قصة قصيرة : الشباك الآلي
مصطفى لمودن
يقصد صديقي الموظف في آخر كل شهر ميلادي المؤسسة البنكية لاستلام راتبه، والذي تواظب الحكومة على إرساله له، مقابل الخدمات التي يسديها للمواطنين
صديقي الموظف محظوظ جدا، كان يلج باستمرار المؤسسة المالية، يتملى بالطلعةالبهية للمستخدمين، وهم يرفلون في أناقتهم وبدلاتهم الراقية. ينال نصيبه من توزيع ابتسامات المجاملة! و يستطيع رؤية الرزم المالية مصطفة بعناية، المترفون يودعون رزما أخرى… والآن، فقد أتاحت له الطفرة التكنولوجية فرصة إجراء معاملته المالية الشهرية في الهواء الطلق، سواء أكان المطر يهطل أو الحرارة تلهب… المهم أنه يحس بأمان أكثر بعيدا عن مكيفات الهواء، فقد سمع أنها تسبب تقرح اللوزتين ومضار أخرى…أصبح يساهم كأي مواطن صالح ومتحضر في تكوين صف طويل بالشارع العمومي، في نظاموهدوء، طواعية وبلا رادع، دون تدافع كما يحدث كل صباح عند ركوبه الحافلة في نقطة الانطلاق المعتادة.
ينتظم المنتظرون في صف طويل، بعضهم يتكئ على الجدار، لا أحد يلمس زجاج الواجهة،الصمت يلف الجميع، تعلو محياهم حيرة غريبة تفصح عنها النظرات الزائغة وحركات الأطراف المتثاقلة، وتأفف من انتظار قد يطول… كل واحد لا يعرف بالضبط ما يخبئه له الصندوق العجيب، هل لفح أجرته لهيب اقتطاع مفاجئ لهذا الشهر؟ أم أضيف لحصيلته مقدار مالي قد يخفف عنه جزءا من العجز المتراكم؟
اقترب مارٌّ مسن من الصف وهو يجرجر بلغته المهترئة، تساءل عن سبب هذا "التجمهر"، لم يجبه أحد، تقدم إلى الأمام، راقب كيفية إجراء السحب، أدخل رأسه ليرى إن كان يجلس في الجهة الأخرى من يدفع النقود من كوة، كما يتعامل الحانوتي مع زبنائه في القرية، تراجع قليلا، تكلم بصوت مسموع كأنه يخاطب الجميع: "نحن عندما كنا نعمل مع أحدهم في حقل من الحقول، نلتقي بالمخلص في السوقالأسبوعي، نلتف حوله وهو يخرج النقود من شكارته وينادي على كل واحد باسمه ويمنحنا أجرتنا…".
ثم غادر وهو يتمتم بعبارات التعجب.
قدمت فتاتان في مقتبل العمر، لهما قوام ممشوق، ملابسهما من آخر ما استجد في عالمالموضة، إحداهما لها شعر أشقر مسدول، هل هو مصبوغ أم أصيل؟…
قالت الشقراء لرفيقتها: "هل نأخذ الصف مع الرجال؟"، توقفت على الرصيف سيارة فاخرة، تحمل لوحتها سلسلة أرقام جديدة، يتوسطها حرف عربي، أشار أحد راكبيها إلى الفتاتين، لوح لهما من وراء الزجاج بورقة مالية خضراء، لا تشبه ما يستخرج من الصندوق الآلي، دون أن يأبه للعيون الناظرة، يلح عليهما بشكل مستفز لتقتربا، ربما ليبين لصاحب السيارة حنكته فياستدراج الفتيات… تجاهلتا النداء، انضمتا إلى الصف، وانطلقت السيارة مسرعة.
أثار الصف الطويل انتباه متسول، قصد الواقفين، بدأ من الخلف يمد يده ويستعطفباحترافية ظاهرة، لم يعطه أحد شيئا، رد عليه شاب بأنه لم يتسلم بعد النقود، فطن المتسول للأمر، تحول مباشرة إلى الأمام ووقف ينتظر باسطا كفه، معولا على صدقة، لا أحد أعاره اهتماما، يرى الأوراق المالية تُلف أو تطوىلتوضع في جيب سترة أو سروال، أو تحشى في حاملة نقود، تأكد أن لا أحد يمنحه ورقة مالية كاملة، فغادر إلى وجهة أخرى.
أدخل صديقي الموظف بطاقته الممغنطة، سجل رقمه السري بلمسات سريعة من رؤوسأنامله على اللوحة المبسطة الخارجية للحاسوب، اطلع على رصيده الشهري وقدتجمدت أرقامه لسنوات، منذ أن تلقى التعويضات العائلية عن طفله الثالث، تلقف النقود من الفتحة المنفرجة، بعدما ترك مائة درهم، ما يسد به حاجيات شخصية طارئة في الثلث الأخير من الشهر… قد يستهلكه في مقابل جلساتالمقهى، وجريدة أسبوعية، وبضعة لفافات تبغية مقسطة…
اشترى كيلوين من التوت الأرضي، باعة الفواكه المتجولون بدورهم يصطفون بعرباتهماليدوية في الزقاق المجاور، لماذا التوت؟ أمه ليست لها أسنان، وابنه البكر يبتلع كل شيء رخوا، وزوجته تعشق اللون الأحمر، حسب ما أفصحت له مؤخرا، وقد أصابته من حينها دوخة، وهو يتساءل عن معزى اللون الأحمر لديها… ليس بمستطاعه ألآن اقتناء فستان لها أو حتى حذاء أحمر، أما هو فيكتفي بكأس شاي معاستلقاءة هادئة لمشاهدة القنوات الفضائية، والأطفال ينطون حوله… كل أفراد الأسرة يعرفون اليوم الذي يستخلص فيه أجرته، إذا لم يحمل معه التوت، قد يجلب الباكور أو البطيخ أو الخوخ أو البرتقال أو… حسب الفصول.
يتحسس النقود ، يستعد لإنجاز جولته الشهرية، من دكان الحي إلى مالك البيت الذيانتقل للسكن في حي الفيلات، مرورا ببائع الدجاج الرومي ووكالة الكهرباء و…
صديقي يحب المعقول ويؤتي الحقوق لأصحابها، يتخيل صف الدائنين على باب مسكنه، وهو يخرج يده من فتحة صندوق الرسائل، يمد لكل واحدمنهم ماله، تماما كصندوق البنك، بفارق بسيط وهو أن صندوقه المنزلي هذا "يدوي"، ذلك سيعفيه من الجولة الشهرية المعتادة والتحية والتوديع، وكل الجمل السخيفة التي يتم تبادلها بدون معنى، تمنى لو كان بباب مسكنه شباك آلي حقيقي فعلا، ليتسلم كل ماله، رغم ما قد يكلفه ذلك من حرج لزوجته مع جارتها، ستنعت حينها بزوجة المستدين…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بأسبوعية " اليسار الموحد" عدد 45، بتاريخ 23 أبريل 2004
في كل شهر سأحاول إدراج قصة مما تراكم لدي، أغلبه نشر بصحف وطنية، ونظرا لصعوبة النشر ضمن "مجموعة قصصية" نكتفي الآن بالواجهة الفضية، عبر الشبكة…كما أننا ننتظر مساهمة القراء للنشر…