الأحد، 5 يناير 2014

تاريخ المسرح /العباس جدة

تاريخ المسرح
العباس جدة(*)

          يعتبر الفن المسرحي من بين الفنون الأكثر ارتباطا بحياتنا اليومية إلى الحد الذي لا يمكن معه إن نتصور الوجود البشري بدون المسرح. فكما أن الإنسان كائن مفكر وعاقل فهو أيضا عاشق مبدع ومحب للجمال. وما علينا سوى النظر من حولنا لنلاحظ بأن فعل المحاكاة وحب التمثيل والتشخيص واللعب والرغبة في تقليد بعض الأشخاص أو الحيوانات رغبة كامنة ومتأصلة في الإنسان. إن حب المحاكاة واللعب المسرحي فعل طبيعي غريزي فينا، كالغناء والرقص والتفكير.
          وقد شكلت الأفعال السحرية والطقوس الدينية والاحتفالات التنكرية والحفلات والرقصات والأناشيد والغناء والرسم على الجدران والنقش على الصخور وتقديم القرابين للآلهة، البدايات الأولى للفن المسرحي. لقد كانت هذه الشعائر الدينية والرسومات والنقوش والأفعال السحرية لدى الإنسان البدائي، تلعب وظيفة مزدوجة: وظيفة فكرية معرفية ووظيفة فنية جمالية. أما الوظيفة المعرفية فتتمثل في فهم وإدراك العالم والإنسان من خلال إخضاع الطبيعة والتحكم في الأشياء. فإذا ما نقش البدائي على الصخور لوجوه حيوانات فرغبة منه  في التحكم فيها وإخضاعها لإرادته؛ وإذا ما رسم حادثة القنص، فهو يريد لها أن تحدث بل يرغمها على الحدوث. وكانت ترافق هذه الوظيفة المعرفية ومحاولة فهم العالم وظيفة فنية جمالية يمكن تلمسها من خلال ما كان يشعر به ذاك الإنسان من متعة ولذة وهو يمارس هذه الطقوس وهذه الأفعال، نشوة الانتصار على الطبيعة أو الحلم بالانتصار عليها.
           ولما كانت المحاكاة غريزية فينا، فإن هذا الفعل العفوي سيتحول إلى ما سيعرف عند اليونانيين ب" الفن المسرحي" والذي نميز فيه بين التراجيديا والملهاة. وتعتبر الشعائر الدينية وطقوس العربدة والسكر التي كان يقيمها اليوناني القديم، بمناسبة خصوبة الأرض وعطائها، الإرهاصات الأولى لفن المسرح؛ هذه الرقصات والاحتفالات ستتحول إلى اللعب المسرحي بعد أن تم إفراغها من شحنتها الدينية الغيبية لتتخذ بعدا إنسانيا دنيويا. لكن ما كان لهذه الغريزة الفنية الإيقاعية الفوضوية، أن تتبلور إلى إبداع مسرحي، إلا بعد تنظيم وعقلنة هذه الفوضى الغريزية والرقي بها إلى مستوى النظرة المتماسكة والمتكاملة للكون وللإنسان؛ وبعد أن أصبح فعل المحاكاة يتخذ موضوعا له الوضع البشري المعقد بأبعاده الانفعالية والأخلاقية والفكرية والوجودية.
             إن الانتقال من الميثولوجيا إلى الفن المسرحي المتميز تحقق بفضل العبقرية اليونانية. وقد ساعدت ملحمة الإلياذة والأوديسة ( أنشودة الحرب وأنشودة البحر) على ظهور المسرح في اليونان لما تتضمنه هذه الملحمة من شخصيات بطولية ومن صراعات وحروب وتوترات في العلاقات. لكن لا ينبغي أن يفهم من هذا، أن المسرحية  بالمفهوم الدقيق للكلمة، تأسست وأخذت ملامحها النهائية، فقط من خلال سرد وقائع وأحداث وشخصيات ملحمية. ويرتبط ظهور المسرح في القرن السادس قبل الميلاد بعبادة ديونيزوس Dionysos وإقامة الشعائر الدينية احتفاء به. تقول الميثولوجيا الإغريقية، إن ديونيزوس ابن تزوس، قتل بشكل وحشي من طرف أعداءه Les Titans لكن أباه تزوس Zeus  يعيد إحياءه وعندما ينبعث ديونيزوس من جديد يتحول حبه للحياة إلى نوع من الجنون والهيجان، هذا الهيجان لا يمكن أن يهدأ إلا بالانخراط الكوني في الإيقاع والموسيقى والرقص الصاخب ونشوة الخمر. وهكذا يصبح ديونيزوس عند اليونانيين القدماء إله الخصب والعنب والخمرة والفرح والفن والجمال. وبالتالي تكون تقليد سنوي في المدينة اليونانية، يقوم على تقديم الهدايا والقرابين إلى ديونيزوس إله الفن والجمال. وكانت هذه الطقوس والاحتفالات الديونيزوسية تقام مرتين في السنة في شهر مارس وفي شهر دجنبر. وتتألف الاحتفالات من أضحيات وهدايا ومواكب روحانية صوفية. وتقدم القرابين في ساحة يتوسطها مذبح تتجمع حوله جوقة تنشد أغاني دينية ويحمل أفراد الجوقة أقنعة على وجوههم ويترأس الاحتفالات كاهن يجلس على كرسي وثير في مكان مرتفع. وتقدم خلال الحفلين السنويين ولمدة ثلاثة أيام عروض مسرحية. وكان كتاب التراجيديا يدخلون في صراع ومنافسة لنيل الجائزة الأولى للمهرجان. والمسرحي الفائز ينال جوائز وتقدير الجمهور. وكانت الدولة الأثينية هي التي تتولى تنظيم هذه الاحتفالات المسرحية وذلك بتكليف أحد الموظفين السامين باختيار التراجيديين المتنافسين واختيار المواطنين الذين سيتولون الإنفاق على العروض وأصحابها. وهكذا فإن هذه الاحتفالات الديونيزوسية العفوية ما كان لها أن تتطور إلى عروض مسرحية منظمة إلا بتدخل سلطة سياسية مركزية تستند إلى الشعب. والغريب في الأمر أن المسرحية ظهرت وازدهرت في مرحلة ارتبطت بنظام سياسي مستبد وبسلطة سياسية قوية، هذه السلطة التي كان يجسدها الحاكم المستبد بيزيترات .Pisitrate

