الاثنين، 24 ديسمبر 2007

قصة: عين على مهزلة


قصة:                                                       عين على مهزلة 
علم الجميع بالخبر، في السوق الأسبوعي، البراح بمكبر الصوت، لم يترك ممرا إلا وعبره، ولا جماعة من المتسوقين إلا ووقف أمامهم، وفوَهة بوقه تنقل الخبر عبْر الاتجاهات الأربع. المذياع يبثّ الإعلان قبل الأخبار وفي نهايتها، والتلفزة لا تنفك تذكر المشاهدين… وعلى جنبات الطرق والجدران ملصقات لامعة… تخبر بالمسابقة الوطنية للحرث بالجرارات، «التي ستقام هذه السنة بالجماعة القروية 512 س ـ بي 17، بمشاركة أجود الجرارات…» وتضيف بخط عريضولامع بأن وفدا رسميا رفيع المستوى سيعاين ذلك، ويُختم الحفل بتوزيع جوائزَ قيمةٍ على الفائزين
    عقد القائد اجتماعا موسعا، حضره كافة أعضاء مجلس الجماعة المنتخبون بما فيهم الرئيس، وكذلك كبير الفلاحين، ورئيس الطباخين، وشيخ البراحين، ومحضرو الراقصات… لأول مرة خاطبهم القائد بعبارات مهذبة: «عليكم أن تعلموا أنتوصلكم بالماء الصالح للشرب، وربط قراكم بالكهرباء أصبح ممكنا الآن، مادام مسؤولون كبار سيحضرون، ولكن عليكم بحسن استقبالهم، والسهر على إعداد حفل ضخم يدخل السرور والبهجة على جميع أعضاء الوفد… كل ذلك ستنقله التلفزة، وسيراه المسؤولون الذين لم يحضروا والعالم بأسره… وإن اختيار هذه الجماعة فيه تشريف لنا جميعا».
     انتشرت الأوامر في جميع القرى، علمت التربة والأشجار والغدير والشياه… كل ما أصبحت تسمعه الآذان وتحس به الكائنات الحية بكافة أنواعها، هو أن الواجب يقتضي تضافر الجهود لإقامة حفلة رائعة لم يظهر مثلُها على شاشة التلفزة من قبل .
      يصيح في الناس أحد براحي السلطة:«على كل واحد أن يساهم، قبل الحفل بما يُطلب منه، وأثناء الحفل حضوره ضروري ومؤكد… واعلموا أنه لولا هذا الحدث السعيد لما ذكرتكم التلفزة، ولما سويت الطريق من التربة المتراكمة، ولما رُشّت بالماء صباح مساء كما ترون، لهذا نريد أن نُخلّد هذه المناسبة بحفل كبير ورائع، عليكم كلكم أن تشاركوا، عيدان الغابة اقلعوها، زرابيكم المزركشة احضروها… الأكف للتصفيق، وألسنة نسائكم للزغاريد، وحتى لا أنسى عسل النحلإيتونا به، والخيول وسروجها المطرزة، والزرع المطمور أخرجوه… ». ويندفع في هستيرية ككل المسؤولين المحليين، يتعثر بتلابيبه، يدفع بيديه كل من يجده واقفا أمامه  لا يفعل شيئا.
      هبّتْ نسمةُ ريحٍ خفيفة، فاهتزت التربة والحجارة للخبر، حزنت الأشجار لفقدان أعْتَدِ أغصانها، نيران الأفرنة تلتهم كل شيء، تناقصت مياه الغدير المنساب، ولم تعدْ تصل إلى الحقول بالوفرة المعتادة، فقد فضل السؤولون رشّالطريق وميدان الفروسية، مستعملين حاويات مجلوبة لنفس الغرض، صاحت قُطعان الشياه متوجعةً، فَقدْ فقدَتْ مُكرهةً أسْمن الخرفان، وخَيّم الوُجوم على الكثير من الوجوه، رغم الأوامر الصّارمة التي تحث على الابتسامات العريضة.
        أُفيقت بنادق البارود من سُباتها العميق… وجيء بأطفال المدارس صفا صفا، أوْقفهمالمنظِّمون في الصفوف الأمامية، و أمروهم بالإنشاد دون توقف، لتعويض تغريد العصافير التي فزعت فهربت… ذاقت التربة والحجارة بُرادَة تساقطت من مطارقَ وأوتادٍ حديدية ذات بأس شديد، الأوتادُ تشدّ الخيام الضخمة، وقد ُنصبت على رَبْوَةٍ قبالة الطريق الرئيسية.
      اكتوت أنامل النسوة بأبخرة مُتصاعدة من الأفران وقصعات الكسكس الملتهبة… ذكر أحدالطباخين الخاصين المعتمَدين لهذه المناسبة أنه لا فائدة من الكسكس، إلا إذا كان سيأكله سائقو الجرارات ،أما أعضاء الوفد فيفضلون أشياء أخرى
    على مثن شاحنات حضرتْ منذ الصباح الباكر الجراراتُ الكثيرةُ العدد، المختلفةُ الأشكال والألوان، اصطفت بمحاذاة الطريق تنتظر إشارة الانطلاق.
      لما لاحت في الأفق قافلة الوفد الرسمي، أُمِرتْ جميعُ الفرق الموسيقية بالعزف والغناء دفعةً واحدة، اهتزت أرداف الراقصات، ارتفع الضجيج وقد حسبه البعض طربا، تراطمتْ حوافر الخيل  بالغبار وقدْ تطاير كثيفا رغم الرشّ بالماء، اختلط في الأجواء بدخان البارود والشواء… أُعدت الخرفان المشوية فوق أطباق عريضة، تتدلى على جنباتها ضفائر النعناع… ومازال الجمر ملتهبا في المواقد.
     حامل الكاميرا التلفزيونية يصور ويلوح بيده اليسرى للجمهور المتراصّ على جانبي الطريق، كي يقوم بحركات معينة توحي بالسرور والانشراح وحرارة الاستقبال… المذيع يكاد يلتهم الميكرفون، بفعل حركات فمه السريعة،  يجهد مخيلته لتحفيز براعته الوصفية، مطنبا في أوصاف المديح، والقافلة ما تزال تتلوى عبر منعرجات الطريق.
      أخيرا توقفت السيارات الفارهة، عيْنُ الكاميرا تمْسحُ بحركة بطيئة مرة الجماهير المتراصة، ومرة  تتمسّحُ بالوفد القادم ككلبة مطواعة.
      ترجّل الضيوف، توجهوا نحو الجرارات المتأهبة، القرويون يلحظون باندهاش الأناقةالمفرطة، والأوداج المنتفخة، والمشيات المتمايلة… وقد هالهم أن يروا زرابيهم تُعفس في الخلاء بأحذية متعجرفة…
      تقدم رئيس الوفد، أعطى إشارة البدْء، تحركت الجرارات وهي متباعدة عن بعضها فياتجاه واحد، بينما رسم كبير الفلاحين ابتسامة عريضة، وهو يرى حقولَهُ وحدها تُقْلب بأعْتا الجرارات… بعدما سلّم على رئيس الوفد وبعض مرافقيه، وقف أمام الكاميرا يشرح عمليات الزراعة، ويُبرز الرّخاء الذي تنعم فيه البوادي‼ ويُثني على رئيس الوفد.
    قصدتْ جماعةٌ من السّكان أحد البراحين يستفسرونه عن سبب إجراء المسابقة في هذاالحقل فقط، ردّ عليهم بأن ذلك يرجع لضيْق الوقت، واستعجال الوفد لتناول طعام الغذاء، مادامت تنتظرهم رحلة قنص في الهضاب المجاورة .
     احتج السكان على عدم توزيع الجرارات على حقول مختلفة، حتى تعمّ الجميعَ فائدةُ قلب الأرض بجرارات قوية لم يروا مثلها من قبل… لم يأْبه أي مسؤول للاحتجاجات الشفوية، تأججت النفوس، تضخمت الأرجل والأذرع، قفزت الحواجز، اختلط الحرث بالرفس، والصياح بالشتم، والركل بالتدافع… أدْخلَ المصور على عجلٍ الكاميرا إلى صندوقها، وفرّ هاربا على مَتْن سيارة المصلحة يُرافقه المذيع
             مصطفى لمودن

   ـ سيدي سليمان 1994

نشرت بجريدة"اليسار الموحد" عدد33 بتاريخ 30 يناير 2004  
في كل شهر سأحاول إدراج قصة مما تراكم لدي، أغلبه نشر بصحف وطنية، ونظرا لصعوبة النشر ضمن "مجموعة قصصية" نكتفي الآن بالواجهة الفضية، عبر الشبكة…كما أننا ننتظر مساهمة القراء للنشر… 
  ننتظر بكل ترحيب مساهمات القراء وأرائهم