يبدو
للوهلة الأولى بأن ليست هناك علاقة بين الفلسفة والمسرح، ما دام أن لكل منهما
مرجعيته وأدواته وأسلوبه وأهدافه. فإذا كانت أم العلوم تعتمد على النظر العقلي وتتخذ
التحليل المنطقي أسلوبا لها وتناقش قضايا الفكر والإنسان الكبرى وتروم المعرفة
والكشف عن الحقيقة؛ فإن أب الفنون يقوم على المخيلة والخيال ويسترشد بالحدس
ويستثمر البعد النفسي والانفعالي في الإنسان وينهل من الأحاسيس والمشاعر الدفينة
فينا ويستلهم اللاشعور والذاكرة والأحلام والهواجس والأوهام، ويروم المتعة الفنية
والجمالية الخالصة؛ فإن هذا التمايز البين لا يلغي التقاطع بينهما. ولإبراز هذا
التلاقح والتمازج بين مجالين متبايين في المنطلق والأسلوب والهدف، سأركز على
نموذجين من الفلسفة والفن الفرنسيين وهما جون بول سارتر وألبير كامو:
تعتبر مسرحية "الذباب" لسارتر تحويرا
لأسطورة يونانية قديمة وهي أسطورة أوريست وأخته إلكترا. وفي مسرحية سارتر، يرجع
أورست الى أرجوس برفقة قريبه ليجد المدينة، التي كان أبوه ملكا عليها من قبل، قد
أصيبت بالذباب وأن الناس غارقون فيها في الذنوب. ويحاول كل من مربيه وأحد الغرباء
(وهو الإله جوبيتر متنكرا) إبعاد أورست عن المدينة. لكن هذا الأخير يصمم على
البقاء فيها وأن يفعل شيئا من أجل مدينته. والفوضى التي تعاني منها المدينة هي
نتيجة جريمة ارتكبت في حق الملك السابق أجاممنون والد أورست وإلكترا. فقد قتل
أجيستوس اجاممنون وتزوج زوجته كليتمسترا أم أورست وإلكترا. وتحاول هذه الأخيرة
إخبار الشعب بأن دينهم زائف وأن الآلهة لا ترغب في إسعادهم، وقد حلمت دائما أنه
سيأتي اليوم الذي سيعود فيه أخوها أورست للانتقام لمقتل والده أجاممنون. وفي
النهاية وبعد صراع مرير ضد أجيستوس وجوبيتر الإله، يقتل الملك أجيستوس أولا ثم
يقتل أمه. والمسرحية تعالج أهم القضايا التي شغلت الفكر السارتري وهي مسالة
الحرية. فالإنسان حر بطبيعته وفي إمكانه فعل المستحيل إذا أراد ذلك. فأورست يؤكد
ذاته ويحقق وجوده من خلال تحديه للكون الذي تحكمه الآلهة. فهو يتحمل مسؤولية ما
فعل ولا يحس بالذنب. وفي أحد مشاهد المسرحية يلجأ جوبيتر إلى براعته وقدرته على
الإقناع، فيذكر أورست بأن الكون كله يتحرك وفق قانون الآلهة. فيرد عليه أورست:
"أنت رب الأرباب يا جوبيتر، إنك رب الكواكب والنجوم والبحار، لكنك لست رب
الإنسان." فيتساءل جوبيتر: "ألم أخلقك؟" يوافق أورست لكنه يضيف:
" لقد خلقتني إنسانا حرا يا جوبيتر. وحالما خلق الإنسان ككائن حر، فهو لم يعد
يمت للآلهة بصلة. إنني حريتي." فجون بول سارتر كفيلسوف يعتبر بأن خاصية
الإنسان الأساسية هي محاولته الدائبة لتحقيق إمكانياته وتجاوز حالته الحاضرة.
فالإنسان ليس شيئا آخر غير ما هو صانع بنفسه. إنه يريد أن يغير العالم ويغير من
ذاته وذلك من خلال ما طبع عليه من حرية وقدرة على الفعل والاختيار.
