البكاء خلف الميت..!
الكوارث بالمغرب تذكير بمخاطر تهدده
مصطفى لمودن
حلت بمنطقة الغرب نكبة تاريخية، ستظل في الذاكرة إلى عقود خاصة بالنسبة لمن عاشها و”اكتوى” ببرودتها، كانت البداية بسيدي سليمان ليلة الثلاثاء وصباح الأربعاء 3/4 فبراير 2009 ، لتعم بعد ذلك مناطق واسعة… إنها الفيضانات التي بلغت ذروتها يومي الجمعة والسبت 6 و7 من نفس الشهر. اكتسحت مياه هادرة سهولا بقراها، فحطمت بيوتا وجرفت مزروعات وقتلت مواشي وأثارت رعبا وفزعا بين سكان كانوا مطمئنين ( بما في ذلك الجهات الرسمية) إلى القدرة الخارقة لسدود اعتبرت دائما صمام أمن وأمان ضد كوارث مماثلة! منذ أن تنبه الحسن الثاني إلى أن هناك على الأقل ثلاث مخاطر تهدد مملكته، هي الفيضانات والجوع والمعارضة السابقة…
كانت سياسة بناء السدود على الأنهار أحد اهتمامات المخزن في عهد الحسن الثاني الذي لم يخف ولعه بالفلاحة كما كان يذكر في استجواباته، وتشبيهه للسياسة بالفلاحة وانتظار نضج الثمار لجنيها، وقد أضاف يوما أنه لو كان في الحكم والسياسة تقاعد لاختار الفلاحة كعمل بعد تقاعده… وربما لهذا السبب ظل الفلاحون الكبار يستفيدون من عطف الملك الراحل على مهنتهم، فبقوا معفيين من الضرائب، ويمدَّد لهم في ذلك على رأس كل خمسة عشر سنة، آخرها إلى 2013، ويُغضّ الطرف عن كل تجاوزاتهم في منح أجور مناسبة للعمال الزراعيين وحفاظهم في ذلك على ما يشبه علاقة العبيد بالإقطاعي/ الفيودالي، ويمكنهم تصدير منتوجاتهم وجني الملايير دون أن يدفعوا درهما ضريبة، أو على الأقل أن يساهموا في “التنمية ” على مستوى الجماعات التي تحضن ممتلكاتهم، مادام أغلب الفلاحيين الكبار يسكنون المراكز الحضرية الكبرى… إلا أن استفحل الأمر وتعاظمت متطلبات سير المرافق العمومية، فأعطيت الأوامر مؤخرا لوضع حد لذلك في أمد منظور، عوض تطبيقه حالا حتى يتحول العالم القروي إلى مجال للإنتاج الحقيقي، وتصبح الأرض الزراعية مساهمة فعلية في الاقتصاد.
سياسة بناء السدود تطلبت من الشعب المغربي مجهودا ضخما، وكل مرة كانت هناك طريقة لجمع المال لذلك، فقد كان مبرر تشييد سد في منطقة قصر السوق (الرشيدية حاليا) دافعا للزيادة في ثمن السكر، في وقت كان فيه المغاربة ينتظرون توزيع عائدات الفوسفات عليهم بعد نيل “الاستقلال”! وكانت السدود قميص عثمان الذي يخبئ تبذير الأموال المحصلة من الديون التي تراكمت على المغرب إلى أن أشرف على “السكتة القلبية”، ولجوءه لسياسة “التقويم الهيكلي” التي فرضت تقشفا على الطبقات الفقير ورفعت الدولة يدها عن تقديم خدمات للمواطنين، مما أنتج أجيالا مشوهة تجد ملاذها في المخدرات والابتعاد عن الشأن العام والحلم ب”الهروب الأكبر” إلى الخارج ولو على متن قوارب الموت.
في مجال السدود كان قد أمر الراحل الحسن الثاني بأن يكون في كل “عام سد”، وقد أبانت السدود عن فائدتها إلى درجة منح المغرب في شخص الملك الراحل جائزة دولية على ذلك، لكن الفيضانات الأخيرة تطرح فعالية هذه السدود عند كثرة التساقطات المطرية، خاصة أمام امتلاء حقينتها بالطمي والأوحال…
ما كان يخيف المخزن هو انتشار الجوع بين الرعية وفقدان الناس للخبز، وقلة من يتذكرون سنوات المجاعة التي كانت تحل بالمغرب، كما وقع أثناء الحرب العالمية الثانية، زمن “البون” و” الكرنينة”… وفي بداية الثمانينات من القرن الماضي عندما حلت بين ظهرانينا “دورة الجفاف”…فالجوع يجعل البعض يستبيح كل شيء، بيع الممتلكات بثمن زهيد، قد تكون هكتارات أرض مقابل حفنة شعير كما يحكي الأجداد، أو الهروب من البلد والكفر به والاستعداد لتقبل احتضان أي شيء ولو وعْدًا بالسراب، لهذا حاول المسؤولون ألا تتكرر مناظر الصف الطويل على محلات بيع الدقيق… أما “خطر المعارضة السابقة”، فقد سجل التاريخ فصول “الحرب” التي كانت سجالا بين عدة أطراف، تدخل في صراع مباشر أحيانا، أوفي فترة “هدنة” كانت تسبق العاصفة، وكانت دائما مراهنة كل الأطراف على مواطنين غير مسيسين أصلا أو يراد لهم أن يكونوا كذلك، تؤثر فيهم عوامل وظروف مرحلية تستغل أبسط هفوة من الخصم، كترك الناس تموت جوعا…وخفتَ مع الوقت شد الحبل بدون غالب ولا مغلوب (بحيث لم ينقرض أي طرف) مع ميل الكفة قليلا لصالح الملك الراحل الحسن الثاني على مستوى التحكم في دواليب الدولة، لكن من إيجابيات ذلك تجدر تعدد حزبي ونقابي حقيقي في المغرب منذ أزيد من نصف قرن، وأصبح ذلك مكسبا لا يمكن لأحد القفز عليه، بخلاف دول مماثلة.
عندما تحل كارثة بالمغرب كالفيضان أو الزلزال يتذكر البعض النكبات التاريخية التي حصلت بالمغرب، وهي كثير ومتنوعة، لعل أهمها حصول ضعف بيّن أمام الجيران الأوربيين في الشمال، والذين كانوا يخطبون ودّ المغرب، ويعقدون معه المعاهدات ويبعثون برسلهم وسفرائهم محملين بالهدايا إلى فاس العاصمة أو غيرها، فكان المغرب محل تقدير واحترام على الأقل منذ معركة”وادي المخازن” الشهيرة في غشت 1578 والتي دحر فيها أقوى دولة آنذاك في أوربا، كانت تخطط لمد استعماري سابق لأوانه وهي البرتغال… كان المغرب مهاب الجانب إلى أن اكتشف هوانه في معركة إيسلي الشهيرة بدورها، والتي دارت بين الجيش الفرنسي المنظم والحديث والجيش المغربي الذي كان ما يزال يعتمد على نظم وأسلحة قديمة، وذلك في عشت 1844، وبذلك دخل المغرب في دوامة خطيرة ملخصها تعرضه للأطماع الأجنبية، واحتلاله بشكل رسمي في الثالث من مارس سنة 1912 إثر توقيع “معاهدة الحماية”، والتي لم تكن سوى ذريعة للاستعمار وفرض استيطان فرنسي وإسباني في المغرب، إلى 2 مارس 1956 تاريخ توقيع اتفاقية جلاء المستعمر الفرنسي.
لا ينظر إلى أي نكبة كيفما كانت بشكل مجرد عن كل ما هو سياسي وتاريخي واجتماعي وثقافي… إن لكل نكبة تكلفة على مستوى محاسبة المسؤولين عن كل تهاون أو إساءة، لا يمكن إغفال الحراك الاجتماعي والسياسي الذي يقع أثناء النكبات وبعدها، لقد تتغير عقليات كان من المستحيل أن تتحرك من مستنقع “مسلمات” متوارثة، قد تتبدل مفاهيم وولاءات، النكبات تعري واقع ممارسة الحاكمين تجاه شعوبهم، وتبين واقع الحال، إما بؤس يعشش ونقص في التجهيز والإمكانات المرصودة للإغاثة والتقليل من مخلفات أي نكبة أو كارثة، أو أن يترك المواطنون لمصائرهم…
تعاملت الدولة بحذر شديد مع نكبة فيضانات الغرب، لم يزر أي مسؤول حكومي المنكوبين في محلات إقامتهم، ببساطة لأنه لا يملك جوابا شافيا عن نكبتهم، ولا حلولا عاجلة لمشاكل هيكلية متفاقمة… فعلا حل وزير الداخلية بالمنطقة مع مسؤولين آخرين، لكن فظل المتابعة عن بعد… وحال كثير من القرى يعري واقعا مزريا ابتداء من شكل البناء الطيني الذي لم يعد موجودا في كثير من الدول التي لها نفس ظروفنا وإمكانياتنا كتركيا مثلا، وأفضَلُ تشبيها بلبنان حول ظروف السكن والسكنى، فأثناء حرب 2006 التي نقلت تلفزيونيا لم ير العالم أي بيت طيني في جنوب هذا البلد الذي يعاني اقتصاديا منذ عقود، ورغم ذلك يسكن مواطنوه في بيوت مناسبة للعصر، نفس التسؤلات يمكن أن تطرح كذلك حول الجدوى من تفريخ العمالات والجماعات المحلية والغرف المهنية (المنتخبة) بدون إبداع أو ميزانيات مهمة أو مساهمة فعلية وفعالة في التنمية والنهوض بأوضاع البؤساء…
”حسنات” يمكن تسجيلها من خلال الفيضانات، وهي ظهور مجتمع مدني بدأ يهتم بالشأن العام ويتنظم ويتحرك بعيدا عن وصاية المخزن، اهتمام وحضور إعلامي متنوع للمنطقة أثناء الفيضانات، بما فيه إعلام أجنبي، وحرية تحركه ومقابلته للناس بمحلاتهم دون رقابة، نزول الجيش لإنقاذ المواطنين ومساعدتهم… ولعل هذه النكبة ستكون دافعا للنهوض بالبوادي في المغرب عموما وتخلي المخزن عن اعتبار هذا المجال “احتياط بشري” خاص به، لن ينفع البكاء خلف الميت، بل بحث سبل علاجه ومداواته قبل انتقاله إلى الدار الآخرة وافتعال استدرار الدموع حزنا عليه.
—————
نشر بجريدة “الشعاع القاسمي“، العدد 21 ، مارس 2009، ضمن عمود اقترحت هيئة التحرير أن نشارك به في كل عدد