         ولفظ "تراجيديا" مشتق من كلمتين يونانيتين Tragos وتعني تيس وOdé وتعني أنشودة أو أغنية. أما المعنى الاشتقاقي فقد اختلف حوله: فهناك من يقول بأن اللفظ يدل على جلد التيس الذي كان أفراد الجوقة في التراجيديا البدائية، يرتدونه. وهناك من يرى بأن لفظ "تراجيدوس"Tragedos  يدل على الشاعر الذي ينال جائزة أحسن مؤلف مسرحي، والجائزة هي عبارة عن تيس والذي كان الشاعر يقدمه كقرابين لديونيزوس ثناءا وشكرا له على الفوز. هذا مع العلم على أن التيس كان الذبيحة المفضلة لدى الإله. فمأسسة وتنظيم المسرحية كجنس أدبي جديد ظهر بفعل عاملين: عامل أدبي وهو اكتشاف الشاعر والممثل تيسبيسThespis لإمكانيات جديدة لهذا النوع من العروض والمتمثل أساسا في ظهور ممثل إلى جانب الجوقة وحوارات بينهما ونص أدبي مكتوب؛ وعامل سياسي يتجلى في رغبة وإرادة الحكام تقديم حفلات ومهرجانات للشعب لكسب ثقته وإحداث وحدة وطنية. وهكذا ينال الشاعر والممثل تيسبيس أول جائزة مسرحية سنة 534 ق- م، لكونه ألف نصا شعريا، يقوم على حوار بين ممثل وجوقة (ممثلHypocrites : الذي يجيب) ويضعون أقنعة على وجوههم. ويفسر القناع  برغبة الممثل في إخفاء وجهه والانصهار كلية في الدور الذي يجسده. ويأتي أسخيلوس Eschyle  ليطور العرض المسرحي بإضافة ممثل ثان، فأصبح الحوار يجري ليس بين الممثل والجوقة ولكن أيضا بين الممثلين. وابتداء من 449 ق- م ازداد عدد الممثلين إلى ثلاثة. وهذا لا يعني أن العرض المسرحي يقتصر على ثلاثة أدوار أو شخوص مسرحية، ولكن كانت هناك أدوار عديدة يؤديها الممثلون الثلاثة ما دامت الأقنعة كانت توضع على وجوه الممثلين.
         وقد عمرت  التراجيديا اليونانية ثمانين سنة وتطابق هذه المدة نمو وازدهار أثينا سياسيا وفكريا. وإذا كان أول عرض مسرحي لتسبيس سنة 537 ق- م، فان أول نص تراجيدي جدير بالاهتمام والدراسة هو "الفرس" لأسخيلوس. ويمكن التمييز بين ثلاثة شعراء تراجيديين وهم أسخيلوس525 / 456 ق- م وسوفوكليس Sophocle 496/406 ق- م ويوربيدس Euripide 484 / 406 ق- م الذين حظوا بأهمية خاصة ونالوا جوائز عديدة في المهرجانات المسرحية الديونيزوسية، كمسرحية "أوديب" و"أنتيغون" لسوفوكليس ومسرحية "أندروماك" و"أورست" و"اليكترا" ليوربيدس. وبانهزام أثينا أمام أسبارته سنة 404 أو ما يعرف بحرب بيلوبونيز Péloponnèse  وفقدان أثينا لبريقها وإشعاعها السياسي والثقافي ابتداء من سنة 386 ق- م فقدت التراجيديا اليونانية بريقها وأهميتها.
       وقد ارتبطت الملهاة "الكوميديا" بشكل مباشر بالطقوس الدينية الديونيزوسية .ولفظ كوميديا  مشتق من cômos وôdé   وتعني أنشودة الموكب الهازل أو الساخر والذي كان بمثابة جني للعنب، ينتقل عبر القرى ينشد ويسخر من أولئك الذين يعرفهم. فإذا كانت التراجيديا نوع جدي من العروض المسرحية وتطرح فيها النهاية المأساوية للشخصيات البطلة، فإن الكوميديا نوع ضاحك وساخر من العروض وتتناول وضعية ومصير الأفراد العاديين والحياة العامة كالحب والزواج. ولم تدخل الكوميديا في الاحتفالات الأثينية الرسمية بالقياس إلى التراجيديا إلا في مرحلة متأخرة أي في سنة 486 ق- م على يد الشاعر الكوميدي الساخرChinodès.  ومن أبرز الشعراء الكوميديين أريسطوفانAristophane الذي نجده يسخر من سقراط في مسرحية "السحب" أو من الإله ديونيزوس في "السلاحف".
------------------

العباس جدة: أستاذ الفلسفة ومسرحي، وقد خص "مدونة سيدي سليمان" بهذا الموضوع القيم. 

ليست هناك تعليقات: