السبت، 2 فبراير 2008

مدن صغيرة ومتوسطة أشبه بقرى كبيرة


  مدن صغيرة ومتوسطة أشبه بقرى كبيرة
 إن من يعيش في مدن متوسطة وصغيرة يشعر فعلا أنه يقطن قرى كبيرة، وهي قد توسعت فجأة بفعل الهجرة من البادية، واتساع العمران سواء بمساهمة الجالية المغربية العاملة بالخارج، والتي ارتأى أغلبها منذ سبعينيات القرن الماضي توفير مسكن بأرض الوطن، وفي السنوات الأخيرة توسع العمران كذلك بسبب " طفرة" عائدات المخدرات على البعض، سواء التي تباع في المغرب أو التي تصدر إلى الخارج، ولا ننسى كذلك السعي الحثيث لأغلب المغاربة لامتلاك "سكن" في المدينة، وهذا ما فعله عدد من الفلاحين خاصة الذين تتوفر لهم مداخيل في السنوات المطيرة، أو الذين يمارسون الفلاحة في منطقة سقوية… وساهم كذلك تراكم الأموال في البنوك خلال السنوات الأخيرة وركود عدد من القطاعات الاقتصادية في إيجاد وسيلة لتصريف وتحريك تلك الأموال المودعة من قبل أصحابها من أجل الربح، وذلك عبر تشجيع الدولة لتملك سكن بواسطة قروض بفوائد بنكية أقل( تصل أحيانا إلى ما يقل عن 3% مع توفير الدعم الباقي أي ما يقل عادة عن 6% في الوقت الراهن بالنسبة للسكن الاقتصادي)، خاصة بعد تدخل بعض جمعيات الخدمات الاجتماعية التي تسهر على ذلك لفائدة موظفين ومستخدمين، كما هو عليه الحال بالنسبة لمؤسسة محمد السادس لأعمال الاجتماعية الخاصة موظفي التربية الوطنية والتكوين المهني، حيث فاق عدد المستفيدين 30 ألف منذ انطلاق العملية سنة 2001 (بداية عمل المؤسسة)،  وكذلك تشجيع السكن الاقتصادي لعدد من الفئات الاجتماعية، حتى التي ليس لديها دخل قار، رغم أن هذه العملية مازالت تعرف تعثرا.

       كل ذلك لم يأت صدفة أو بمثابة منحة كما قد يتبادر إلى الدهن، فقد اعتبر مرارا أن السكن غير اللائق، سواء من خلال البناء العشوائي في ضواحي المدن، أو من خلال مدن الصفيح التي ماتزال موجودة، كل ذلك اعتبر مرتعا لعدد من الظواهر المخلة بالاستقرار الاجتماعي والسياسي… وتعبيرا صارخا على سوء توزيع الثروة الوطنية، ودليلا على الفوضى الإدارية، وضعف الرؤية لدى المسؤولين، حيث يدخل مستوى ونوع السكن في تقييم تقدم الشعوب. ولا يفوتنا أن نسجل العجز الحاصل باستمرار في الوحدات السكنية المطلوبة، مع الغلاء المستمر في الارتفاع بالنسبة لتكلفة البناء، ودخول مجال البناء لوبيات قوية أصبحت تتحكم في العقار، أمام مضاربات خطيرة، قد تهدد الاقتصاد برمته، أمام عجز السلطات الحكومية في التدخل.

     لكن السؤال المطروح هو كيف تتوسع المدن؟ وكيف تكبر أخرى وهي تتحول من قرى حقيقة، كانت باعتراف وزارة الداخلية مجرد جماعة قروية، لتتحول إلى " بلدية" كما هو عليه الحال بالنسبة لدار الكداري بإقليم سيدي قاسم… هل تتوفر هذه المدن على الشروط الضرورية حتى تدمج داخل مفهوم العالم الحضري؟ وكل الإحصائيات السكانية تؤكد الاستمرار في ارتفاع نسبة سكان المدن بمقابل سكان القرى، وهو الأمر الطبيعي والعادي. هل تتوفر هذه المدن على بنية الاستقبال الضرورية؟ وهل بها الحد الأدنى من شروط التمدن؟ 
 
مدينة جرف الملحة بإقليم سيدي قاسم عرفت توسعا ملحوظا، ولم يكن لها ذكر قبل عقود قليلة 
 
جرف الملحة تتحول بسرعة إلى تجمع للسكن

    إن المدينة الحقيقية هي التي تتوفر على رؤية واضحة، وعلى كل الخطط التي تراعي متطلبات الساكنة لتعيش فعلا في فضاء اسمه المدينة، من ذلك توفير البنية التحتية الأساسية، من شوارع واسعة وصالحة للاستعمال، قنوات التصريف الصحي، المرافق العمومية، من إدارات ومستشفيات ومدارس وأسواق مناسبة وحدائق وملاعب ومنشآت ثقافية وقاعات للتحاور والنقاش …على الأقل هذا هو الحد الأدنى. 
 
