قصة:
الثعبان والبيض المسلوق
مهداة إلى جميع سكان قريتي… الذين هاجروا، والذين مازالوا صامدين يكابدون. وأي تطابق مع شخوص وأحداث من الواقع ليس محض صدفة…
كل سنة يعيشون نفس اللحظات المعادة، يصارعون قساوة الطبيعة، أحيانا تجود عليهم، فيهطل المطر مغيثا، يستبشر به سكان القرية جميعهم، يتبادلون بسببه التهاني فيما بينهم، تماما كما يفعلون عند حلول عيد من الأعياد، غير أنهم يتعرضون لتسلط أشخاص لا ينتمون مثلهم للقرى… يدعون أنهم مجرد منفذين للأوامر، ذريعة لا يتقبلها القرويون، كلهم سواسية في نظرهم، من المدير إلى القائم على البوابة، لا فرق… لكل واحد دور في إخراج المأساة التي تكرر نفسها بنَفس بيروقراطي أصيل.
مباشرة بعد جني المحاصيل الزراعية المبكرة، تبدأ الحملة انطلاقتها العلنية من السوق أولا… ينادي البراح متجولا بين الممرات، متنقلا من رحبة إلى أخرى… تصل الأوامر إلى كل بيت في البوادي:"الأداء، الأداء، والآجال محدودة…!"، يكفي أسبوع للشروع في التنفيذ…
لكل قرية أحداثها، الأبطال الضحايا هم السكان أنفسهم، والمخرجون الحقيقيون وراء الستائر لا يظهرون إلا عند الحاجة الماسة… الخشبة فضاء واسع، يشمل الحقول والوديان والشعاب والأسواق، وممرات الإدارات والدهاليز المظلمة…
أغلب السكان يعالجون الأمر بحزم خاص، هناك من يوفر مكرها، متخليا عن كثير من الضروريات، كبناء حجرة أو سقيفة، أو مؤجلا عقد قران زيجة… ليبيع المحاصيل وجزء من الماشية، يدفع دينه ويرتاح قليلا… وما أن يحل الخريف وتظهر بوادر القطرات المطرية الأولى حتى يدق بابهم من جديد.
يقول المدير:"هناك من يحتمي بالهروب واللف، هؤلاء يجب إلقاء القبض عليهم، والضغط عليهم إلى أن يؤدوا…"
تبدأ الحكاية باستدعاء جميع الفلاحين، يُجمعون في مراكز خاصة، تؤثث جوانبها بآليات متنوعة، وصور مستوردة مبهرة عن حقول فاتنة ..!! يخطب فيهم مسؤولون عديدون، لا يفهم الفلاحون إلا جزء يسيرا من عباراتهم المخلوطة بلغة أجنبية! يميزهم الفلاحون بألوان ربطات أعناقهم واتساع صلعاتهم أو ضيقها، يبدو للفلاحين أنهم يحدثونهم عن مزايا الحرث المبكر، واستعمال البذور المختارة والأسمدة المُخصبة…" كل ذلك متوفر وما عليكم سوى التوقيع، وعندنا لكم مفاجئات أخرى مغرية، مبالغ إضافية من أجل الحرث والتنقية واقتناء المبيدات…"، بذلك ختم الذي يبدو أنه رئيسهم.
يعيدونهم بمحاصيل وافرة، وسهولة في الأداء تمتد على سنوات عديدة… كل الأثمنة مرتفعة، والفوائد جد عالية، تتراكم الديون، وغالبا ما يؤدي الأبناء ما اقترضه الآباء في حياتهم منذ زمن غير يسير، يرث الأبناء القروض! تماما كما وقع لأحمد.
دائما على أهبة الاستعداد حتى لا يقع في أيديهم، يوصي جميع أفراد الأسرة أن يجيبوا ـ حين السؤال عنه ـ بأنه مسافر ولو كان بالمنزل… يأمر ابنه سليمان أن يراقب باستمرار الطريق، ويخبره إن رأى حديدا قادما إلى القرية، كي يتدبر أمر اختبائه. رغم كل الاحتياطات يأتون على حين غرة، ويعودون بمن وقع في أيديهم… مرة حينما مروا بجوار منزل الفاطمي، خاطبهم ابنه إبراهيم من فوق الزبالة قائلا:"هل تريدون أبي؟"
أجاب أحدهم على الفور:"نعم، أين هو يا ولدي؟"
رد الصبي ببراءة:"إنه تحت كومة التبن"
أخرجوه، أخذوه من قفاه، وساقوه أمام أنظار أبنائه والعيون المتخفية المطلة من الكوات وشقوق الأبواب والنوافذ… أودعوه سيارتهم الرمادية، ولم يخلفوا غير الغبار المتناثر على وجوه الأطفال الصغار الذين تجمعوا يتفرجون على المشهد.
لن يذهب أحمد إلى السوق، عادة أسبوعية لا أحد كان يقوى على منعه من تكرارها، تعكر الجو لدى الزوجة والأبناء والأب ـ في قرارة نفسه ـ كيف سيقضون أسبوعا دون خضر؟ تقول الزوجة، وإن كانت غالبا لا تكفي سوى ليومين أو ثلاثة، واللحم؟ هل ستكون ليلة السوق بعشاء ليس فيه لحم؟
الأخبار القادمة من السوق، تؤكد إلقاء القبض على الكثيرين ممن سقطوا في شراكهم.
حل أحمد عند بعض أقاربه بالمدينة، دق أبوابهم مستعطفا عساهم يقرضونه شيئا بينما تلقت الأسرة الإنذار الأخير في الورقة الحمراء هذه المرة مرفقا بالتهديد والوعيد…
لما تعود عائشة مساء، تجلب الماء من الغدير، تنجز بسرعة الأشغال الضرورية، تعشي الأطفال، ثم تعد الطعام لليوم الموالي، وتهيئ كل ما سيحملونه معهم إلى ملجئهم في الحقول هروبا من الغارات المفاجئة… إذ أن القابضين يقدمون على حين غرة وفي أي وقت، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، بحثا عن أقارب الدائنين، لاحتجازهم كرهائن إلى حين تقديم رب الأسرة لنفسه.
توقظ الأطفال باكرا، تجرهم وراءها وتسوق البقرة والعجل تفاديا لخطر حجزهما، لترعى الجميع في الحقول.
عاد أحمد من المدينة خائبا، لم يقرضه أحد، لكل واحد معاذيره، يحس أن كماشة غادرة تكاد تضم فكيها المسننين على ضلوعه… في المساء تحلق حوله أفراد أسرته الصغيرة، الأفواه منفرجة، والآذان مصغية…عائشة تعلم مقدار حزنه وضيقه، لا تتكلم…
يشد رأسه بكفيه، على ضوء باهت من مصباح بترولي محمّم يحملق في الحصير، تترأى له العويدات المنسوجة كالأمواج المتلاطمة، وهو وسطها يائس من النجاة، هل تتدخل قوة خارقة لتحل المشكل؟ تساءل مع نفسه، حتى لا يبدو عاجزا أمام الأطفال خاطبهم:"لقد كان المحصول ضعيفا هذه السنة "، وكمن وجد حبل نجاة أو لوحا تتقاذفه الأمواج، رفع رأسه، نظر إليهم واحدا واحدا، التقت النظرات، عض شفته، شد من عزيمته، وتصور نفسه قائد كتيبة يتفقد مستوى الاستعداد لدى جنده، وضع يده على كتف سليمان، وخاطب عائشة:" أعط البقرة تبنا وافرا مخلوطا بالشعير هذه الليلة " وقال لسليمان الولد البكر:"وأنت استعد لنذهب باكرا إلى السوق"، وبصوت أعلى خاطبهم جميعا:"سنبيع البقرة، ونكري الأرض لمدة خمس سنوات، لندفع ما علينا من دين ".
