عاشوراء بين النار والماء
من قطرات الماء الرمزية إلى الرشق بالبيض
مصطفى لمودن
كيف تتحول عادات الشعوب وتخلق أخرى؟ كيف تصبح بعض التقاليد ممارسة متجذرة في بعض الأوساط؟ أسئلة كثيرة تتناسل من خلال ملاحظة ظواهر تنقرض وأخرى تتناسل… مناسبة هذا الحديث ما أصبحنا نلاحظه من سلوكات أقل ما توصف به أنها غريبة، وأقصى ما تنعث به أنها تسيب وفوضى، وبينهما مواقف تختلف من شخص لآخر في قراءة لهذه الظواهر.
هذه الأيام وبعد انتهاء مناسبة عاشوراء المعروفة لدى المغاربة، وقد يعتبرها البعض مناسبة "دينية" أخرى، هناك من يصوم يوم أو يومين بالمناسبة، وهناك من يعد لها عدة خاصة؛ ذبيحة غالبا ما تكون من الطيور الداجنة! هناك من يحرص على اقتناء الفواكه الجافة، والجميع يشتري لعبا للأطفال((sauf les déconnectés، وتسمع في الأوساط الشعبية التهاني بمبروك "العواشر" (مصطلح له قداسة يقال في المناسبات الدينية)، إنها مناسبة يستغلها كذلك التجار وباعة المناسبات لترويج سلع خاصة بمناسبة عاشوراء، بل حتى بعض الجماعات المحلية تستفيد عبر كراء محلات مؤقتة للتجارة في فضاءات عامة… في خلطة تجمع بين "المقدس" والأسطوري والاقتصادي والاجتماعي.. تنتهي بإشعال نار وسط هدوء الليل وسواده؛ تحمل النار عدة دلالات، تعني حرق مرحلة وبداية أخرى، تعني احتفالا مترسبا في اللاوعي الجمعي بعد نصر أو نجاح أو إحياء ذكرى أو مجرد الحصول على صيد ثمين.. تعني ترك فرصة للأطفال ـ مشعلي النار ـ لتجريب المخاطر والاستعداد لها، عبر القفز على النار والمرور وسطها. قد تعني إنارة قوية لمجال إنساني يعاني ظلمة وضيقا وحزنا دفينا، كما هو عليه حال الشيعة، وهم يحيون كل سنة مأساة قتل الحسين بن علي، حفيد الرسول (ص) ونجل فاطمة ابنته.
ليس هناك شك في أن بعض الممارسات الشيعية بقيت مستمرة في المجتمع المغربي، وقد دخل التشيع مع أولى الهجرات المشرقية إلى المغرب، ومن أبرز ذلك الدولة الإدريسية التي تأسست في نهاية القرن الثاني الهجري بالمغرب، فقد وصل المولى إدريس الأول إلى المغرب سنة 172 هجرية (788ميلادية)، فرارا من بطش الدولة العباسية، وبذلك أسس ما يمكن أن نطلق عليها وصف الدولة الشيعية بالمغرب(788 – 974م.)، كما عرف المغرب في بعض أطرافه إمارات شيعية في بعض الأحيان، مثل ما وقع مع الدولة "الأباضية" التي كان لها امتداد في شرق المغرب، وقد استمرت 120 سنة، بين منتصفي القرن الثاني والثالث الهجري… وعليه يمكن التأكيد على أن المجتمع المغربي لا تخلو منه بعض المظاهر المترسبة من "ظواهر" لها امتداد شيعي، رغم انمحاء هذا المذهب الديني من قبل الدول المتعاقبة على حكم المغرب، خاصة الدولة المرابطية ثم الموحدون… الذين فرضوا الدين الرسمي للدولة والذي لم يكن شيعيا.
لهذا استمر الاحتفاء ب"عاشوراء" لدى الأوساط الشعبية، دون الحديث عن معنى الرموز والدلالات التي تحملها عند الشيعة في مناطق أخرى من العالم الإسلامي؛ بما تعنيه من تذكر وتذكير بخلافات حادة دموية وقعت في التاريخ الإسلامي بين الطوائف المتصارعة فيما بينها، واندحار الشيعة والتنكيل بهم.
وبما أن الحياة مستمرة، ليس من طبيعة العقلاء الاستمرار في الحزن والتعبير عنه، تنتهي الذكرى فينتهي كل شيء له علاقة بالموضوع (نار ـ بكاء ـ عويل ـ شق الصدور وضربها… كما هو حاصل عند الشيعة) لينصرف الناس لشؤونهم. وهكذا كان الناس يصبحون في اليوم الثاني من عاشوراء على "يوم زمزم"؛ "زمزم" بئر في منطقة مكة، به ماء عذب زلال، وأكيد يحمل بدوره معنى روحيا لدى المسلمين واعتبارا دينيا كباقي الرموز والأماكن التي توجد في مكة والمدينة بالحجاز وغيره…
تعودنا ونحن صغار أن تجلب بعض النسوة (خاصة الجدات) ماء "جديدا" من مصدر الماء المتوفر في الصباح الباكر، ويقمن برش أماكن في البيت برشات خفيفة، ويحرصن على تسليط قطرات على كل أفراد الأسرة حتى من لا يزال في فراشه (خاصة الأطفال)، فالماء هنا له معنى الإطفاء، إطفاء حريق نار عاشوراء، إطفاء الغضب والحزن، لكنه ليس كأي ماء، فهو يحمل اسم "زمزم"، لهذا لا يتضايق أحد من ذلك، بل يتقبله بصدر رحب، ويتضاحك الأفراد ويتسلون لبعض الوقت داخل بيوتهم وليس في الشوارع والأزقة كما أصبح يقع بعد ذلك..
في يوم "زمزم" انطلاقا من نهاية السبعينيات تغير الأمر في المغرب، وأصبح هذا اليوم يعني إغراق المارة بالمياه، إفراغ أصطل على الناس وهم يتمشون في الشوارع، لا يستثنى من ذلك أحد، أكان رجلا أو امرأة، طفلا أو شيخا أو مسنا أو مريضا أو معافى… خاصة في الأحياء الشعبية.
لكن آخر صيحة وأخطرها لجأ لها الآن مراهقون طيلة أيام، وبعد عاشوراء، هو رشق المارة بالبيض! أمام المؤسسات التعليمية وفي الشوارع المتفرعة عنها، يقف "جيش" من الشباب والأطفال يضعون في أكفهم بيضا (منه المتعفن) يختارون ضحاياهم بعناية ليلطخوا رؤوسهم وملابسهم عبر ضربهم بالبيض، شاهدت كيف اعترض شاب فتاة في غفلة منها وأزاح سترة عن رأسها ليلطخ شعرها بحمولة بيضة تعني الكثير لفاقد غذاء يدفئ الجسد، أمام المؤسسات التعليمية بقايا قشور البيض وبقع داكنة بالشوارع، أطفال يتمشون في هرولة فزعين متخوفين عائدين إلى منازلهم، كما عاينت ذلك في مساء اليوم الثاني عن انقضاء "يوم زمزم"!… وقد حرصت على متابعة الظاهرة بالشارع.
فكيف وقع هذا التحول الغريب؟
يصعب وضع تفاسير لذلك، هذا يتطلب مجهودا من قبل عدة مؤسسات بحث، لعل أهمها ذات الاختصاص العلمي كعلم الاجتماع وعلم النفس..
هل هو استهانة بوضعية الآخرين وعدم احترامهم وإيذائهم تحت ذرائع واهية لا يتقبلها العقل والمنطق؟ هل الشباب "المقترف" لهذا الفعل الغريب يسعى للتعبير عن تواجده عن طريق عنف ـ غير منظم طبعا ـ مغلف بمسحة دينية يعتقد أنها تجيز له ذلك؟ هل ذلك "صرخة قوية" لرغبة في تواصل مفتقد خاصة بين الجنسين؟
الإشكالية المطروحة الآن هي كيف يمكن مواجهة الظاهرة؟ فهي تستمر لأيام، وتتحول إلى ابتزاز في بعض الأحيان، وتثير قلق الأسر وهي تتخوف على أبنائها من وقوع حوادث تصادم وتبادل للعنف…
هل يمكن معالجة هذه المعضلة عن طريق المؤسسات التربوية كالمدرسة والأسرة…؟ هل يجب أن يتدخل في الأمر "الجهاز الأمني" ليقع في شبه مطاردة غير مجدية بالشوارع (مطاردة الأشباح)؟ رغم أن حمايته للفئات الضعيفة ضرورية في هذه الحالة، كالأطفال الصغار والبنات… وأي دور للمؤسسات الدينية في الأمر كالمجالس العلمية؟…نسجل بكل أسف غياب مؤسسات للحوار المجتمعي في المغرب، وذلك راجع لتراكمات خاطئة كانت باستمرار تريد عزل المجتمع والتحكم فيه عن طريق مراقبته باستمرار ومنع فرص الحوار والنقاش، الآن يجب إعادة النظر في وسائل التنشئة الاجتماعية والتربوية ومناهجها (الأسرة، المدرسة ، الإعلام، المجتمع المدني…) لتناقش كل المواضيع المطروحة وتتاح الفرصة للجميع ليعبر عن وجهة نظره.
في الختام ندعو كل الشباب الذي يسيء للآخرين في هذه المناسبة التوقف عن ذلك والبحث عن وسائل أخرى للتعبير عن ذاته، ونفس الدعوة نواجهها لجميع الجهات المختصة بقضايا المجتمع لتوفر للشباب الفضاءات المطلوبة ليفجر طاقته الثقافية والفنية والرياضية… بعيدا عن التشنج والفوضى.