سيدي يحيى بإقليم القنيطرة تعيش توسعا عشوائيا على حساب الغابة، مدينة بدون مداخيل أو أفق حقيقي

   غالبا ما يتم إغفال شروط مساهمة المدينة في الإنتاج، سواء لتحسين مداخيلها أو إيجاد شغل لساكنتها، وهو ما يقتضي توفير الأرض المناسبة لذلك وكل شروط الاستثمار، من توفير الطرق للارتباط بالعالم الخارجي للمدينة (بقية المدن والمناطق، وكذلك الخارج)، وهو ما يدخل في مهام مختلف السلطات والجماعات المحلية، وكذلك شركاء آخرين من القطاع الخاص والمجتمع المدني.

     لكن بالنظر لواقع مدننا الصغيرة والمتوسطة نجد أنها استمرار وامتداد للعالم القروي، ليست سوى تجمعا للسكن، تنقصه عدد من الشروط حتى الضروري منها، كما أن البنية الذهنية لغالبية السكان مازالت لم تستوعب بعد معنى السكن في المدينة، جل هؤلاء السكان  حديثو عهد بالاستقرار في المدينة، وعدد من هذه "المدن" تعرف جيلين أو ثلاثة على أقصى تقدير من قاطنيها منذ نشأتها أو توسعها الملحوظ، إذ ما تزال ذهنية العالم القروي سارية المفعول، وهنا لا نعني بذلك المفهوم القدحي للكلمة، ولكن فقط عدم استيعاب شروط ومتطلبات التمدن، فيكتفي هؤلاء من المدينة، بتوفرهم على " نعمة" الماء والكهرباء بمنازلهم، والمدينة عند هؤلاء هي فقط مكان واسع به شوارع تجوبها السيارات، ولا حاجة لهم في توفير بقية المرافق، فهم يكتفون بالتسوق على طريقة سكان العالم القروي بالتوجه إلى سوق أسبوعي يقام في الهواء الطلق في غالبية المدن الصغيرة أو المتوسطة، يقيمون الأعراس في الشوارع بنصب خيمة تمنع المرور، بعض هؤلاء يحرصون على ما يذكرهم بالقرية عن طريق تملك ماشية أو دواب، يضعون لها زريبة بجانب منازلهم، أو في ركن من البيت، وهكذا لا يجد مثل هؤلاء غضاضة في رؤية مختلف أصناف الحيوانات تتمشى في الشارع، أو بجانب المنازل، تبحث عن غذائها في أسطل القمامة، أو تلتهم ما غرس من نباتات، كما يستعمل عدد من السكان في تنقلاتهم العربات التي تجرها الدواب، حتى في المدن الكبرى مثل القنيطرة والدار البيضاء ومراكش، رغم إضفاء طابع جمالي مقبول على بعضها، عندما تقتضي الضرورة السياحية ذلك. 
 
الخنيشات بإقليم سيدي قاسم قرية كبيرة بشارع وحيد هو الطريق الوطنية
 
حد كورت تعيش وحدتها وعزلتها بالهامش

     أما الجوانب الثقافية والترفيهية فآخر ما يفكر فيه، أو يُغيّب بالمطلق، حتى أن المجالس البلدية لا تنظر إلى ذلك، ولا تجعله ضمن مجال اهتماماتها، ما دام لا يدخل ضمن مطالب السكان الحيوية، إن كانت لهم مطالب أصلا، وكذلك للمكون الذاتي لهذه الجماعات المنتخبة حيث أنها لا تخرج عن الصفات المشتركة بين عموم الساكنة، وهم على أي لم ينزلوا من كوكب آخر، أو قذفت بهم إحدى الجامعات المختصة، بل ضمنهم كثير من الأميين وأشباه الأميين الذين لم يجلسوا يوما لمحاضرة أو اطلعوا على كتاب، أو يهمهم التفاعل مع قضايا إنسانية مختلفة، غالبا ما تجمعهم مصالح شخصية ورؤية ضيقة، وهذا ما يزيد في تأزيم وضعية عدد من المدن. 
 
