسميات الجميلة تستحقينها.
   وأضفتُ: ـ هل تعرفين بقية القصة؟  
   ـ هي قصص كثيرة، يحلو للجميع حكْيَها وسماعها، خواتمُها متعددة، لكنّها كلّها تنتهي بزواج شامة، لقد كان قصدها منذ البداية هو الزواج.
 ـ وأنتِ؟ هل ستظهرين؟ أريد رؤيتك وسماع صوتك، فهل لك بدورك شروط؟
 ـ عندي شرط واحد فقط، هو أن تكتب لي قصة أكون أنا بطلتها…  
 لوحت لي بيدها واختفت.
 عدت أدراجي ألهت من شدة العطش، حملت قلما وورقة وشرعت في كتابة قصة أهديها لرشيدة

مصطفى لمودن (المغرب)
————
  نشرت هذه القصة في مجلة "العربي" الكويتية ضمن عدد مارس 2009