في كل شهر سأحاول إدراج قصة مما تراكم لدي، أغلبه نشر بصحف وطنية، ونظرا لصعوبة النشر ضمن "مجموعة قصصية" نكتفي الآن بالواجهة الفضية، عبر الشبكة…كما أننا نستقبل مساهمة القراء للنشر…
قصة قصيرة: الكأس المستنسخة
أعرف أنني لما تسلمت الكأس، لم أكن بطلا لا يقهر، أو بمعنى آخر بطلا أولمبيا يهزم جميع منافسيه من البشر في اختصاص رياضي معين … إنما تفرغت لتداريب شاقة… جل وقتي أقسمه بين التدريب والدراسة، في غياب أي دعم تساعدني أسرتي فقط، وتضحيات مدربعصامي في نادي المدينة الذي تغيب فيه شروط الممارسة الرياضية الحقيقية.
لم أجد في كل مراحل الإقصائيات ندا حقيقيا، وبذلك كان التتويج سهلا، يومه حضر رئيس الجامعة، يحيط به حشد من المساعدين والحراس… وعدسات المصورين تلتقط له صورا في وضعيات متعددة، أكثر من الرياضيين والرياضيات المتوجين في درجات وأعمار مختلفة… لقد سلمت على رئيس الجامعة، وتسلمت منه الكأس، رفعتها عاليا وأنا جد منتش بتصفيقات الجماهير… عند نزولي من المنصة، همس في أذني المسؤول الأول عن نادي مدينتي قائلا:" افرح بكأسك جيدا، واعتن بها قبل أن تعيدها لنا لنضعها في مقر النادي "
احتضنت كأسي بين ذراعيّ.
ما أن عدت إلى مدينتي، حتى اتصلت بصديق يعمل سباكا للفضة والنحاس والرصاص… في ورشة خاصة به، يصنع براريد الشاي، وعدة أوان أخرى وأنواعا منالأنابيب… طلبت منه أن يستخدم مهاراته الموروثة من أجل وضع نسخة عن الكأس من الرصاص، ثم يلمعها بغشاء فضي، وأن يحتفظ بالسر الذي لا يعلمه سوانا… "على أي فالكأس ليست صعبة التقليد، أمثالك في الحرفة ـ قلت له ـ يصنعون كؤوسا فضية حقيقية لجمعيات وأندية متعددة "…باعتباره صديقا ورياضيا فقد وافق فورا حتى لا تضيع مني الكأس، فقط علي أن أؤدي ثمن المواد الأولية.
بعد أيام دعاني المشرف على النادي إلى حضور الحفل الذي سيقام على شرفي ! وطبعا علي أن أحمل معي الكأس كما طُلب مني ذلك. لم أجد بدا من تلبية الدعوة… بعد نزولي من سيارة الأجرة أمام بوابة النادي، سقطت مني الكأس، فتشققالغشاء الفضي من جهة القاعدة، وتكسرت شظية في مقدار سن طفل من الفوهة، كان المدير قد خرج رفقة مساعديه وجمع من جمهور المدينة للاحتفاء ببطلهم كمايقولون. لففت الكأس بقميص رياضي، رغم إلحاح البعض على حملها إلى أعلى…دخلت رفقة المدير إلى مكتبه، فأسررت له بواقعة سقوط الكأس، وما وقع لها من كسر بسيط.
تلمس المدير الكأس بأصابعه الغليظة، تقبل الأمر، ولم يبد أي رد فعل سلبي، قائلاإن ذلك لن ينقص شيئا من الكأس ومن قيمة التتويج، ومن بطولتي التي نلتهابجدارة حسب قوله.
لم أكن أعلم أن رئيس الجامعة سيحضر الحفل، أخبرني رئيس النادي بذلك، بعدماشدني من ذراعي وأزاحني جانبا قائلا:"اعلم أيها الفتى البطل، أن رئيسالجامعة سيشرفنا اليوم… وبما أنه لأول مرة سيحضر هنا، لن نجد أحسن وسيلةنشكره بها على ذلك، سوى تفضلك بتقديمك الكأس له، فبرأيي هو الذي يستحقها؛ بفضله وجد نادينا هذا، وبفضله يتكاثر الأبطال، وسيسر غاية السرور بهذه الالتفاتة منا جميعا."
عبرت توا عن سعادتي بذلك، ما دام أن الكأس بهذه العملية ستغادر النادي، وتسلممن التقليب اليومي للمدير، وهو بذلك قد يكتشف الحقيقة… حقيقة الكأس المزورة، وسيعتبر الأمر إهانة شخصية له، رغم أن الكأس كأسي نلتها تتويجا لمجهودي…
بعد هذا الحدث، فضلت مقاطعة النادي والمدير والرياضة معا، لأتفرغ لدراستي،وقد أنهيتها بنيل شهادة جامعية، لكنني لم أجد شغلا، فانخرطت في الحركةالاحتجاجية للمعطلين… لم أحصل على عمل فلائحة الانتظار طويلة.
هل أستسلم للعطالة ؟ هل كل الآخرين أمثالي يحصلون على شغل…؟ الكثيرونيدبرون أمرهم، على الأقل يوفرون ما يسد الرمق… مهدت هذه الاستنتاجات طريقها إلى قناعتي بفضل الاحتكاك المستمر بالنقابيين والصحافيين والمناضلين والحقوقيين…
كانت الاعتصامات طويلة وشاقة، ذقت فيها جرعات المرارة من ولائم القائمين علىالقمع… علي إذا أن أتصور شغلا، ثم أبحث عنه… طرقت عدة أبواب، أبتدع فيمخيلتي شغلا ،وأقترحه على المشغلين المحتملين … إلى أن فتحت لي إحدىالجرائد الوطنية أبوابها ، أصبحت متعاونا في مجال التصوير ، عالم آخر لم أكن أنتظره ، ولجته بكل حماس، تكلفت بتغطية ألأحداث الرياضية، مرة أخرى الأضواء والملاعب والضجيج ! انغمست في عملي بين الحشود، التقط الصور من هنا وهناك… لشغفي برياضتي السابقة، كنت ألح على حضور النهائيات التي تجري كل سنة في هذه المدينة أو تلك .
تقوت حيرتي ، وفقدت كل توازناتي الجسدية والنفسية وهدوئي الذي احرص عليه… لما توصلت إلى اكتشاف خطير، ذلك أن الكأس الرصاصية المشرومة توضع بين الكؤوس التي تسلم للفائزين … كل سنة أعاود الاقتراب منها، وقد صففت بعناية فوق طاولة ممتدة يغشيها دائما رداء أبيض!…
آخذ للكؤوس صورا حقيقية وأخرى مفتعلة، أقترب من الكأس المستنسخة، أكاد ألمسها… هل فعلا طعم الانتصار الرياضي فقد حلاوته ؟هل أعرف وحدوي هذا السر الغريب، أم يشاركني فيه آخرون من غير الرئيس وزبانيته…؟ ارتأيت أن أقوم ببحث لتجلية الحقيقة، راجعت لائحة الفائزين عبر السنوات التي تلت توقفي عن الممارسة، لاحظت أن أسماء الرياضيين الفائزين لا تتكرر لسنتين، بينما تتضخم سنة عن أخرى الأرقام المالية لتكاليف إجراء النهائيات بما فيها تقديم الكؤوس الفضية…!
دفعتني أهوال الاكتشاف إلى السفر نحو بلدتي.
أخرجت كأسي التي أحتفظ بها في خزانة بين الكتب، تحت رعاية جدتي، تفحصت الكأس نقرتها بمطرقة في جانبها السفلي، فتساقطت منها قشرة فضية كانت تخبيء الحقيقة الرصاصية للكأس، منذ ذلك اليوم صممت على دمج التصوير بالكتابة فيالصحف.
مصطفى لمودن
——————————————-
نشرت بجريدة" الصحيفة المغربية " عدد 80، بتاريخ 20ـ 12ـ 2006