وفد صاغ سارتر آراءه
الفلسفية المعروضة ف "الوجود والعدم." وخاصة إشكالية العلاقة بين الأنا
والآخر، بصيغة فنية بديعة في مسرحيته الثانية "جلسة مغلقة" سنة 1944.
تدور أحداث المسرحية في الجحيم ولكنه جحيم غير متوقع، فهو على شكل حجرة مؤثثة على
طراز الإمبراطورية الثانية، وإن كان الأثاث بسيطا وليس في الحجرة نوافذ أو مرايا،
وكل ما هنالك ثلاث أرائك، أريكة لكل شخصية من شخصيات المسرحية وهي: جارسان، أنيز
وإستيل.
إن كلا من جارسان
وإستيل جبان ومخادع وأنيز هي الشخص الذي يرغمهما على الاعتراف بهذا. لقد كان
جارسان أول الواصلين وعندما تظهر أنيز في الحجرة تسأله بوقاحة، لماذا يبدو مذعورا.
فيقول لها ببرود إنه ليس خائفا. ويذكرها بأنه إذا كانا مضطرين للتعايش فيجب أن
يكونا مؤدبين. فتؤكد له أنيز وهي امرأة سحاقية، أنها غير مؤدبة. ويتبادل جارسان
وإستيل الأكاذيب عن الظروف التي أوجدتهما في الجحيم،. فيدعي جارسان أنه من دعاة
السلام، وأطلقت عليه النار بسبب آراءه. أما إستيل فقد تزوجت - حسب قولها- رجلا
عجوزا ثريا طمعا في ثروته لتعيل أسرتها ثم خانته مع رجل عشقته. وتضحك أنيز من
حكايتهما ، وتتساءل كيف حكم عليهما بجهنم، إذا كان الأول بطلا والثانية قديسة؟
فلماذا لا يقولان الحقيقة؟ يقاوم جارسان لحظة ثم يوافق على الاعتراف. لقد كان
قاسيا في معاملته لزوجته طوال خمس سنوات. فكان يأخذ عشيقته إلى منزله ، وهي امرأة
زنجية، ويجبر زوجته على حمل الطعام لهما إلى السرير. تقول أنيز: سافل. فيسألها
جارسان: وأنت؟ فتعترف بأنها أغرت امرأة بهجر زوجها لتعيش معها ثم جعلت المرأة تشعر
بذنبها حتى أنها استعملت الغاز في قتل أنيز ونفسها. فتحكي إستيل روايتها: لقد دفعت
عشيقها إلى الانتحار وذلك بالقضاء على طفلها منه.
ويتطور الحوار
بين الشخوص الثلاثة إلى أن يعترف جارسان بأنه أدين بسبب جبنه وليس لقسوته على
زوجته. لقد حاول الفرار من الحرب ثم ألقي عليه القبض ومات ميتة الجبان وهذا ما
يقلقه. فتقول أنيز:"إن الأفعال وحدها هي التي تكشف عما يريده الإنسان وأن
شخصية الفرد إنما تتحدد بأفعاله واختياراته." ولا يستطيع جارسان الهروب من
نظرات أنيز المليئة بالاحتقار وصوتها وهو يردد : جبان، جبان. وبذلك تكون المسرحية
قد كشفت عن الرسالة الوجودية والتي تتلخص في فكرتين وهما: "الجحيم هو
الآخرين" ، و"الإنسان يكون ما يفعل."
وفي مسرحية
"الأيادي القذرة" ومن خلال الشخصيتن المركزيتين هوجو وهودرر يخبرنا
سارتر بأن الإنسان لا يستطيع أن يتأكد إطلاقا مما هو حق، وعليه أن يتحمل مسؤوليته
وأن يكون فاعلا في سيرورة مجتمعه. فهذا هودرر يقول لهوجو، إن الإنسان الذي لا يريد
أن يخاطر بكونه مخطئا يجب أن لا يشتغل بالسياسة. وعندما يعبر هوجو عن مثاليته
وصفاء فكره وشيوعيته الخالصة ويده النقية، يرد عليه هودرر:"كم أنت خائف من
تلويث يديك. حسنا فلتبق نقيا. النقاء هو مثال للزاهد الناسك. وأنتم أيها المثقفون
ترون في هذا ذريعة لعدم القيام بأي شيء. لا تفعل شيئا ولتبق يداك نظيفتين. أما يداي
فهما قذرتان. هل تستطيع أن تحكم وتظل روحك بيضاء؟".
