ملاحظات على ضوء الاحتجاجات
مصطفى لمودن
أقصد بالاحتجاجات
التي انطلقت منذ يوم الجمعة 2 غشت 2013، وقد عرفت أولى تجلياتها بالرباط حيث تعرضت
للقمع المفرط، كما أعني بها كذلك بقية الاحتجاجات التي عرفتها مناطق أخرى في
اليومين الموالين السبت والأحد، وما قد يلحق من خرجات واحتجاجات موالية..
أما الملاحظات
التي سأدلي بها حسب وجهة نظري فتهم بعض الحيثيات والنتائج المترتبة عن الاحتجاجات
المشار إليها وبعض الدروس والعبر.
الغالبية الآن من الشعب على بينة من الواقعة،
وهي العفو عن إسباني مغتصب إحدى عشر طفلا حوكم بثلاثين سنة سجنا، غير أنه حصل على
العفو الملكي وأطلق سراحه وانتقل إلى إسبانيا..
في غياب أي حديث
عن واقعة العفو بالإعلام الرسمي بمختلف أشكاله، وحتى من طرف الإعلام المكتوب قبل
انطلاق الاحتجاجات، لكن الريادة في ذلك حصل عليها الإعلام الالكتروني من مواقع
ومدونات ومواقع التواصل الاجتماعي خاصة الفايسبوك والتويتر الأكثر استعمالا في
المغرب..
إذاً، ظهر من جديد
فعالية ما يصطلح عليه بالإعلام البديل، أي الذي يعتمد الحوامل الالكترونية، وهو لا
يكتفي بالإخبار فقط، بل بفعاليته التفاعلية، حيث يكون آنيا، وبدون رقابة، ويتيح
المناقشة والرد والتطعيم في نفس الوقت.. كما أنه وسيلة تواصل للاتفاق على أشكال
النضال الممكنة..
وتأكد من جديد أن الإعلام العمومي الممول من
المال العام ليس له من دور سوى التضليل أو الإلهاء أو التركيز على الأنشطة الرسمية
وكل ما يوحي للمتتبعين أن البلد بخير وأن كل "مسؤول" يقوم بدوره كما
يجب، أما الحديث عن المشاكل لتشخيصها وإيجاد الحلول لها، أو الاستماع لنبض الشارع،
فذلك آخر ما يشير إليه القائمون على هذا الإعلام إذا لم يكونوا يمنعونه بالمطلق..
أوضحت قضية العفو
عن مغتصب الأطفال أن اتخاذ القرار كيفما اتفق هي القضية المغتصبة في المغرب.. إن
مسألة العفو كمثل ملموس يبين إلى أي حد مازالت غير واضحة ولا تخضع لمساطر مضبوطة
كما وضح ذلك ذ. عبد الرحيم الجامعي في مقالة له صدرت بجريدة "المساء"
يوم الإثنين 5 غشت 2013 وضع لها عنوانا
جامعا وبليغا هو "العفو والدستور والضحايا.. ومغرب الفوضى؟" ، من ضمن ما
جاء فيها "ولم يعد من المقبول اليوم الإبقاء على المقتضيات الحالية لقانون
العفو الصادر منذ 1958 لما فيه من تناقض واضح وخطير مع الدستور، ومع مبادئ
المساواة أمام القانون ومع منظور استقلال السلطة القضائية ومع هيبة وقوة القرارات
والأحكام القضائية النهائية، وما فيه من تعارض مع المواثيق والاتفاقيات الدولية
المعنية بحقوق الإنسان..".. ولهذا ارتفعت من جديد الأصوات تلح على الإقرار
الفعلي والواضح لاستقلال القضاء في المغرب، وللفصل بين السلطات، وأن تتحمل كل جهة
مسؤولة كامل صلاحياتها...
ظهر بالمناسبة أن قوى اليسار ومن يوصفون
بالعلمانيين، رغم أن البعض يسعون دائما للتدليس على هذا المصطلح وتشويهه
(العلمانية)، بينما هو في الأساس يقوم على الإقرار بحرية الاختيار وضمان الحقوق
للجميع.. هذه القوى المشار إليها هي التي تفاعلت من موقع المسؤولية مع الحدث،
وعبرت عن رأيها بقوة وخرجت للاحتجاج.. واضح كذلك تواجد قوى أخرى من ليبراليين في
طور جنيني غير منظم، ومتدينين معتدلين يؤمنون بالحق في الاختلاف..
غابت عن الاحتجاج مختلف تيارات "الإسلام
السياسي"، ويبدو أن هناك ثلاث توجهات لتفسير ذلك، هناك من هم مرتبطون بشكل من
الأشكال مع "حزب العدالة والتنمية" الذي يرأس الحكومة، وهؤلاء لا يرغبون
في التشويش على أول "تجربة في المشاركة في الحكم"، ولو كان ذلك ضد
"المبادئ" التي كانوا يتدافعون من أجلها سابقا.. الاتجاه الثاني يقول إن
هؤلاء غالبا يتفرغون للعبادة في أواخر رمضان، ومنهم من يختلي بنفسه أو بجماعة
ينتسب إليها وينقطع عن العالم والمحيط.. واتجاه ثالث يرى أنه لا يمكن بأي شكل من
الأشكال الحديث عن قرار صادر عن الملك أو ينسب إليه كالعفو عن السجناء..
