الاثنين، 1 سبتمبر 2014

الواقع الثقافي: أندد، أستنكر وأحتج./ ذ. العباس جدة

الواقع الثقافي: أندد، أستنكر وأحتج.

ذ. العباس جدة

 هل آن الأوان للحديث عن إقلاع ثقافي وفني في البلاد العربية؟ في ظل الظروف السياسية والإجتماعية والثقافية الراهنة، هل من المنطقي أن نأمل في نهضة إجتماعية وثقافية وفنية في البلدان العربية وخاصة في مغربنا الأقصى؟ الحلم والأمل لا ينقطعان بالطبع ولا يمكن بأي حال أن نستسلم لليأس، غير أن السبيل الكفيل لبلوغ الهدف لا زال بعيدا وتعترضه صعوبات وعراقيل ومعوقات متداخلة ومتشابكة، منها ماهو موضوعي ومنها ماهو ذاتي. كيف؟ ولماذا؟
 إن الطريق الصحيح لتحقيق النهضة الثقافية والفكرية هو نوع العقلية التي نمتلك: كيف نفكر؟ كيف نتصور الإنسان والعالم؟ كيف نعامل الآخر؟ كيف نتصرف في حياتنا المهنية والعامة والخاصة؟ ماهي القيم التي تسود وتحكم أفعلنا وسلوكاتنا وردود أفعالنا؟ هل هي التسامح الفكري والحوار والإقناع والعرفان واحترام الغير والمنافسة الشريفة والنزاهة والمصلحة العامة والعمل الجماعي وحب العمل والإحساس بالمسؤولية والإيمان بالعقل والمنطق والتشبع بقيم العدل والديموقراطية والإنصاف والمساواة؟
لا أعتقد أن الإنسان العربي والمغربي يمتلك هذا النوع من التفكير والسلوك اللذين يساعدان على السير في طريق النهضة الإجتماعية والثقافية المأمولة منذ عقود طويلة؛ بل إن هذه القيم الحداثية تكاد تنعدم في مجتمعاتنا العربية ليحل محلها التعصب الفكري والتفكير اللاهوتي واللاعقل والدوغمائية والإقصاء والتهميش والنبذ والحسد والمؤامرة والدسائس والكذب والولاءات واللوبيات والطائفية والتكتلات الرجعية، الى غير ذلك من الأفكار والمعتقدات والمسلكيات التي تفرمل بالتأكيد السيرورة الإجتماعية والثقافية للبلاد العربية.
لكن من المسؤول عن هذا الوضع المتردي للثقافة والفن في بلادنا وعن هذه العقلية المتخلفة التي تكبح كل محاولة للتقدم وتناصب العداء للجديد وللحداثة؟
المسؤولية في تقديري يتقاسمها ثلاثة أطراف: الدولة، المجتمع، والمثقفون.
الدولة: لا يختلف إثنان في كون الدولة المغربية تتحمل النصيب الأوفر في تحمل مسؤولية وضعنا الثقافي والفني البئيس والمأزوم. فالدولة بحكوماتها المتعاقبة لا تهتم بالشأن الثقافي ولا تبالي بالوضع الفكري والعلمي والفني للبلاد، بل لا تعمل حتى على توفير الشروط الكفيلة بممارسة فكرية وفنية سليمة وطبيعية، وبالتالي تكرس الجهل بدل الترويج للفكر والثقافة والفن. ويتجلى هذا في ما يعانيه المثقفون والأدباء والفنانون من اقصاء ونبذ وتهميش. إن الكثير من الكفاءات العلمية والمبدعين والأدباء مغمورون ومنبوذون، وتكبح نشاطاتهم العديد من العراقيل من طبع ونشر وتوزيع لأعمالهم الفنية والأدبية، في حين أن من مهام الدولة المواطِنة الكشف عن هذه الكفاءات ودعم وتشجيع الفعل الثقافي والفني؛ لكن دولتنا المغربية بحكوماتها المتتالية تعمق الأزمة بخلق "لوبيات ثقافية" لمحاربة المثقفين والمبدعين، حيث يمكن أن نعثر على هؤلاء الذين يحاولون اغتيال الفكر ومحاصرة المثقفين الحقيقيين في كل قطاع من القطاعات التي لها علاقة بالعلم والمعرفة والفن، كوزارة الثقافة ووزارة التربية الوطنية ووزارة الشباب ووزارة الإعلام وكذا المجالس البلدية والقروية.
