عابد الجابري الجبل الذي لن يهد
مصطفى لمودن
عزاؤنا واحد في وفاة المفكر والمناضل الدكتور محمد عابد الجابري يوم الاثنين 3 ماي 2010 بالدار البيضاء، وقد ازداد قبل 75 سنة بفكيك شرق المغرب، ورغم كل مظاهر الإقصاء التي كانت ضده، استطاع التعلم والدراسة، وقد احتضنته إحدى مدارس الحركة الوطنية في الدار البيضاء، ومنها اعتل جهازه الهضمي كما ذكر في أحد حواراته بسبب التغذية التي كانت تقدم للتلاميذ أمام ضيق ذات اليد، درس الفلسفة بجامعة محمد الخامس بالرباط، وناقش دكتوراه الدولة في فرسنا دارسا وشارحا تراث ابن خلدون، وقد عنونها ب" العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ العربي الإسلامي"، ساهم في وضع أسس تعريب العلوم الإنسانية بالمغرب منذ بداية الاستقلال، وأدمج كل نظريات الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع في المقررات الدراسية، بما فيها برامج الفلسفة في الثانوي، قبل أن يوقف ذلك في منتصف ثمانينيات القرن الماضي بقرار جائر وخارج منطق التاريخ، كان مناضلا في صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، (ثم التحاد الاشتراكي)، وقد استقال بعد ذلك احتجاجا على غياب الأخلاق ووضوح الرؤية في السياسة كما تواتر عن ذلك، ترك إرثا زاخرا من المؤلفات في مختلف المجالات المعرفية؛ كالتعليم "أضواء على مشكلة التعليم بالمغرب"، "من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية"والفلسفة "المنهاج التجريبي وتطور الفكر العلمي"، واللغة، والدين"الدين والدولة وتطبيق الشريعة"… وقد اشتهر بأطروحته الخالصة حول "نقد العقل العربي"، من قبل ظهور الدعوة وكيفية تشكل العقل العربي القائم على العصبية القبلية والغنيمة والعقيدة.. وكيف تشكل بذلك العقل السياسي ثم الأخلاقي، وقبل سنوات أصدر كتابين متميزين في دراسة القرآن، من ضمن ما فيهما العودة إلى أساب النزول وتحليل لغوي معمق.
قبل سنوات قرأت حوارا له مع مجلة "الكرمل" التي كان يشرف عليها الشاعر محمود درويش، ولم أنس قولة قوية له، ذكر فيها أنه من "راعي غنم"، قد أصبح في المكانة التي وصل إليها، وأضاف يومها أنه ربما قد يصبح وزيرا… (لا أعتقد أنه بعد ذلك بقيت له نفس الأمنية).
لا أعرف لماذا يذكرني دائما محمد عابد الجابري بأحمد الباهي، الصحفي المخضرم، والذي جاء به عبد الرحمان اليوسفي من باريس ليشرف على إعادة هيكلة إعلام الحزب، خاصة جريدة "الاتحاد الاشتراكي"عندما تولى حزب القوات الشعبية مسؤولية قيادة "حكومة التناوب" في 1998، ربما أن الباهي والجابري يتميزان بنفس قوة الشخصية والحنكة في الكتابة والصراحة التي تميز الصحراوي البدوي، وتجعله لا يأبه لرأي الآخرين فيه، مادام هو متيقن من صواب رأيه وحسن توجهه، لقد غضب الجابري ـ كما سمعناـ إثر وفاة الباهي الذي جاء من باريس ومعه أحلام بداية الستينيات، لكنه اصطدم بكتل من المصالح لا يمكن زحزحتها، فتوفي كمدا متحسرا على أوضاع انقلبت رأسا على عقب.
الجابري ظل يعيش في أنفة ولم يحدث أن تنازل يوما عن توجهه، وعن أفكاره، رغم كل الصعاب والعراقيل التي صافته، ومن ذلك طبعا عدم رضى بعضهم على كتباته التي تفتت الموروث الثقافي برمته، وقد انبرى بعض أشباه الكتاب للرد عنه ومحاولة دحض خلاصاته المخلخلة لعدد من المفاهيم، ومن المفجعات/المضحكات أن هناك جهات بالمشرق أفتت ب"هدر دمه". من المعروف كذلك أن الجابري توجه إلى سوريا سنة 1958 لدراسة الرياضيات، لكنه لم يجد مقعدا بالكلية لذلك، فتسجل في سلك الفلسفة، ولعل هذه الصدفة كانت منعرجا حاسما وإيجابيا في مساره.
ليس الوقت الآن تعداد كتابات الراحل المتنوعة، وليس من الضروري التأكيد على أهمية فكره، واعتماده مرجعيات مختلفة سواء عربية/إسلامية (فلسفة، تصوف، علم كلام، لغة..)، أو مرجعيات فلسفية غربية، مما جعله واسع الاطلاع، ومتميزا في تحليله الثاقب. ولكن من الضروري الحرص على الاستفادة مما تركه من موروث فكري لا يقدر بثمن، وفي الختام يحق أن نتساءل عن دور رفاقه ومحبيه من أجل خلق مؤسسة تعنى بذلك، وأن تترفع الدولة عن هذا الحجود الذي تعامل به أبناء المغرب البررة كمحمد عابد الجابري.
ـــــــــــــــــ
نشر في: