التهامي الزموري آخر من ودع الشهيد المهدي بن بركة
قصة حياة قصيرة اغتالها الكمد
وزان:محمد حمضي
بحلول يوم 29 أكتوبر الأخير يكون قد انسلخ من عمر الجريمة النكراء التي كانت حلبتها قلب العاصمة الفرنسية باريس، وسيذهب ضحيتها قائدا أمميا من عيار ناذر، خمسة وأربعون سنة… قرابة نصف قرن ولا زالت الروح الطاهرة للشهيد المهدي بن بركة تطارد القتلة الأحياء، وتعذب الموتى في قبورهم…
بتاريخ "22 أكتوبر1965 سيتصل المهدي بشاب مغربي اسمه التهامي الأزموري، طالب باحث في التاريخ، ليخبره بحاجته للقائه بباريس يوم 29 أكتوبر في الساعة الثالثة بعد الزوال، "هكذا أورد محامي عائلة الشهيد اسم هذا الشاب وهو يسرد كرونولوجيا اختطاف القائد العالمثالثي في كتابه. فمن يكون هذا الطالب الذي سيرحل في ظروف مأسوية؟
لن ندعي بأننا نقبض على تفاصيل حياة هذا الابن البار لمدينة وزان (التهامي الأزموري) التي بها رأى أول خيوط النور عندما وضعته والدته. وفي أزقة دار الضمانة التي كان يطوقها المحتل الغاشم ترعرع وشاغب ككل الأطفال الذين يرزحون تحت نير الاستعمار… التحق بالمدرسة وكان رائد زملائه كما يحكي لنا من عايشوه، وتوقعوا له مستقبلا زاهرا وحضورا متميزا في مختلف المحافل التي يتواجد بها… سيلتحق بالرباط ومنها إلى باريس لإتمام دراسته العليا تخصص التاريخ… وبين العاصمتين يقول أحمد وهبي أحد المؤسسين الأوائل لحزب الإتحاد الوطني/الاشتراكي للقوات الشعبية بوزان سينشط التهامي الزموري في صفوف الحزب المعارض للنظام…
التهامي الأزموري
بعاصمة الأنوار سينسج هذا الشاب القادم من مدينة ترقد في سفح جبل بوهلال شمال المغرب علاقات واسعة مع أسماء وازنة في عالم السياسة والأدب والثقافة، وسيستقطب له الأنظار، وستتوسع مداركه… وسوف ينتهي به الحال بمصاهرة فرنسا عندما اختار فرنسية رفيقة دربه.
بعد اختطاف الشهيد المهدي بن بركة يوم 29 أكتوبر 1965، كان التهامي الزموري برفقته، ولم يكن يعلم بأن الأمر يتعلق بالشروع في وضع اللمسات الأخيرة على الجريمة النكراء… سيختفي هذا الشاب ليظهر بعد أيام وهو في درجة الصفر من التمزق النفسي… مرت الأسابيع والشهور وهو على هذه الحالة إلى أن زهقت روحه… عندما تم نقل جثمانه للدفن بمسقط رأسه وزان، كنت أتابع تعليمي الابتدائي بمدرسة الحدادين(المصلى حاليا)، ولا زلت أذكر من بين ما أذكر وأنا في طريقي إلى المدرسة حوالي الساعة الواحدة والنصف، صادفت حشدا غفيرا من المواطنين متجمهرا قرب ساحة الوزكاني، لقد جاؤوا لتشييع جثمان صديق المهدي بن بركة المسمى قيد حياته التهامي الزموري.
هذا المشهد الحزين لازال عالقا بذاكرتي إلى اليوم، وقد كان أول تماس مع هذا الاسم الذي سيقول لنا عنه المرحوم المؤرخ محمد زنيبر في أبريل سنة 1987 بمناسبة تنظيم أول أسبوع ثقافي لمدينة وزان"، لقد كان الشاب الزموري نابغة عصره، وكان سيكون معلمة من معالم وطنه، لكن صدمة اختطاف المهدي من بين يديه كان وقعها قويا على نفسيته"
في شهادة بجريدة الإتحاد الاشتراكي يوم 30 غشت الأخير للأكاديمي والناقد إبراهيم السولامي في حق الفقيد: "أما التهامي الزموري، فهو الطالب الذي كان برفقة المهدي بن بركة عند اختطافه، وقد مات موتة مأسوية. لقد كان طالبا لامعا.. وقد عرفني على الأديبة اللبنانية ليلة بعلبك، صاحبة الرواية الشهيرة "أنا أحيى"… ولعل أبرز ما أثارني فيه، وأفادني في الوقت ذاته هو إلمامه الواسع بالتاريخ الوطني والعالمي، دراستي للتاريخ كانت تقليدية… فنبهني إلى تأثير العوامل الأخرى كالاقتصاد والتجارة ودور الدول الكبرى، لأنه كان ملما بالدراسات والمناهج الغربية المتطورة"
وفي شهادة أخرى لأحمد البخاري الضابط السابق في المخابرات المغربية التي تم بثها على قناة الجزيرة الأسبوع الأول من شهر غشت سنة 2001 حيث قال:"استدار المهدي بن بركة نحو التهامي الزموري عندما كان الفرنسيان يطلبان منه الذهاب معهما ليتحدث معه ويطلب منه أن يخبر الأشخاص الذين ضربوا له موعدا في مقهى فليب بتأجيل الموعد، ولكن التهامي الزموري عندما رأى تلك العملية أراد أن يصرخ أو يثير انتباه المارة، فسارع الشرطيان المغربيان المكلفان بمتابعة بن بركة وركضا اتجاه الزموري ودفعاه وبدآ يشتمانه شتائم مفزعة وهما يتمتعان بأجسام ضخمة."
كانت نتف وشذرات من حياة حافلة بالحضور المتميز والاستثنائي لشاب ضاع فيه الوطن قبل أن تضيع فيه أسرته ومدينته. فرحمه الله وأسكنه فسيح جنانه وإنا لله وإنا إليه راجعون.