تجلى الأمر لدى التيارات الدينية في تضارب
الآراء والمعلومات المتسربة أولا عن وزراء "العدالة والتنمية"، فالناطق
الرسمي باسم الحكومة مصطفى الخلفي نفى في تصريح مسؤول أن يكون على علم بخروج مغتصب
الأطفال من السجن أو مغادرته المغرب.. كان ذلك في البداية. بينما تتضارب الأخبار
المنسوبة لوزير العدل والحريات مصطفى الرميد، فإذا كان البعض يقولون إنه هو
المسؤول إداريا عما وقع، فهو قد نفى أي مسؤولية له عن إيراد اسم المغتصب ضمن قائمة
المعفى عنهم، وقال إن وزارته تتكلف "بالتنفيذ"، لتظهر أخبار أخرى تتحدث
عن أن الوزير نبّه الديوان الملكي على الجرائم المقترفة، ثم يتم بعد ذلك نفي هذا
الأمر..
ولعل أبرز من وهت له انتقادات قوية هو التيار
السلفي في شخص الزمزمي صاحب "الفتاوى" الغريبة، فقد نسب إليه نعثه
المحتجين ضد العفو عن المغتصب بأوصاف قدحية لم يستح من النطق بها..
ظهر أن "خطة" الدولة لمراقبة المساجد
و"ضبط" المجال الديني قد أعطى "أكله"، بحيث أن أي خطيب جمعة
لم ثر موضوع العفو عن المغتصب، فإذا كان "الضبط" المشار إليه واجب ضد كل
أشكال التطرف، فإنه من جانب آخر يلجم المبادرة وتنوير الرأي العام..
بعد القمع المفرط لوقفة مظاهرات مساء الجمعة
بالرباط ظهر من جديد خلل فادح على مستوى الحكامة الأمنية، فلحد الساعة لا أحد يعرف
من المسؤول عن إعطاء الأوامر بسلخ المحتجين، نظريا دستور 2011 يجعل رئيس الحكومة
في الواجهة، وهو المسؤول الأول، لكنه وللغرابة الفاضحة قال إنه لا علم له! ليظهر أن هناك
"قوة" أخرى غير معلنة هي من تحكم في الأمن وتوجهه وتعطيه الأوامر، وهذا
يتنافى بالمطلق مع دولة الحق والقانون..
لقد ترتبت عن احتجاجات "شعب
الفايسبوك" والخروج إلى الشارع قرارات تعتبر سابقة ويجب ألا يستهان بها، من
ذلك سحب العفو عن مغتصب الأطفال، وإعفاء مسؤولين ينسب إليهم "ضلوعهم" في
عدم التدقيق في اللائحة المقدمة للملك واستثناء المغتصب لفداحة جرمه.. كما تفاعل
الديوان الملكي عبر بلاغات تساير المستجدات وجزء من مطالب الشارع المحتج.
وباستثناء نخب حزبية قليلة كنبيلة منيب الأمينة
العامة للحزب الاشتراكي الموحد التي لم تركن للصمت منذ أول يوم، وكالنقيب عبد
الرحمان بن عمرو الأمين العام لحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، فإن الباقين
لاذوا بصمت مريب، ولم تنطلق ألسنتهم حتى توضح لهم الخيط الأبيض من الأسود، وهم في
الغالب يردون نفس ما تأتي به البلاغات الرسمية دائما.. ليظهر الفراغ المهول في شأن
التأطير الحزبي، والذي يتحمل مسؤوليته المخزن الذي لا يريد أن تكون هناك أحزاب
مؤثرة لأن ذلك يعني حضور النقيض، أي بداية بناء الديمقراطية، وتساهم كذلك "النخب
الحزبية الانتهازية" في تقويض حتى أحزابها أمام الرأي العام، وهي لا يهمها
ذلك، لأنها تعرف أن الشعب مزاحا عن القرارات الكبرى.. كما تساهم في ذلك "نخب
بيروقراطية" توجه الطعنات للحزب كمفهوم في أي فرصة تتاح لها كالندوات
المتلفزة، وهي تعرف أن حصولها على "التعيينات" مباشرة أسهل من خوض غمار
الاستحقاقات الحزبية الداخلية المكلفة بالنسبة إليها..
إن شرارة الاحتجاجات قد انطلقت في المغرب من
جديد على ضوء ما حدث، لكن المطالب تزيد في توسعها، حيث هناك مطلب "تقنين
العفو" واستقلال فعلي للقضاء، وإعفاء مسؤولين آخرين كوزير العدل والحريات
وأحد المستشارين واسع النفوذ.. مادام أنه أصبح من الواضح أن كثيرا من القرارات
التي تكون في صالح الشعب لا تأتي إلا بعد الخوض في غمار الاحتجاج..