زيـــــــارة للــــــــــــربـــــــاط
مصطفى لمودن
كان ضروريا أن أذهب إلى الرباط.
الرباط هي العاصمة التي ما تزال تستحوذ على كل شيء، الإدارات المركزية والممركزة، غالبية الموظفين، خاصة المنعم عليهم" بوظائف" ممن لا يكلفهم حضور مقرات العمل إلا جدها بسيطا، وقد لا يحضرون.. أما الغالبية فغرقى في أتعاب بدون حد، في "أشغال" روتينية لا تجدي نفعا كثيرا للوطن والمواطنين في ظل إدارة سلبية منغلقة ممركزة، ما تزال تسير وفق "تركة" فرنسا النابولية (نسبة إلى نابوليون)، أسيرة بيروقراطية قاتلة.
ذهبت إلى الرباط على متن القطار وقد حل في الموعد! لنسجل ذلك، عندما يكون أي شيء إيجابي لازم نتحدث عنه، لكن رغم اعتدال الصباح، فالمقصورات تكاد تخنق الأنفاس، المكيفات معطلة، أحسن نسميها مداخل الهواء، كلها مغلقة، فتاة تضرب على صدرها بكفها وتشتكي لصديقتها ضيق التنفس…
فضلت مغاردة المقصورة بعدما ضاقت بركاب جدد، احتلت أسرة بكاملها كل الفضاء المتاح، وفضلوا أن يجتمعوا ولو متزاحمين… في الممر على الأقل هواء يعبر، اقتربت من باب العربة، هناك فسحة تتسع لبضعة أشخاص رغم الضجيج، كان هناك شبان في مقتبل العمر، من ملامحهم وملابسهم يبدون في وضعية صعبة، تصلني محاوراتهم رغم كل تحوط وعدم اكتراث، فهمت أنهم يتهربون من المراقب، وعرفت أن أقصرهم هو زعيمهم الذي يتشاورون معه، وهو من يوجه ويعطي الأوامر، على وجوه بعضهم خدوش، اقترب مني أحدهم، فشممت رائحة نتنة، يتحدثون بصوت مرتفع عن مغامراتهم المختلفة، نشل، اصطدامات، مغامرات… وضحك بسبب وبدونه.. تراجعت إلى الوراء انتظر بلهفة محطتي المقبلة.
أثناء الرجوع، تأخر القطار ربع ساعة، ولم تخبر بذلك "المضيفة" كالعادة بصوتها الرخيم عبر مكبرات الصوت… لكن اكتفت بالإخبار عن تأخر القطار القادم من البوغاز… وطبعا طلبت الاعتذار!
أهم ما يلفت الانتباه والقطار يدخل الرباط من الجهة الشمالية رؤية الطابور الطويل من السيارات القادمة من سلا، سلا بيت نوم كبير للموظفين والعاملين بالرباط، رغم الرتوشات والتزويقات والقنطرة الجديدة المعلقة على أبي رقراق، تفاقم اكتظاظ السير بين العدوتين، اختناق لا يطاق.. من نافذة القطار تظهر على ضفاف النهر بنايات باذخة، لا أحد يحدد قيمتها المضافة للمدينة أو للمدينتين، فبعدما عجز الإماراتيون عن إتمام "الأشغال"، تدخل الرأسمال المحلي ليتمم، ماذا يتمم؟ إنها عملية إنقاذ لماء الوجه أمام اختيارات "استثمارية" بدون جدوى في ظل الأزمة المالية والاقتصادية التي تضرب قطاع السياحة بدوره في مقتل… ويحق للعابرين يوميا بين الضفتين أن يتساءلوا عن سبب الإغلاق المستمر للقنطرة القديمة.
كأي زائر بدوي قادم من أعماق المغرب، لا يمكن ألا أن تثيرك كثرة السيارات وتنوعها، في الطرقات تبدو كالسلاسل المترابطة بدون نهاية، تقطع السلسة الأضواء الحمراء، لتمر السلسلة الأخرى من الاتجاه المقاطع، إنه مشهد عادي لم يعد يثير الانتباه، فنحن لسنا في بدايات القرن العشرين، حينما ظهرت السيارات لأول مرة، وكان عددها قليلا لا يظهر وسط العربات المقطورة بالدواب، كان الواحد يتمنى أن يرى فقط تلك "الأشياء" المتحركة… لكن المثير للتساؤل الآن، هو كم تكلف هذه السيارات؟ ما العبقرية البشرية التي تبدعها وتجعل شعوبا منتجة وأخرى مستهلكة؟ كم تكلف الطاقة الأحفورية البترولية المستوردة بالعملة الصعبة لتتحرك هذه الزاحفات مسرعة متدافعة؟ وهل من الضروري أن تملك كل أسرة سيارة أو أكثر؟ وهل من اللازم على كل موظف (ة) أو مستخدم (ة) استعمال سيارته ليصل إلى عمله؟ ألا يعني ذلك تعميقا لأنانية المغربي (ة) وانعزاله وابتعاده عن "هموم" الآخرين؟ بل وحتى عدم التضامن فيما فيه النفع العام والمصالح المشتركة، ألا يعني هذا الكم الهائل من العربات الفردية التي تملأ الشوارع أن هناك فشلا ذريعا "للنقل الجماعي" وتأكيدا على سوء التدبير؟ ثم قد يطرح هذا السؤال أي طفل نبيه؛ "من أين حصل أصحاب العربات الفاخرة على ثروتهم لامتلاك هذه السيارات التي يصعب حتى على مواطني دول المصدر أن تمتلكها؟"، سؤال قد يكون "مغرضا" لكنه مشروع…
غير أن الجميل في كل هذه الضوضاء هو تحرك الترامواي بتؤددة وهو مرتبط بأسلاك الكهرباء التي تمده بالطاقة المحركة له، لا ثاني (أو ثالث) أكسيد الكاربون! وبما أن الناس ما زالوا لم يستأنسوا بالوافد الجديد فقد وضع المسؤولون حراسا بلحمهم ودمهم في كل الممرات، وتقع حوادث رغم دقات الجرس المنبعثة من قطار المدينة هذا، هو ليس بغريب عن المدينة، فهناك صور فوتغرافية في رواق مهمل بباب الحد فيها خطوط السكة الخاصة بالترامواي بنفس المكان كما كانت بل قرن من الزمن..
ما لا يمكن أن تغلفه عين أي زائر للرباط هو تواجد الحراس الخاصين، أمام مختلف المؤسسات والإدارات، تراهم يراقبون بألبستهم المميزة، ما هم بشرطة أو حرس مدني.. بل يشبهونهم فقط، إننا فعلا في خضم مرحلة تاريخية جديدة، حيث توارى الأمن العمومي بهيبته الحقيقية أو المفترضة، لتتراجع إلى الخلف هيبة الدولة حامية وراعية الجميع، وتصبح سطوة القوة والمال والنفوذ هي البارزة، إن لرمزية الفعل قوة ذات أثر أبلغ من الفعل العنيف ذاته… عندما يقف أمامك "شرطي غريب"، له "سلطة" تسمح بتوقيفك أو إرجاعك أو السماح لك بالولوج وفق شروط غير واضحة، حينها تتأكد أن الدولة غابت… يظهر من سحنات غالبية الحراس أنهم يعيشون ظروفا غير طبيعية، توتر واضح، قلق على محياهم، فكيف سيشعرون وهم مجرد متعاقدين مع شركة خاصة تستثمر في وضعيتهم من أجل الربح؟كيف يتعاملون وفق ظروفهم القاهرة مع بنايات شامخة تثير الفزع؟ وسيارات فارهة تخرج وتدخل؟ ومسؤولين متعجرفين لا ينزل نظرهم إلى الأرض؟ ولم أجد من تعبير بليغ حول سريالة المشهد سوى ما يفعله أحد الحراس في غفلة من الآخرين، فهو يعد براد شاي على قنية غاز وراء منارته الخشبية الملونة التي تتسع لشخص واحد في وضعية الوقوف، فطور لسد الرمق..
أنتظر وسيلة نقل بمدخل البناية، فأتابع المشهد… يخرج موظف، يتوجه صوب سيارته المركونة قرب الباب، يقوم الحارس بسرعة، ليظهر أنه واقف قرب المدخل، ويعود بخفة يلتهم قطعة خبز أخرجها من حقيبة مهترئة، يرشف إثر كل مضغة شايا من كأسه الذي يحمله ثم يضعه داخل كوخه/منارته…
الزائر إلى الرباط، لا بد له أن يمر أمام البرلمان، تلك البناية كالضريح أو الزاوية، بفارق وحيد وهي أن مريديها خاصين جدا… كان الشارع فارغا من المظاهرات والاحتجاجات، لأنه الصباح فقط، ورغم ذلك كانت ناقلة من الحجم الكبير للقوات المساعدة راصية على المدخل الغربي للشارع، لكن اللافت للانتباه يومه هي أعمال الصيانة على بناية البرلمان، هناك عمال يحكون الحيطان لإعادة تصبيغها، ليس هناك أي إعلان يوضح نوع الصباغة أو اللون الذي اختاروه، ولا يمكن طرح أي تساؤل مماثل على العمال، خاصة أن هناك حراسة مشددة في كل الجوانب.. الغريب، هو لماذا التصبيغ في هذه الفترة؟ هل سيتغير المنزل أم سيتغير المقيمون فيه؟ فتبدال المنازل راحة.
كنت مضطرا في تنقلي السريع والمستعجل لاستعمال سيارة الأجرة، لكل مدينة لون خاص لسيارات الأجرة، وتشترك مدن في لون واحد، الرباط اختارت الأزرق، لون البحر والأمل، في الغالب تجد في وقت مناسب سيارة تقلك، ما أن تصعد وتحدد وجهتك، وتنطلق السيارة، يشرع السائق في التوقف لآخرين يشيرون إليه، يسألهم عن وجهتم، وإذا توافق وكانت لهم وجهة على نفس الطريق التي سيقطعها يحملهم، العداد يسجل للزبون الأول، والآخرون يؤدون حسب مزاج السائق…
كان علي أن أعود على عجل، لم أقض أي حاجة سافرت من أجلها، لكن توصلت إلى معلومات قيمة جعلتني أراجع حساباتي حول مدى التزام الآخرين وصدق معاملاتهم، وتأكدت من أن هذه الرباط العاصمة، تتحول إلى غول كبير بدون إحساس..
لكن في الرباط يمكن أن تتمشى مع رفيقتك دون أن يلتفت إليك أحد أو يحدجك بنصف عين، أو يتقدم بعضهم ليسألك عن هويتك.
ودام المغرب في الرباط مع الرباط، إلى حين التنزيل الفعلي والحقيقي للجهوية الموسعة.