وبنفس الحماسة والمقدرة
الفنية الإبداعية يعبر ألبير كامو عن فلسفته ونظرته للإنسان والعالم من خلال بعض
النصوص المسرحية، وأهمها مسرحية "كاليغولا" فهو يوظف، في هذه المسرحية،
الشخصية التاريخية والإمبراطور الروماني المتسلط والمجنون (37- 41 م.) للإفصاح عن
آرائه الخاصة. يختفي كاليغولا بعد وفاة أخته ومحبوبته دروسيلا. الجميع يبحث عن
الإمبراطور. وعندما يعود هذا الأخير يشرح لأحد مستشاريه - هيليكون- وللمقربين منه
بأنه منشغل وحزين، ليس لموت أخته ولكن يحمل في صدره رغبة جامحة في بلوغ المستحيل.
والعالم بالشكل الذي هو عليه لا يبدو له محتملا، لهذا فهو يسعى وراء امتلاك القمر
وبلوغ السعادة والظفر بالخلود والسرمدية أو أي شيء لا ينتمي لهذا العالم الوضيع
السخيف. ففي المسرحية نشاهد كيف أن الإنسان يحقق ذاته وكرامته ضدا على هذا العالم
الذي لا يمنح له أي أمل لبلوغ ما يريد. إن موت أخته وعشيقته تفتح عيني كاليغولا
على هذه الحقيقة: "الناس يموتون ولا يستطيعون أن يكونوا سعداء" وهكذا
يتحول الإمبراطور من شخص رقيق الإحساس إلى وحش شديد القسوة، بل ينصب نفسه إلها،
وبالتالي ليس هناك حدودا لممارسة حريته، وإنما يمارس حريته كاملة. غير أن هذه
الحرية تدخل في صراع وتعارض مع حياته ومع العالم، ورغم أنه لن يستطيع بلوغ هدفه.
وهذا هو التصور المركزي في فلسفة ألبير كامو والفكرة المحورية التي يحاول إبرازها
من خلال مختلف كتاباته. يقول كامو:" إن العبث ينتج عن هذه المواجهة بين
الإنسان والعالم، بين هذا النداء الإنساني وهذا الصمت اللامعقول للعالم.".
فهناك قوتان متعارضتان، نداء الإنسان ومسعاه الحثيث والدؤوب لمعرفة معنى وجوده،
وغياب الجواب أو الصمت الذي يلتزم به الوسط الذي ينتمي إليه. فالإنسان يعيش في
عالم لا يفهم وجهته ومعناه ولا يعرف شيئا عن وجوده هو ولا المعنى من حياته. ويمكن
للإنسان أمام هذا الوضع/العبث
أن يعمل وأن يحدد أهدافه ويخلق مشاريعه. لهذا وجب أن نحيا العبث من خلال التمرد
وبالتمرد. والتمرد يعني إدراك قدرنا المحتوم ومواجهته، ويدل أيضا على ذكاء الإنسان
وهو بين مخالب صمت العالم الرهيب. والتمرد يعني أيضا تمكين الإنسان من توسيع دائرة
الحركة والفعل الإنسانيين وتحرره من إكراهات الواقع ومن المستقبل الغامض.
فهذا
الإنسان/العبث يتمتع بحرية عميقة. إنه يسكن في عالم يحتم عليه أن يقبل ب " أن
الكائن البشري يشتغل ويعمل دون أن يقدر على بلوغ هدفه." ولكنه عالم يسود فيه
بل يمتلكه وتلك هي المفارقة الكبرى.
--------------------
(*) الأستاذ عباس جدة مدرس الفلسفة كاتب مسرحي ومخرج.. وقد خص
المدونة بموضوعه..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق