الاثنين، 31 يناير 2011

قصة: هــــــروب الحـــــاكــــم


قصة:                      هــــــروب الحـــــاكــــم
مصطفى لمودن
     كان في غابر الأزمان حاكم قرية كثير الظلم يحكم ببطش وقوة وتسلط كافة شعب قريته… وكان له وزير يسمى في عرف ذلك الزمن بعين الحاكم التي لا تنام، وكان هذا الوزير فعلا لا ينام، أو على الأقل هكذا كان يعتقد ساكنو القرية وكل من يعمل تحت إمرته، لقد اعتقدوا أن للوزير عيونا كثيرة تظل ساهرة لا تنام، كان كل شخص يحس أن عينا تراقبه، إلى أن تحول الأمر إلى هوس استبد بكل الشعب.
 ومن القرارات التي فرضها وزير عين الحاكم باسم الحاكم، ألا يجتمع أو يتجمّع الناس إلا بترخيص منه وحضور عين من عيونه التي لا تنام.
 لكن في يوم من الأيام وصلت أخبار إلى الحاكم مفادها أن جماعة من الرجال بجلابيبهم يخالفون زوال كل يوم الأوامر الصارمة بعدم التجمع إلا بإذن… والأمر المريب الذي أدخل الشك لدى حاكم القرية أن هؤلاء الرجال أصحاب الجلابيب يغيرون كل يوم مكان اجتماعهم، مما جعله يرتاب في أمرهم وفي المخططات التي يعدونها… لهذا اختار قرارا جديدا وصارما كلف بتنفيذه وزيره صاحب عين الحاكم…
ومما جاء في هذا القرار الذي بقي طي الكتمان، أن تتوزع العيون في مختلف مفاصل القرية وشعابها ومراعيها لترصد اجتماع أصحاب الجلابيب ومعرفة الموضوع الذي هم من أجله يجتمعون، وأضاف بأنه لا يريدهم الآن كلهم ولا يرغب في رؤوسهم، بل المهم والأساسي أن يعرف المخطط والفكرة التي تدفعهم للاجتماع، وعليه من الواجب مراقبتهم عن بعد والتأكد ممن هو زعيمهم أو زعماءهم المفترضين، علينا معرفة كل ما يخص هؤلاء أصحاب الجلابيب.
خلال أيام قليلة جاءت أغلب تقارير العيون المثبتة هنا وهناك في مفاصل القرية تقول:
"بعد زوال كل يوم، يجتمع جماعة من أصحاب الجلابيب في مكان مغاير لمكانهم الذي يلتقون فيه خلال اليوم السابق، ولاحظنا أنهم كثيرو الضحك والمزاح فيما بينهم، وأنهم يتحلقون حول رجل له جلابة بيضاء بها خطوط دقيقة سوداء، ويبدو أن ضحكهم وقهقهاتهم ليست بريئة بل تخفي مكروها لم نستطع تحديده بالضبط".
ما أن أنهى وزير عين الحاكم تلاوة التقرير الجامع لكل التقارير التي أعددتها عيون عين الحاكم، حتى قام الحاكم من كرسيه الفخم، وقد احمرت عيناه، وظهر عليه غضب شديد، جعل فرائص الحاضرين من وزراء ومستشارين ترتعد، وسقطت من يد وزير عين الحاكم الورقة التي كان يقرأ فيها دون أن يشعر بذلك… توجه الحاكم مباشرة إلى وزيره عين الحاكم، وأمره أن يلقي القبض في الحين على زعيم الرجال أصحاب الجلابيب حالا.
جيء بالرجل مكبلا، وألقي في زنزانة باردة، وترك هناك حتى يتهاوى جسده وتتآكل عزيمته… وبعدها سيعترف بكل شيء،  سيعترف بالمآمرة التي يقودها مع رفاقه ضد القرية وضد مصالح سكانها، يقول الحاكم، أنا من يسهر على مصالح القرية ومن يقوم بخدمتها بكل تفان وإخلاص حسب بلاغ ألقاه وزير بوق الحاكم على جميع البراحة وناقلي أوامر الحاكم إلى كل دروب القرية وأزقتها..
أمر الحاكم أعضاء حكومته ومستشاريه باتخاذ مزيد من الحيطة والحذر وكل ما يلزم من إجراءات للوقوف ضد أعداء القرية الخارجيين، وبأن صاحب الجلابة المخططة بالأسود سيعترف بكل شيء طال الزمن أو قصر، كما قال في نهاية اجتماع طارئ، وقد كثرت مؤخرا اجتماعات الطوارئ.
