الخميس، 15 نوفمبر 2007

أحكيها عليكم كالخرافة وفي الحكاية عِبر


   أحكيها عليكم كالخرافة وفي الحكاية عِبر                       
المعروف على الرصيف!                      
         حكايتان في واحدة، قاسمهما المشترك معروف اعترض سبيلي، وفرض نفسه علي فرضا.  
غالبا ما يعترض سبيلك متسول طالبا صدقة، أو يسعى إليك صاحب حاجة راجيا مساعدة، ولكن أن تتصادف بشكل مفاجئ بمن يمدك بشيء، هكذا بالمجان ودون مقابل، مادام المانح لا يعرفك، ولا ينتظر منك رد الجميل، فتلك حكاية جديرة بأن نتقاسمها كما يُقتسم الطعام في سفر طويل.
   في بداية صيف 2007  كنت بمراكش الحمراء التي قال فيها شاعرها المبدع محمد بن إبراهيم أروع شعره، وقد خاطبها في إحدى قصائده قائلا: «مراكش الحمراء فيك مسرتي / ولديك أحلام المنى تترقرق». سافرت إليها ليس من أجل السياحة، ولكن في مهمة نقابية امتدت على مساحة يومين.
  قبل شهور مضت، ثابرت على زيارة محلات سلع الجوطية، كنت جادا في البحث عن حذاء لابنتي، طبعا ليس كل المغاربة قادرين على اقتناء الجديد، والصغار يكبرون بسرعة، وتضيق عليهم الملابس والأحذية، وتصبح غير صالحة بعد وقت وجيز على شرائها، غلبا ما تكون تلك الملابس المستعملة المستوردة من الخارج بشق الأنفس عبر طرق التهريب السري من المتانة والجودة، ما تعجز عن مجاراته أغلب صناعتنا المحلية الموجهة للسوق الداخلي.
   بعاصمة النخيل، كنا في اجتماعاتنا المطولة، نتناول وجبة خفيفة بعين المكان ونستمر في الاشتغال داخل لجان، أو في جلسة عامة بإحدى قاعات العروض بمؤسسة تكوينية، ننتهي في حدود العاشرة ليلا، بعدها نحمل حقائبنا الخفيفة وملفاتنا ونتوجه لوسط المدينة حيث المبيت. لكن أغلبنا نحن القادمون من مختلف ربوع المغرب، نستغل فرصة التواجد بمراكش لإلقاء نظرة على «جامع الفنا» العجيب، ساحة واسعة تختلط فيها أقوام مختلفة، ميدان للفرجة والاستعراض، كرنفال يومي اُعتبر من التراث الإنساني الخالد من قبل اليونسكو؛ فلكلور، حلاقي (عروض شبه مسرحية)، مروضو حيوانات، ألعاب سحرية، مشعوذون… بجانب أنواع من المأكولات التي تعد وتقدم ساخنة في الهواء الطلق، الإقبال منقطع النظير، والساحة تشتغل طيلة اليوم، ليلا ونهارا.
   في مدينتي التي أقطنها كما في عدد من المدن والأسواق، يزدحم رواد الجوطية، الباحثون عن قطعة قماش ربما كان يلبسها نجم من أوربا، أو حذاء بين الأكوام لم يُسمح له بتقاعد مريح، ومازال قادرا على ستر قدم مغربية…حذاء ابنتي الذي أبحث عنه لا تتعدى قاعدته حجم الكف،
أجري وراء صنف يناسب فصل الشتاء، أقصد مختلف أماكن عرض السلع، أقلب الأكوام، أعزل… حينما أجد فردة استنجد بالبائع ليساعدني في البحث عن الأخرى، قد يجدها بسرعة، وقد لا يعثر عليها بدوره، فيتركني ويتوجه لمشتر آخر قد تنجح معه الصفقة.
 في جامع الفنا تثير شهيتك روائح الأغذية والأبخرة المتصاعدة منها، وعدد من المغاربة والسياح الأجانب يلتهمون الشهي منها، وهم جالسون على مقاعد رصفت حول مطعم الهواء الطلق، لو كنتَ شبعانا وقد خرجت لتوك من أفخم مطعم يسيل لعابك على مشهيات لا تتصادف معها دائما، فكيف لمن تناول «وجبة نضالية» جادت بها النقابة تسد الرمق فقط، لم أتمالك نفسي، وتناولت ما طاب وما استطعت تأدية مقابله حفاظا على ميزانية متدهورة أصلا.
