ملفات فساد
تفويت الضيعات بمنطقة الغرب
احتاجات عمالية بمنطقة سيدي سليمان ضد تفويت ضيعات "الصوديا" و "السوجيطا"
مصطفى لمودن
كثر الحديث عن الفساد الذي استشرى في المغرب، حتى أصبح جل المواطنين يعتبرون ذلك شيء عاديا ومسلما به، يتعايشون معه، وآفة يصعب التخلص منها بالنسبة لهم، خاصة في ظل تشعب هذا "الفساد" وامتداد جذوره في كل مكان، ومساندة المفسدين بعضهم لبعض ضمن تحالف غير معلن، يمس مؤسسات القطاع العام وغير العام، سواء في تفشي الرشوة واقتصاد الريع والمحسوبية والزبونية… وحتى لا يبقى الكلام معمما وفضفاضا ندرج نموذجا مس قطاع الفلاحة في منطقة الغرب ومناطق أخرى، وهو تفويت غالبية الأراضي العمومية التي كانت تسيرها شركة "الصوديا" و"السوجيطا" و"كوماكري" المملوكة للدولة سابقا، وقد تكلفت بتدبير عدد كبير من الضيعات المسترجعة من المعمرين الأجانب الذين كانوا قد استولوا على أجود الأراضي الزراعية أثناء فترة الحماية (1912ـ 1956) وحولوها إلى ضيعات منتجة لغلات زراعية مختلفة، خاصة البرتقال، ومن هذه الضيعات كذلك التي تخصصت في تربية المواشي.. استرجعت الدولة هذه الأراضي بعد الاستقلال على مراحل وبعدما حصل المعمرون على تعويضات، وقد ساهمت هذه الضيعات في تشغيل آلاف اليد العاملة وكانت غالبية منتوجاتها توجه إلى التصدير. لكن لعدة أسباب منها ضعف الرقابة وسوء التسيير جعل هذه الضيعات تتراجع وتعرف أزمات حادة إلى درجة أن بعضها أصبحت عاجزة حتى عن أداء أجور العمال والمستخدمين العاملين بها، حدث هذا بالتدريج والفاعلون السياسيون في المغرب منقسمين بين فريقين، فريق متشبث بالسلطة، يقوم بالمستحيل من أجلها، ولا يتردد في استعمال أي أسلوب يحقق المبتغى، ولو كان تصفية أو سجن الخصوم أو تزوير الانتخابات… وفريق ثان مبعد عن الشأن العام يناور ويحاول بكل الطرق المتاحة له من أجل المشاركة في الحكم، ولما فتح "مسلسل الانتخابات" بعد نكسات طويلة، ظهر أن ذلك لم يكن سوى "مزحة عابرة" أرادها الحكم تلميعا لصورته الخارجية، وتوريطا لبعض النخب في مستنقع التدبير المحلي داخل جماعات حضرية وقروية بدون موارد ولا صلاحيات، وتحت رحمة "سلطة الوصاية"… في ظل هذه الأجواء نما "الفساد" وترعرع وتمكن من كل مفاصل المجتمع والدولة، وقد حل جزء منه بضيعات "الصوديا" و"السوجيطا" و"كوماكري"… ساهم فيه غالبية المسيرين وحتى مجموعة من العمال والمستخدمين.. من ذلك إهمال الضيعات، تحويل المنتوجات لبيعها في أسواق جانبية، عدم تجديد الأشجار الشائخة… إلى أن بدأ مسلسل التفويتات، الذي عرف مراحل ودرجات وطرق مختلفة، في البداية انطلق بشكل عشوائي منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، بعض الضيعات سلمت كهبات لبعض الشخصيات النافذة أو ترامت عليها جهة معينة، وضيعات أخرى كان يتم "التخلص" منها كيفما اتفق، وهو النموذج الذي سنتطرق لواحد منه، فيما بعد حاولت الجهة الوصية استعمال "أسلوب" آخر، قيل إنه شفاف ووفق دفتر تحملات وعقدة واضحة، ورغم ذلك ما تزال بعض المشاكل متراكمة، منها عدم الالتزام بدفتر التحملات على علاته، وطرد العمال القدامى أو التخلص منهم بعد تعرضهم لإكراهات مفتعلة من "المالكين" الجدد للضيعات.
احتجاج سابق موحد بين عدة نقابات بسيدي سليمان ضد ما شاب تفويت إحدى الضيعات من مشاكل
نموذج التفويتات المشبوهة
إنها ضيعة exportèse رقمها 292، المتواجدة بجماعة سوق الأحد الشبانات الواد، بإقليم سيدي قاسم، (شرق سيدي سليمان بحوالي 18 كيلومترا) كانت تابعة ل"كوماكري" سابقا، فوتت سنة 1992، وأصبحت تسمى "ضيعة النماء"، مساحتها 337 هكتار، تسلمها "المالكون الجدد" وبها 64 هكتار مغروسة بأشجار الليمون، و5619 شجرة زيتون، و3940 شجرة سيبري، كان بها بشكل دائم 36 عاملا، وتشغل بشكل مؤقت في جني الليمون أو الأشغال المتعلقة بالشمندر (نبات سكري)ما بين 120 و 130 عاملا وعاملة..
لا يهم من فوتت له هذه الضيعة رغم توفرنا على الأسماء، الذي يهم هو الحالة التي لها أشباه في عدة أماكن..
