يخوض الشعب المغربي صراعا غير مسبوق من أجل التغيير الذي تكثف مرحليا في الإلحاح على دستور ديمقراطي إعدادا ومضمونا، ويعود الفضل في هذا الحراك السياسي على المستوى الوطني لحركة 20 فبراير من جهة، وما تعرفه المنطقة العربية من ثورات سياسية من جهة أخرى.
أهم ميزة اتسمت بها هذه المرحلة هي دخول الشباب حلبة الصراع السياسي كفاعل أساسي، بعد عقود من تغييبه بكل الوسائل التي تمتلكها الدولة تحت شعار مخادع ومضلل "العزوف السياسي للشباب"، حيث أبان عن قدرات هائلة في التحريض والتعبئة والتنظيم لعموم الجماهير والنفس الطويل والذي أنتج على المستوى الإقليمي إسقاط أنظمة ديكتاتورية ( تونس، مصر) واستمرار المقاومة في كل من (ليبيا، سوريا، اليمن، البحرين… ).
المغرب هو الأخر لم يخرج عن هذا النطاق، وما الإصرار على التظاهر رغم مخاطر القمع وحملات التضليل والتمسك بالتغيير الشامل للدستور بكل أبعاده سوى دلالة على عمق الوعي السياسي، فلأول مرة ترفع الجماهير المغربية بهذه الكثافة شعارات من قبيل:
- الشعب يريد إسقاط الفساد / البوليس الإعلامي.
- الشعب يرفض دستور العبيد/ الشعب يريد دستورا جديد.
- المطالبة بفصل السلطة عن المال.
- المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين.
- المطالبة بالملكية البرلمانية.
- المطالبة بدسترة الحقوق اللغوية والثقافية.
- الدستور الممنوح في الزبالة يبقى مليوح…
كل هذه الشعارات ساهمت في تأطير المرحلة بشكل صحيح وجعلتها تتجاوز مستوى الإصلاح الدستوري، إلى التغيير الشامل لجميع بنيات النظام السياسي، فكيف تفاعل الحكم مع هذه المطالب؟
إن هذه الدينامية لا يمكن القفز عليها وتجاهلها فقد فرضت على نظام الحكم أن يتعاطى معها بشكل من الأشكال، وما خطاب 9 مارس سوى إحدى هذه التجليات الذي حاول من خلاله أن يطوق حالة المد هذه وأن يقدم على مستوى الشكل ما يوهم بالاستجابة لمطالب الشعب، فتحدث الخطاب عن تعديل دستوري شامل، بعد إعادة النظر في تشكلة وتسمية المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ليتحول إلى المجلس الوطني لحقوق الإنسان، باختصاصات "أوسع" وبـ"استقلال" نسبي عن القصر، وتشكيل مؤسسة الوسيط لأول مرة في المغرب والتي ألغت ديوان المظالم.
الجديد في الخطاب أنه حدد معالم الإصلاح التي ترتكز على ما سماه الثوابت الخمس التي قدمها باعتبارها ثوابت للأمة، وهذا ما طرح سؤال مشروعية هذه الثوابت، ومن أين استمدتها؟
من جهة المراجعة الدستورية فهي قد استندت إلى الفصل 103 من الدستور الحالي، والتي يقيد مضمونها أحكام الفصل 106، حينما أشار إلى مجالات الحضر المرتبطة بالنظام الملكي والدين الإسلامي، وقد تم تزكية هذه المجالات في خطاب 9 مارس مضافا إليها كل من إمارة المؤمنين والوحدة الترابية، والخيار الديمقراطي كثوابت للأمة.
هذه العناصر تعد حسب المرجعية المخزنية بمثابة منطلقات أي إصلاح ستسمح به في هذه المرحلة، فباستثناء الخيار الديمقراطي والذي يعد عنصرا جديدا في الخطاب السياسي للحكم على المستوى الدستوري، باقي العناصر تعد محل نقاش خاصة عنصر إمارة المؤمنين الذي يكرسه الفصل 19 من الدستور.
الأسئلة التي أثارها الخطاب.
أشار الخطاب إلى تشكيل لجنة بمراجعة الدستور من قبل المؤسسة الملكية باعتبارها الجهة المحتكرة للسلطة التأسيسية بعيدا عن الأسس والمعايير الديمقراطية لوضع وتعديل الدستور، وقد طرح على هذا المستوى سؤال مشروعية هذه اللجنة، أي من أين تستمد سلطتها للقيام بمراجعة هذا الدستور؟ ومن هي الجهة التي تمثلها هذه اللجنة؟ الشعب؟ أم الملك؟
إن سؤال الإصلاح الدستوري يطرح دوما لدى المتتبعين تحديد مجالات السلط، من يحتكر السلطة السياسية: الشعب أم جهات أخرى فوق الشعب؟ وسؤال الملكية في المغرب مازال محط تساؤل في علاقته بباقي المؤسسات السياسية والدستورية المنبثقة عن الدستور المراد مراجعته.
إن أي متتبع لأي نظام سياسي يمكنه أن يعود إلى طريقة وضع دستوره وطريقة مراجعته ليتسنى له تصنيف طبيعة النظام السياسي، أهو ديمقراطي أم أنه يمكن أن يكون أي شيء آخر إلا أن يكون ديمقراطيا؟!
في المغرب السلطة التأسيسية الأصلية والفرعية لوضع وتعديل الدستور في يد الملك ومنه ينطلق التشريع الدستوري ودونه بناء على المصالح السياسية التي يؤمن بها، لا التي يرتضيها الشعب أو يطالب بها؛ وهذا راجع إلى موازين القوى التي يحتكم إليها. ومن خلال هذه الصورة يمكن أن نضع توقعا أوليا لطبيعة الإصلاح الدستوري المقبل، والذي لن يخرج عن طابع المنحة، يعترف فيه للشعب ببعض الحقوق على أساس أن تظل مكانته سامية، ما يجعل جميع المؤسسات تحت إشرافه وتتبعه كما هو معمول به في ظل الدستور الحالي.
معالم الإصلاح أو التغيير في ظل دستور يحتفظ بالفصل التاسع عشر.
ينص الفصل التاسع عشر على أن " الملك أمير للمؤمنين، والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها، وضامن دوام الدولة واستمرارها، وحامي حمى الدين، والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات، وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة".
لا شك أن كل وثيقة دستورية وقت وضعها تجسد الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة في الدولة وتعكس مستوى ميزان القوى السياسي، وتبعا لذلك التجسيد يتم تنظيم السلطات وتحديد الاختصاصات وتقرير الجهة التي لها السمو.
فعلى سبيل المثال نجد المادة 5 من دستور الجمهورية الخامسة الفرنسية تعرف هي الأخرى أحكاما كالأحكام الواردة في الفصل التاسع عشر مع بعض الفروقات، فرئيس الجمهورية في فرنسا منتخب على خلاف النظام الملكي الذي يعتمد على مبدأ التوريث. في إسبانيا المادة 56 فقرة أولى تعتبر الملك رئيس الدولة ورمز وحدتها ودوامها، ويمارس التحكيم ويسهر على السير العادي لوظيفة المؤسسات، والتمثيل الأسمى للدولة في العلاقات الخارجية، لكن في الدستور الاسباني في نفس المادة الملك يمارس الاختصاصات المخولة له بأحكام الدستور والقوانين، ليس الدستور وحده هو من يحدد مجال اختصاصات الملك بل القانون بما هو تعبير عن إرادة الدولة عبر مؤسساتها المنتخبة، ويعمل على تحديد مجال اختصاص الملك.
أما في المغرب فالوثيقة الدستورية جسدت النظرية السياسية لمفهوم الحكم كما بينها فقهاء أهل السنة والجماعة حسب تعبير الأستاذ مصطفى قلوش، حيث يعتبر متولي سدة الإمامة العظمى رئيسا للدولة، يمارس مهاما واختصاصات فعلية، وهو ما جعل الملك ينفرد في إطار أحكام الدستور الحالي باختيار وتعيين الوزير الأول وباقي الوزراء وإعفائهم، وإصدار الأمر بتنفيذ القانون، ومخاطبة البرلمان وحل مجلسيه أو أحدهما، وتوقيع المعاهدات وممارسة حق العفو، وإعلان حالة الاستثناء، وممارسة كل من الوظيفة التشريعية والرقابية والتنفيذية وقتما شاء خارج أي رقابة شعبية أو مؤسساتية، وتتمتع قراراته بحصانة قضائية حيث لا تقبل أي طريق من طرق الطعن القضائي خاصة الطعن المبني على الشطط في استعمال السلطة، أو المطالبة بالتعويض عن الضرر الذي قد تتسبب فيه قراراته للمواطنين.
إن صياغة هذا الفصل واستعمالاته تجمع بين مجالين لا يلتقيان في ظل دستور يمكن وصفه بالطابع الديمقراطي، لأنه يجمع بين مجال القداسة ومجال السلطة، لتشكلا معا وحدة بنيوية لا يمكن أن يتم قبولها إلا في إطار نظام ثيوقراطي استبدادي يمارس فيها الحاكم السلطة بقبضة القداسة، وقد صرح الملك الحسن الثاني في خطابه في 20 غشت 1992، والذي اعتبر فيه أنه كأمير المؤمنين يعد بمثابة العالم الراسخ في أمور الدين كما أنه يعلم أين يجب الاجتهاد في الدين وأين لا يجب.
إن الحديث عن دستور ديمقراطي في ظل هذا الفهم لصلاحيات الملك وفي ظل دستور من قبيل الفصل التاسع عشر وباقي الفصول المرتبطة بصلاحيات الملك مجرد عبث سياسي لا غير.
هيمنة المؤسسة الملكية والتعاطي الحزبي من خلال بعض المذكرات.
باستثناء كل من النهج الديمقراطي وحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي اللذان طالبا بإلغاء الفصل التاسع عشر، باقي الأحزاب "اليسارية" حافظت على هذا الفصل، إلا أن بعضها حاول التخفيف من حمولته السياسية وانعكاساته الدستورية على باقي المؤسسات الدستورية، محاولة تتغيا تقييد ومحاصرة هذا الفصل المثير للكثير من الجدل، وقد حاولت مذكرة الاشتراكي الموحد تقسيم هذا الفصل إلى مواد، يشار في الأولى إلى كونه أي الملك:
- رئيس الدولة؛
- رمز دوام الدولة واستمرارها؛
- الممثل الأعلى للدولة في المحافل الدولية، يمارس جميع أنشطته الخارجية باقتراح أو موافقة من الحكومة؛
- الساهر على احترام الدستور، من خلال تمكين المؤسسات المنتخبة من ممارسة كامل وظائفها؛
بينما تنص المادة الثانية على الإشراف الرمزي للملك على ممارسة المغاربة لشعائرهم باعتباره أمير المؤمنين كلقب يحمله لوحده، دون أي مس أو إخلال أو تدخل في سير المؤسسات والقوانين القائمة.
بينما المادة الثالثة يتم في إطارها تقييد ممارسة الملك لجميع وظائفه في حدود البنود المكتوبة للدستور.
إذن فباستثناء الأحزاب الثلاث فقد حافظت كل الأحزاب السياسية على هذا الفصل على مستوى مضمونه وحمولاته القانونية، بالرغم من رفع بعضها لمطلب الملكية البرلمانية لكن بعد إفراغه من محتواه.
فإذا عدنا لمضمون خطاب 9 مارس يمكن أن نستنتج استمرارية الحفاظ على مبدأ السمو الذي ستتمتع به المؤسسة الملكية في الدستور المقبل، فهو، أي الملك، سيعمل على تكريس هيمنته على جميع المجالات الدولتية، وهو ما سيفرغ مطلب الملكية البرلمانية التي رفعها الشارع المغربي بفضل حركة 20 فبراير من محتواها.
إن الإشكال قد لا يتمثل فقط في تكريس مبدأ سمو المؤسسة الملكية على المستوى الدستوري، بل يتجاوز ذلك إلى مبدأ شخصنة الدولة، فالعمال في الفصل 102 من الدستور يمثلون الدولة، ويعد الملك وفقا للفصل التاسع عشر الممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها بما هي أعم وأشمل من الدولة، وضامن دوام الدولة، كما أن العمال يتم تعيينهم من طرف الملك، ويحملون صفة عمال "صاحب الجلالة"، وهو ما يطرح سؤال شخصنة الدولة ضربا لكل مؤسساتها.
السؤال الذي يطرحه هذا الفصل، يتمثل في إمكانية تقييده أو محاصرته كما يقول البعض، لكن وانطلاقا والحمولات السياسية والثقافية التي يحملها هذا الفصل، لا يمكن تقييده ولا محاصرته إلا بإلغائه من المنظومة الدستورية ككل، فالجمع بين السلطة والقداسة يؤدي إلى أشد أساليب الاستبداد السياسي، ولا يمكن أن تتقبله الذهنية الديمقراطية للقرن الواحد والعشرين إلا بفعل القمع، وهو ما بات يتجسد عبر القمع الشرس للتظاهرات التي تدعو لها حركة 20 فبراير، ابتداء من النزهة المراد تنظيمها أمام مقر معتقل تمارة، والمسيرات المنظمة في 22 ماي على المستوى الوطني والتي تعرضت للقمع الهستيري لأجهزة القمع البوليسية، إلى سقوط عدد من شهداء الحركة في مناطق مختلفة من أنحاء الوطن.
عود على بدء
بالعودة إلى اللجنة المكلفة بمراجعة الدستور وسؤال مشروعيتها؟ ومن تمثل؟ وبناء على ما سلف، وبقراءة بسيطة لطريقة تشكيلها يمكننا أن نخرج بما يلي:
- هذه اللجنة تم تشكيلها من قبل الملك باستحضار المعايير التي حكمت قراءته للواقع.
- لأول مرة يتم تشكيل مثل هذه اللجنة من المغاربة، لكن عملها يغلب عليه الطابع التقني وأعضاؤها محافظون.
- هذه اللجنة تفتقد لبوصلة سياسية منبثقة من الإرادة الشعبية، وبوصلتها السياسية تتمثل في الخطب الملكية بما فيها خطاب 9 مارس كمرجع أساس لها.
- هذه اللجنة لا ترتكز على أي أساس ديمقراطي.
فمن خلال هذه الخصائص التي تتسم بها هذه اللجنة، ومن خلال مجالات الإصلاح المحددة سلفا باعتبارها كمرتكزات الإصلاح الدستوري الواردة في خطاب 9 مارس.
ومن خلال تصور المؤسسة الملكية لموقعها في هرمية النظام السياسي والدستوري المغربي، فإننا أمام دستور أقرب إلى إكرامية "يتفضل" فيه الملك و"يتكرم" بناء على خطابه "التاريخي" في 9 مارس بمنح "رعاياه الأوفياء" دستورا جديدا يكرس لاستمرارية هيمنة الحكم الفردي، مع إعادة النظر في نسبة % 99.99، حتى يتسنى له صناعة الوهم والتضليل على غالبية المواطنين.
ــــــــــــــــــــــــ نشر الموضوع بالاتفاق مع الكاتب