   أخيرا وجدت الحذاء المناسب، الأمطار على الأبواب، وابنتي ما تزال تنتعل صندلا صيفيا خفيفا، ولا يمكن أن أسمح بتبلل قدميها الصغيرتين، أو أن تغمسهما في الوحل، أمدني البائع بالفردة الأخرى بعدما استنجد بأحد معاونيه. أقلبهما، لهما نفس المقاس المطلوب، مازالت جودتهما ظاهرة للعيان، رغم فقدانهما للمعانهما.
  مرة أخرى جذبتني المجموعات الغنائية بأصواتها الصادحة في فضاء جامع الفنا، عروض بالمجان، موسيقى شعبية طافحة بحرارة تعبيرية إنسانية، مغنون وعازفون شباب وشيوخ، يتنافسون عبر مجموعاتهم لاستقطاب الجمهور الذي بدأ يقل عدده مع الوقت، إلا من سياح مغاربة وأجانب يستهويهم الهزيع الأخير من الليل، من نفس مكانك الواقف فيه تستطيع متابعة ثلاث مجموعات غنائية في نفس الوقت، يكفيك فقط أن تدير بوجهك إلى الجهة التي تريد، محاولا تسليط قواك السمعية على مصدر غنائي دون آخر، أصوات متعددة ولكنها لا تصل إلى مستوى الضجيج… وقع لي إشباع فرجوي انتشيت له، لم أكن أنتظره، الساعة تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل، اشتقت إلى مقارعة كأس شاي في هذه الفترة، تحركت جهة بائعي الأطعمة والمشروبات المجمعين في مكان محدد من الساحة، جلست على أحد المقاعد الخشبية البسيطة، الأطعمة ما تزال تنتظر مشتر إلى حدود هذا الوقت، طلبت كأس شاي فجيء به على عجل.
   إنه الحذاء المناسب الذي أبحث عنه، والكأس المنعنع الذي اشتقت إليه، قال لي البائع، انظر جيدا هل هو ما تبحث عنه، أكدت له ذلك. نظرت إلى معدي ومقدمي الأطعمة، رأيتهم في شبه راحة يتمازحون فيما بينهم مغتبطين على عادة أهل مراكش، رشفت كأسي بتلذذ. قلت لبائع الأحذية كم الثمن؟ حملق في حتى ظننت أنه يريد تقييم وضعي الاجتماعي ومدخولي من خلال هيئتي، ليحدد الثمن كما يحلو له. قلت لمن أمدني بكأس الشاي، بكم هذا الكأس الرائع، وأنا لا أعرف الأثمنة في هذه المدينة السياحية، فليس المكان مقهى تعودت عليه، نظر إلي مبتسما.
    لعلكم تنتظرون معرفة الثمن؟ كلا الشخصين ألحا على منحي الحذاء والكأس بالمجان!
    نعم بالمجان.
    بائع الأحذية قال أن سيدة وضعته عنده ليمنحه لمن رغب فيه، وبائع الأطعمة قال أنه لا يأخذ ثمن كأس شاي.
 فهل أستحق معروفا في مثل هاتين الحالتين؟ هل أدرج ضمن دوي الحاجة؟
 كأس الشاي كنت قد استهلكته وانتهى أمره، ألححت على الرجل أن يأخذ المقابل، لكنه رفض بالمطلق، وقال إذا كنتَ ما تزال هنا يمكنك أن تتناول عندنا وجبة، لا يعتقد أحد أن الرجل ماكر أو داهية، لم يقل ذلك إلا بعد إلحاحي، وهو ليست له أية ضمانة في عودتي لو كان يقصد ذلك، قلت له للأسف هذه آخر ليلة لي بمراكش. أما عن قصة بائع الأحذية، فقد اعتذرت له بلطف عن تسلم الحذاء، لأن في مجتمعنا من هو أحق به مني ومن ابنتي، شكرته على صنيعه وعدم  طمعه في بيع منحة، من سيدة فاضلة لمحتاجين لا تعرفهم ولا تريد أن تعرفهم، طلبت منه أن يبلغها تحيتي. 
   لنحيي إذا كل من يقدم مساعدة لمحتاج.
  مصطفى لمودن