أول ما تفتقت عليه "عبقرية" المالكين الجدد، هو عملية ماكرة قصد التخفيف من سومة الكراء وذلك بالتواطؤ طبعا مع من هم على علاقة بالموضوع، ففي الموسوم الفلاحي 1993- 1994 أزال "الملاكون" الأشجار، حتى يقولون إنهم تسلموها عارية وجرداء، وبيعت الأخشاب لأصحاب الأفرنة والحمامات، منها واحد بسيدي سليمان راكم كميات هائلة منها بجانب حمامه بحي شعبي، ولم يكتف"الملاكون" بذلك، بل أزالوا سواقي الماء المتكونة من الإسمنت والحديد وادخلوها إلى الاصطبلات ليضعوا بها الأعلاف للمواشي، وليقولوا كذلك إن الضيعة بدون تجهيزات، وبالتالي سيتكلفون بالتجهيز ولكن على حساب سومة الكراء كذلك.
ثم جاء الدور على العمال، وهم غالبا أول من يؤدون "الثمن" باهظا، لأن "الملاكين الجدد" يريدون العمال المؤقتين الذين يعطونهم أجورا زهيدة، ولا يمنحونهم بقية الحقوق من ضمان اجتماعي وتقاعد.. في ظل عجز أي سلطة معنية من أجل الإنصاف والدفاع عن المؤقتين، وإلزام كل صاحب ضيعة بتشغيل عدد من العمال الرسميين وبشكل دائم، علما أن في ذلك فائدة للضيعة عندما يكون هناك استقرار للشغل واستمرار نفس العمال المؤهلين.
فيما يخص الضيعة المعنية، بقي الآن من العمال خمسة فقط من أصل36 من كانوا قبل 1992، منهم نسبة قليلة حصلت على تقاعدها وأربعة توفوا، والباقي تعرض للطرد على مراحل لأتفه الأسباب، وقد ذكر أحد العمال أن "مالكا" للضيعة سأله عن الأجر الذي يتسلمه فقال له رقما، وحينها رد عليه "المالك" بأن هذا الأجر يمكنه من جلب أربعة عمال دفعة واحدة عوضه هو، مرة طرد أعضاء المكتب النقابي بكاملهم عقابا لهم على "جسارتهم" وممارسة حقهم في التنظيم النقابي، لهؤلاء العمال أقدمية في الشغل بالضيعة تصل إلى 17 سنة لدى بعضهم، وقد اكتشفوا أن صاحب الضيعة لا يؤدي أي درهم لصندوق التقاعد والضمان الاجتماعي، وكما العادة سلكوا مختلف المساطر التي تمكنهم من حقوقهم، مفتش الشغل يضع التقارير، وذكر عمال أن أحد المفتشين سابقا كان منصفا، لكن صلاحية مفتش الشغل تنتهي عند وضع التقارير، وقال عمال من نفس الضيعة إن المحاكم لم تنصفهم، ولجؤوا كذلك إلى عامل إقليم سيدي قاسم، وهذا الأخير في سنوات سابقة نظم لقاء ثلاثيا في مكتبه حضره ممثلو العمال والمشغل، لكن أثناء التفاوض قام المشغل وغادر المكان وأغلق خلفه الباب!
لم يبق أمام العمال سوى الاحتجاج بالطرق التي أصبحت معروفة في المغرب، وهكذا دخلوا في اعتصامات في سنة 2000، وفي 2003، وفي 2005، لكن بدون نتيجة، وفي 7 مارس 2011 دخلوا جماعة في اعتصام جديد أمام مقر إدارة "الأملاك المخزنية" بالرباط، يحتجون نهارا، ويعودون ليلا إلى مقر نقابة "الاتحاد المغربي للشغل"، وقد طال احتجاجهم دون فائدة، ما جعلهم يغيرون المكان، وينتقلون إلى مدخل وزارة المالية بالرباط، مما دفع مسؤولا بها لاستقبالهم وإجراء عدة جلسات حوار معهم بحضور مسؤولين آخرين، وينتظر العمال الآن إنصافهم من طرف الحكومة، بعدما تركهم المشغل عرضة للضياع… هم يطالبون بتأدية أجورهم، والعودة إلى العمل، وضمان حقوق الضمان الاجتماعي والتغطية الصحية.
وفي رده عن تساؤلات حول نفس الموضوع بالبرلمان يوم الأربعاء 4 ماي قال وزير الفلاحة والصيد البحري عزيز أخنوش إن تقييم مدى نجاح عملية الشطر الأول من تفويتات الضيعات للخواص، بينت أن هناك 85% من المستفيدين التزموا بالاستثمار الذي وعدوا به، و12%عرفت مشاريعهم تعثرات، بينما 3% لم ينجزوا شيء يذكر.. لكن يرى البعض أن هذه الإحصائيات مشكوك في مصداقيتها، لأنها تنجز من طرف أجهزة إدارية غير فعالة.. ولم يضف الوزير المذكور شيء عن الشطر الثاني، بينما الشطر الثالث مازال معلقا إلى تاريخ لاحق، ويبدو أن مطالب "حركة 20 فبراير" دفعت السلطات المعنية إلى هذا الـتأجيل، مادام هناك من يعتبر هذه "التفويتات" مظهرا من مظاهر الفساد.
أما مصير الضيعة التي أوردناها كنموذج فقد ذكر أحد العاملين السابقين بها أنها مهملة ويكري "مالكوها الجدد" أجزاء منها لخواص آخرين قصد استغلالها كل سنة في مزروعات فصلية..
إنه نموذج من عشرات النماذج التي تبين درجة الفساد والعبث وسوء التسيير.
دخل عمال إحدى الضيعات في اعتصام.. بعض هؤلاء العمال تسلم "حسابه" فيما بعد وغادر بصفة نهائية