يشد على كيانه بقوة حتى لا تغرورق جفنتاه بأية قطرة دمع، تدخلت عائشة:"كيف؟ والحليب؟ هل تريد أن نبقى بلا كسب ؟ وكيف تكري الأرض لمدة طويلة؟ بماذا سنعيش.."، قاطعها:"هل ننتظر ليقبض علي وأغيّب عن الأبناء، لتبقى أمامك البقرة؟ ثم يأتون ليبيعونها بأبخس ثمن، ويحتجزون الأرض؟"، سكت قليلا تم أضاف :"لن نبيع العجل الآن ". لم تجب، فقط احمرت عيناها وأسالتا دمعتين ساخنتين.
عند أول تهليلة ربط حبلا إلى رأس البقرة وجرها، سليمان في الخلف، تسللا في غبش الفجر، الكلاب تتنابح، وبيوت القرية ما تزال غارقة في سباتها، يلفها ضباب خفيف…
عليهما أن يقطعا طريقا طويلة متعرجة بين التلال والشعاب، وصولا إلى السوق الذي يعقد فوق ربوة عالية، خاطب أحمد ابنه:"هل تحس بالبرد؟" أجاب سليمان بصوت رجولي نافيا ذلك، وهو يغالب ارتعاد مفاصله واصطكاك أسنانه، بين الفينة والأخرى يستحث أحدهما البقرة كي ترفع من وتيرة مشيها… لحظة توقف الأب عن المشي، أوقف البقرة، نادى على سليمان، أشار إليه أن ينظر إلى ما بين قدميه المضمومتين، انحنى سليمان، ليجد كثلة صغيرة سوداء في حجم كرة الأطفال. "خد ـ قال الأب ـ احمله إنه قنفذ" لم يستغرب سليمان للأمر، فقد تعود صيد القنافذ ليلا رفقة أبيه.
ضجيج السوق يصم الآذان، لغط السماسرة، والتجار، والجزارين القادمين من المدينة الباحثين عن الذبائح السمينة… تتساقط لغة التخاطب المختلفة متسارعة على أذني سليمان، يحاول فك ألغاز معانيها… تنتشر أخبار القبض في هذا الصباح الباكر على من لم يرجعوا بعد ما اقترضوه، هم أو آباؤهم، وما تراكم من فوائد ومصاريف على أصل الدين.
باع أحمد البقرة، وتحصل ثمن كراء الأرض من أحد الأثرياء الحضريين، تعجل أداء ما يفترض بذمته، في المكتب الذي يفتح كل أسبوع لنفس الغرض أثناء فصل الصيف، «كيف يأتون إلى هنا حين قدوم موعد التسديد، بينما نحن من يذهب إليهم حتى المدينة حينما نريد الإستيدانة..؟"، هذا ما يردده القرويون فيما بينهم دون أن يجدوا جوابا شافيا.
تسوق أحمد الضروريات الملحة، وعاد الاثنان منهوكا القوة إلى القرية، تسلمت الزوجة القفة، علمت أنه أدى، ولن تلجأ مرة أخرى إلى الخلاء، أفرغت محتويات القفة، تناثرت الخضر، بدأت تعزل، رفعت صوتها بنبرة حادة:"أين اللحم؟»، رد أحمد:"إنه عند سليمان". فك سليمان ذراعيه المثنيتين على صدره، ليحل قبضته على قبعة الدوم، وهي تضم في تجويفها الصيد الثمين، ألقى القبعة فتدحرج القنفذ أرضا…
بعدما تعشى الجميع ونام الأطفال، همس أحمد لعائشة:"لا يمكن أن نحتفظ بالعجل، أبدت استغرابا، اقتربت منه أكثر، أضاف":" لأننا سنرحل إلى المدينة، هناك سأبحث عن شغل، هناك سنعيش في كرامة كالآخرين… واسترسل يمنيها بحياة رغيدة في المدينة حتى تقتنع.
ــــــــــــــ
نشرت بجريدة "العلم" عدد 20083، بتاريخ 22 ماي 2005
في كل شهر سأحاول إدراج قصة مما تراكم لدي، أغلبه نشر بصحف وطنية، ونظرا لصعوبة النشر ضمن "مجموعة قصصية" نكتفي الآن بالواجهة الفضية، عبر الشبكة…كما أننا ننتظر مساهمة القراء للنشر…