أما بقية الرجال الآخرين فأمر بمتابعة تحركاتهم دون المساس الآن بأي أحد منهم، وذلك لقطع دابر كل فكرة خطيرة تدور في رؤوسهم بصفة نهائية، وأضاف الحاكم وهو يشعر بنشوة انتصار "إن الأمر لا يتطلب مواجهة أجساد هؤلاء البؤساء"، وهو يمسح جوانب شفتيه من بقايا الرذاذ الذي تطاير من فمه طول وقت الاجتماع، خفض من صوته وهو ينظر في عيون أعوانه وأعضاء حكومته واحدا واحدا.
********************
 في صبيحة إحدى الأيام دخل مسرعا وزير عين الحاكم على الحاكم وهو ممدد على أريكة وسط غرفة واسعة وعدد من الغواني ملتفات حوله… هذا الوزير وحده من له الصلاحية في أن يدخل على الحاكم في أي وقت كان، تلك هي الأوامر… استقام الحاكم جالسا، وبإشارة من يده أمر كل الفتيات بالانسحاب ومغادرة القاعة.. وأمر الوزير بأن يدلي بما لديه.
ـ سيدي، جاءت أخبار مؤكدة تقول إن أصحاب الجلابيب البيضاء يريدون مقابلتك، وهم الآن متوجهون إليك… ما هي أوامركم سيدي؟
 نظر الحاكم إلى الأرض مهلة ثم رفع رأسه وقال:
ـ نعم، يمكن لهم أن يقابلونني، أنا هنا لخدمة المواطنين والاستماع إليهم، على هؤلاء أن يبقوا دائما أوفياء لنا…لا أرى مانعا في مقابلتهم، لكن قبل ذلك تأكد من مطالبهم، عليك أن تعرف أن هناك مطالب لا يمكن قبولها إطلاقا.
بعد نصف ساعة عاد وزير عين الحاكم بما توصل إليه من معلومات:
ـ سيدي، إنهم يريدون تقديم طلب عفو لصالح السجين الذي أمرت بإدخاله إلى السجن، أي زعيمهم يا سيدي.
بسط الحاكم كف يده ومررها على ذقنه، وقال:
ـ سنرى في الأمر.
********************
ادخل الرجال جميعهم إلى قاعة فسيحة فيها بساط ممدد ووسائد قبالة كرسي كبير أمامه طاولة عريضة، وعلى الجدران صور ضخمة للحاكم…
 وبعد ساعة طويلة وهم ينتظرون حتى آلمتهم جوانبهم من كثرة الجلوس، رغم أن بعضهم استعمل الوسادة ليتكئ عليها…
وفي لحظة كلمح البصر دخل عليهم عدد من الحرس يحملون حرابا طويلة ذات رؤوس حادة تلمع، ومنهم من امتشق قوسا وعلى ظهره نبال يبدو أنها من فضة… بسرعة احتلوا جميع جوانب القاعة، ومنهم من وقف إلى جانب الطاولة، وآخرون اصطفوا أمام رجال القرية…
اخبر الجميع بأن الحاكم سيدخل، أمر بعض الحراس رجال القرية بالوقوف، وكذلك كان، لكن رجلا واحدا حاول القيام غير أن قدميه لم تسعفاه، فتهاوى ساقطا، في تلك الأثناء دخل الحاكم، هجم حارسان على الرجل الذي سقط بفعل الشيخوخة، الحارسان صوبا رمحيهما نحو جسد الرجل، غير أن الحاكم أمرهم بالتوقف عن ذلك.
أمر حراسا آخرين جاؤوا معه كي يضعوا الرجل على قديمه ويقدموه إليه.
   بقي الرجل يرتعد وهو لا يعرف ما ينتظره…
 قال له الحاكم:
ـ لماذا جئتم؟ ماذا تريدون؟…
التفت الشيخ نحو أصحابه الذين بقوا واقفين خلفه، فهو غير مخول له الكلام نيابة عن الآخرين، وهذا أمر لم يفكر فيه منذ البداية ولم يستعد له…
بالتفاتة الرجل إلى أصحابه تنبه من جديد الحاكم إلى تواجد الآخرين، كأنه لم يلحظهم في البادية، فأمرهم بالجلوس، وارتمى هو على الكرسي الكبير، وأعاد سؤاله على الشيخ المرتعد الواقف أمامه بصعوبة.. بعد تردد خرجت جمل متقطعة من فم الرجل:
 ـ سيدي الحاكم، نترجاك ونرجوك، ونطلب منك أن تطلق سراح صاحبنا، لقد تفاقمت معاناتنا، وغابت سعادتنا، وأصبحنا في جحيم لا يطاق… سيدي لا نخفيك سرا، منذ قبضت صاحبنا لم نشرب شايا ألذ مما كان يعده صاحبنا، ألم تعلم يا يسدي أننا كل زوال نجتمع ليعد لنا صاحبنا شايا رائعا، وكل مرة يتكلف أحدنا بلوازم الشاي يا سيدي فنقيم للحظات قرب داره، سيدي الحاكم باسم الشاي الذي يروقنا ويروقك نرجوك إطلاق سراح صاحبنا.. إننا في حاجة لكأس شاي يعيد لنا مزاجنا الذي تعكر منذ أيام.
تنفس الحاكم هواء أكثر وهو بذلك يوسع حجم صدره الذي كان قد ضاق، واستمال بجسده إلى الخلف متكئا على عارضة الكرسي، صمت قليلا وخاطب الشيخ:
ـ من قال لك إنني أحب الشاي؟
لم يرد الشيخ بشيء وقد خاف أن يصيبه مكروه على هذه الجملة التي سبقته دون إن يفكر في عواقبها.
فأضاف الحاكم:
ـ صاحبكم يعرف صنع الشاي إذا؟
ـ نعم سيدي…
ـ عليكم الآن العودة إلى بيوتكم، سأنظر في الأمر.
********************
في اليوم الموالي توصل رجال القرية أصحاب الجلابيب البيضاء باستدعاء من الحاكم قصد الحضور إلى مقر إقامته.
أمر الحاكم في نفس اليوم بوضع خيمة كبيرة في ساحة إقامته، وأمر كذلك بإحضار عـُدّة الشاي…
دخل رجال القرية أصحاب الجلابيب واجلسوا في الخيمة، وخاطبهم الحاكم:
ـ سترون أن صاحبكم لا يعرف صنع الشاي، ستتأكدون اليوم بأنفسكم… وبذلك سأثبت لكم جميعا أنكم لم تكونوا تجتمعون من أجل شرب الشاي، بل من أجل أهداف أخرى.. ستنالون جميعا عقابكم الذي تستحقونه حسب قوانين القرية… لهذا أنا هنا كي أتحمل مسؤوليتي لحماية كافة السكان من كل أذى يتعرضون له.. سترون.
انتقل الحاكم إلى غرفة قريبة مجاورة، وأمر خادما بوضع عشبة ذات طعم مر في الماء الذي يغلي.
اخرج الرجل الذي يعد الشاي من سجنه، والبس ثيابا أخرى لائقة، وجئ به إلى الخيمة، ووضعت أمامه عُدّة الشاي، من كؤوس وصينية وسكر وحبوب الشاي… وأمره الحاكم أن يعد الشاي كما يفعل كل زوال في القرية متجاسرا دون أن يحصل على إذن خاص من أجل ذلك، وهو يكرر جمل التهديد والوعيد.
نظر الرجل مليا في أصحابه الجالسين في الخيمة على شكل نصف دائرة، ثم التفت إلى الحاكم الذي ظل واقفا بجانبه وقال له:
ـ سيدي لو تسمح لدي طلب.
ـ قل.
ـ هل ستشرب معنا الشاي؟
ـ  نعم بكل تأكيد، فأنا واحد منكم.
ـ سيدي تنقص ثلاث كؤوس.
ـ لماذا ثلاث كؤوس؟ لقد حسبنا الجميع، لكل كأسه، بالنسبة إلي سنضيف كأسا خاصا، ولكن لماذا الآخران؟
ـ سيدي، واحد خاص بالبراد، أفرغ فيه الشاي وأعيده من جديد إلى البراد، والثاني أذوق منه.. هذا ما نفعله نحن كل يوم.  استجاب الحاكم لطلب معد الشاي لكن أتاه بكأسين فقط.
جيء بالماء المغلي، صب الرجل ما يكفي، وحمل البراد خادم ليضعه على النار.
لما نضج الشاي جيء به إلى المعد، افرغ منه في الكأس ورده ثانية إلى البراد، وكرر العملية عدة مرات… والحاكم يراقب الأمر.
ثم أفرغ قليلا من الشاي في كأس ثانية، ذاق، وكاد يبصق ما رشف، عدل عن ذلك أمام الحاكم، وقال:
ـ سيدي، في الماء عشبة حارة، هذا الشاي غير مناسب.
أمر الحاكم الخادم بإفراغ محتويات البراد وإعادة العملية من جديد، بعد لحظة جئ بماء آخر، وأعد الرجل الشاي كما اعتاد دائما.
ولما رشف قليلا من شاي البراد الثاني لم يستصغ الطعم، فقال للحاكم:
ـ سيدي، لقد أضيف ماء بارد إلى الماء المغلي، وعليه هذا الشاي غير مناسب.
فعلا، لقد توجه الحاكم قبل ذلك إلى الغرفة المجاورة وأمر الخادم بذلك.
 في المرحلة الثالثة أعد الرجل شايا كما يجب، وتأكد من مذاقه الذي تعودوا عليه، فرشف منه أولا حتى سمع صوت صفير انطلق من بين شفتيه، أفرغ في الكؤوس، ووزع الشاي على الجميع، وأعدت براريد أخرى حتى شبع الكل…
 ولما تأكد الحاكم من حقيقة أمرهم أمر أحد وزرائه بإعداد مكان يجتمعون فيه كل مساء لشرب الشاي.
 ********************
في اليوم الموالي دخل الوزير المعلوم مسرعا على الحاكم الذي كان ممددا على أريكة وسط قاعة فسيحة… خاطبه وفرائصه ترتعد:
سيدي، جماعة من شباب القرية متوجهون الآن صوب مقامكم، إنهم كثيرون، يتصايحون وهم يركضون…
ما كاد يتمم كلامه حتى سمع الحاكم بنفسه الأصوات التي تعبر السور العالي للإقامة، وتدخل بقوة عبر النوافذ… قفز الحاكم من مكانه وهو يصيح في وجه وزيره عين الحاكم:
ـ ماذا يريدون؟ قل ماذا يريدون؟… لقد أعددنا لهم ملعبا، وكل سنة نقتني لهم ثلاث كرات جديدة، فماذا يريدون؟ هل يريدون أربعا؟ 
 في تلك الأثناء دخل وزير آخر على الحاكم وهو يلهث، خاطب الحاكم:
ـ سيدي الآن عدد من الشباب يتسلقون السور، إننا نردهم، نضربهم، لقد قبضنا على بعضهم، إنهم كثيرون وضمنهم شابات كذلك، سمعناهم يتصايحون كالذئاب وهم يقولون "ديمقراطية" "ديمقراطية" "ديمقراطية"…
رد الحاكم: ـ لا ينقصنا غير مشاركة الشابات كذلك! وما معنى "ديمقراطية"؟ هاته التي يتصايحون بها؟ قل؟ لم يسبق لي أن سمعت بهذا، هل هي كذلك نوعا من الشاي؟ أم أكلة محبوبة لدى الشباب؟
أجاب الوزير:ـ أنا لا أعرف يا سيدي، لم يسبق أن جربنا هذه الأكلة عندنا.
في تلك اللحظة دخل وزير آخر وهو يصيح:
ـ سيدي، الشباب قفزوا السور.. لم نستطع رد الجميع، إنهم كثيرون… وحتى جنودك وضعوا رماحهم وانضموا إلى المحتجين… إنهم يسعون إلى الوصول إليك.
ـ إلي أنا؟ وماذا فعلت لهم؟
نظر الحاكم في جوانبه، إلى القاعة طولا وعرضا كمن يبحث عن كوة في جدار سفينة تغرق، نظر إلى العيون الشاردة لوزرائه، ثم قال فيما يشبه الأمر والترجي معا:
ـ أين فرسي؟ أريد أن أخرج من هنا..
تدخل آخر وزير دخل مقاطعا:
ـ أنصحك ألا تستعمل الفرس، اركب بغلة، لقد وضعناها لك في المدخل الشرقي الذي لم يصل إليه بعد الشباب، البس جلابة وضع عمامة على رأسك، لن يعرفك أحد وغادر…
 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
 سيدي سليمان ليلة 30 يناير 2011 
——————