وزان من المدن القديمة لكنها توسعت بشكل عشوائي، وتفتقر لأغلب المرافق الضرورية
  

   غالبا لا يستوعب عدد من السكان القاطنين بالمدن معنى العمل المدني، القائم على التطوع المنظم، من خلال جمعيات مسؤولة، تُعنى بقضايا الحي، كما هو عليه الحال بالنسبة للوداديات، أو تهتم بعدد من القضايا الثقافية والاجتماعية والرياضية والبيئية… نظرا لحداثة مثل هذه المستجدات على ذهنية القادمين من العالم القروي أو المتشبعين بتمظهراته، لكن عندما يتطلب الأمر نوعا من "التضامن" على شاكلة ما كان يقع في العالم القروي، حتى يتحمس الغالبية لذلك، بل يسعون له بتلقائية كالمساهمة في بعض الحفلات العائلية، وما تتطلبه الجنائز ودفن الموتى، وبناء دور العبادة، لكن غالبية هؤلاء لا يحركون ساكنا تجاه أمور أخرى كالاهتمام بالمرافق الجماعية الأخرى كالمدارس ودور الثقافة، أو التطوع في المجال البيئي، كالتشجير والمساهمة التطوعية في حملات التنظيف، قد يقول قائل إن ذلك يدخل في اختصاص السلطات سواء الإدارية أو المنتخبة، لكن كل عمل تطوعي لصالح الحي أو المدينة عموما يظل مفيدا ولو على المستوى البيداغوجي وإعطاء المثل للنشء ليتعود على تحمل المسؤولية والإحساس الجماعي بالصالح العام، وكل ما يدخل في الملكية المشتركة، سواء الواقعية كالفضاءات العامة أو الرمزية ذات البعد الثقافي والحضاري.  
 
مشرع بلقصيري من إقليم سيدي قاسم
   
بلقصيري كباقي مدن سهل الغرب تتوسع على حساب الحقول الخصبة، تعرف تحولا نحو المجهول في غياب أية سياسة تجمع ما بين الأنشطة الفلاحية، وما تتطلبه مدينة حديثة

  
القنيطرة عاصمة الجهة لم تسلم بدورها من مظاهر البدونة باسثثناء مخلفات العهد استعماري
 
طريق المهدية، تعرف القنيطرة توسعا بدون هوادة دون المرافق الضرورية، وهي نموذج عن تكديس السكان فقط.
 
أحد السكان بسيدي سليمان شديد الحرص على زريبته التي يربي فيها الغنم وسط حي حديث 
 وحين يتجمع عدد من السكان في رقعة أرضية من أجل السكن فقط  بمفهومه الضيق، وحين تقل أو تنعدم شروط التمدن الحقيقي، حيث تعيش الغالبية ضيقا بين الجدران والبنايات الإسمنتية، مما ينعكس سلبا على الوضع النفسي للأفراد، وتتوثر العلاقات الاجتماعية، وتتكاثر ظواهر شاذة كالإجرام، سواء لتصريف مختلف الضغوطات، أو البحث بطرق خطرة عن " مورد" مما يجعل الجميع يطالب بتوفير "الأمن" حسب المفهوم الضيق للكلمة، لحراسة وحماية الناس والممتلكات، ولفض النزاعات والتدخل للإغاثة في حالة الخطر، كما أن الحراسة الخاصة ومختلف تدابير الاحتياط سيتوسع اللجوء إليها، مع ما يتطلبه ذلك من كلفة باهضة، بينما الأمن الحقيقي، المرتبط بالآمان النفسي والاجتماعي والاقتصادي… هو الضروري لصد مختلف الآفات، لكن مثل هذه الأمور قليلا ما يتم الاعتناء بها.


 
الشاون من المدن الأنيقة القليلة في المغرب، بدروها تفتقر لعدد من المرافق الضرورية

     إن القفزة التي يعرفها المغرب على مستوى توسع العمران بالمدن، لا يواكبه بنفس الوثيرة توفير بقية الحاجيات الضرورية للسكان، كما أن غالبية هؤلاء لم يستطيعوا بعد الانتقال على المستوى المعرفي والذهني إلى المجتمع المديني، الذي تنظمه علائق جديدة، تعتمد الإحساس الجماعي بالانتماء لفضاء جديد اسمه المدينة، من ضمن ما يتطلبه ذلك تنوع مؤسسات المدينة في ارتباطها بالجماعة المحلية محور كل حركة وتخطيط وتنفيذ وتنشيط بالمدينة، لكن عدة عوامل سياسية وثقافية أساسا ما تزال تحد من ذلك، فإلى متى ستظل تكبر مدننا في عشوائية "مقننة"؟ هل سنترك ذلك للزمن لتحدث " القفزة النوعية" على مستوى الأذهان والتصورات؟ أم لابد من عامل متدخل لتسريع وتيرة الانتقال دون خسارات كبيرة؟ تكون من آلياته المدرسة والإعلام وتحرك المجتمع المدني ونظرة موضوعية ومسؤولة من قبل كل السلطات… متى ستتحمل كل جهة مسؤولياتها في ذلك؟   
           مصطفى لمودن   
          
    نشرت بموقع: الحوار المتمدن - العدد: 2181 - 2008 / 2 / 4 
نشرت كذلك بجريدة " المنبر الاشتراكي" عدد 104، بتاريخ 10 فبراير 2008،
وقد سبق لإدارة الجريدة أن أحاطتني علما بذلك كما سبق أن وضحت، من جانبي لا أرى مانعا، كما يسرني أن أقرأ عددا من مساهماتي في بعض المواقع، مادام الهدف هو إشاعة المعلومة بين الناس، لكن الجميع يتجنب الإشارة إلى المدونة