 المجتمع: إن المجتمع المغربي بصفة عامة لا زال متمسكا بعقلية القرون المظلمة، ويؤمن بالخرافة ويتشبث بالأسلاف وبماضيهم المجيد. فالجهل هو الذي يحكم المجتمعات العربية بصفة عامة. والجهل حسب الفيلسوف اسبينوزا هو علة كل الشرور والمصائب. إنها مجتمعات تقليدية بعقلية عتيقة، تعادي العلم والثقافة وتناصب العداء للفن ولكل ماهو جديد، متطور وعقلاني؛ وتتمسك بالماضي الغابر وتكبلها العادات والتقاليد والتصورات الماضوية التي تتنافي كليا مع معطيات الزمن الحاضر ومع الفكر الحداثي، بما تفترضه الحداثة من تسامح فكري وحوار وتواصل بين الذوات وتعاون من أجل المصلحة العامة وعقلانية وتقدم علمي والديموقراطية والحرية والحق في البوح بأفكار مغايرة لما هو سائد ومتعارف عليه منذ قرون. والجدير بالذكر أن سلطة المجتمع في تشكل وتكوين العقليات وتطويع النفوس والعقول أقوى وأعظم من سلطة الدولة بكثير. وبناءا على هذه الملاحظة فإن الدولة المغربية وحكوماتها تخشى سلطة المجتمع العاتية، تتفادى الإصلاح أو حتى محاولة تعديل بعض المعتقدات والعادات الشعبية ولو كانت سخيفة ومتجاوزة. ومن ثم تجد الحكومات المغربية نفسها مضطرة- وهنا أتكلم عن الحكومات التي تروم "بعضا" من الإصلاح والتجديد- تجد نفسها مضطرة لمجاراة قيم المجتمع وإبرام الهدنة معه لكي لا تستفز المألوف والمتعارف عليه أو  تشكك في العادات الراسخة الفرعونية والقواعد الإسمنتية، وهكذا تتخلي عن إرادة الإصلاح. فلا قوة ولا مقاومة ضد الماضي والتقاليد البالية.
3 ـ المثقفون: أما الطرف الثالث الذي يساهم بوعي أو بدون وعي في تهميش الثقافة وتأزيم واقع الآداب والفنون، فهم المثقفون والنقاد والمبدعون أنفسهم. إنهم يعمقون أزمة الثقافة في البلاد المغربية (والعربية عامة) من حيث لا يدركون. كيف لا وهم نتاج نبتة غرست بشكل غير سليم ولم تحظ بالسقي الكافي؟ فهناك عدد لا بأس به- وبأسف شديد- من المثقفين والأدباء والمبدعين الذين لم يتحرروا بعد من ثقافة المجتمع التقليدية المعادية للجديد والخلق والإبداع وتتمظهر تبعية واستلاب هؤلاء في بعض السلوكات والمواقف التي لا تنم عن رغبة في خدمة الثقافة والفن، كالحسد وتجاهل انتاجات الزملاء وممارسة الإقصاء والتهميش على المنافسين والإنخراط في لوبيات وتكتلات ذات مصالح شخصية ضيقة ودنيئة، متواجدة في كل الأجناس الأدبية من رواية وقصة وشعر وفنون، كالسينما والمسرح والفن التشكيلي. إن المبدعين والفنانين يتقاتلون فيما بينهم، فلا أحد يعترف بإنتاج الآخر، ولا أحد يعامل زميله الروائي أو المسرحي أو الشاعر باحترام وتقدير، ولا أحد منهم – بالطبع مع بعض الإستثناءات- يحاول التواصل مع الآخر، ولا أحد يعترف بقيمة ابداع زميله في الهم والإهتمام، ولا أحد تملأ قلبه مشاعر( وهنا أركز على المسرحيين من مؤلفين ومخرجين وممثلين لأنني أعرفهم جيدا) الصدق والنزاهة والود والمحبة لأصدقائه المسرحيين أوالمثقفين. كيف للمبدع أن يمارس الإبداع وينتج الجمال وأن يتطلع بفنه الى القيم الإنسانية العليا، وقلبه مليء بالضغينة والكره والنقمة والخداع؟ كل واحد منهم لا يتحدث إلا عن نفسه وعن ابداعاته وانتاجاته الفكرية والفنية الهائلة وبكثير من الوثوقية البليدة وقد جرفته هاوية الغرور والغطرسة وأصيب بجنون العظمة.
لهذا أندد بتقصير النقاد الأدبين والفنيين في القيام بواجبهم المتمثل في اكتشاف المواهب وتشجيعها  وفي ممارسة نقد نزيه وموضوعي ينأى عن الزبونية والولاءات والكتابة "تحت الطلب" والتنزه عن اللويبات الثقافية القاتلة. كما أندد بتخاذل غالبية الأدباء والفنانين الذين لم يتحرروا بعد من ثقافة  القبيلة التي تقوم على التعصب والتحجر الفكري والرغبة في إقصاء الغير واللجوء الى العنف الرمزي والجسدي... أجل هناك من الفنانين والمثقفين الذين لا يترددون في استعمال أياديهم...
وأستنكر سلطة المجتمع القاهرة والعاتية، التي ترهبنا وتفرض علينا وعلى الناس أجمعين قيما وأفكارا مغلوطة وسلوكات تعادي العلم والتقدم والفن.
وأحتج أخيرا على الدولة المغربية التي لا تتحمل مسؤوليتها في محاربة قوى الظلام المعادية للعلم وللفن. واحتجاجي يصبح مضاعفا عندما تتعمد هذه الدولة غرس بذور الجهل والإتكالية والنفور من العمل والغش والفساد في نفوس مواطنيها، ولا تدعم وتزكي مجهود الأستاذ والمعلم ولا تأبه بالمثقف والمبدع.


ليست هناك تعليقات: