الأربعاء، 15 يناير 2014

عبد الله العروي: لم تكن لدي أبدا رؤية اندماجية للمغرب الكبير.. في حوار عن مجلة "زمان".

عبد الله العروي: لم تكن لدي أبدا رؤية اندماجية للمغرب الكبير، المغرب الكبير هو إمكانية بعيدة..
كان الحسن الثاني يتصرف بناء على حدسه
 

حوار شامل مع المفكر المغربي عبد الله العروي في هذا الحوار الذي أجراه الأساتذة مصطفى بوعزيز، المعطي منجب، وسليمان بنشيخ، لمجلة «زمان»، يتحدث المفكر والمؤرخ عبد الله العروي عن قضايا راهنةٍ: عن الملكية والإسلام السياسي وحركة 20 فبراير والمغرب الكبير.

  ـ كتابك «L’Histoire du Maghreb»، هل كان رد فعلٍ على تسمية شمال إفريقيا، التي أطلقها المؤرخ الفرنسي شارل أندري جوليان؟ من ناحية أخرى هل كانت رؤيتك للمغرب هي تلك الرؤية الفدرالية التي كان يحملها الطلبة المغاربيون في فرنسا، أم كانت رؤيةً اندماجيةً من قبيل تلك التي كانت سائدةً في القاهرة؟
ـ لإزالة كل التباس، أؤكد بأنه لو طلب مني اليوم كتابة تاريخ المغرب الكبير سأرفض، بل سأتحدث عن المغرب وحده، تاركاً للآخرين أن يتحدثوا عن بلدانهم. لماذا مثل هذا الاختيار اليوم؟ لأن فكرة إقامة مغرب عربي متحد، والرغبة في ذلك، والدعوة إلى إقامة الوحدة، كل هذا لا يثبت وجود مغرب عربي في الوقائع، ولا يجعل المغربي يتحدث عن الجزائر وتونس كما يمكن أن يتحدث عنهما جزائري أو تونسي. غالباً ما نخلط بين تجانس نخبة معينة وبين تجانس الشعوب. هذا صحيح بالنسبة إلى مناطق أخرى وليس بالنسبة إلى المغرب الكبير. انظروا إلى ما يحدث في أوروبا اليوم. الخطاب الأوروبي للنخب السياسية أصبح مطعوناً فيه في كل مكان، لأسباب معقولة أو غير معقولة، من قبل الشعوب. أنا مثلاً يمكنني أن أحس بأنني أقرب إلى مثقف تونسي، لأننا قمنا بدراسات مقارنةً، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن يحس شخص من مدينة آسفي بنفسه قريباً من مدينة سوسة التونسية. لطالما تأسفت لعدم توفرنا على سوسيولوجيا حقيقية تعنى بالنخب المغاربية. إذ كان من الممكن أن تقوم بتنوير رجال السياسة عندنا. لكن الفضاء المغاربي الذي تتحدث عنه لم يكن مغلقاً. إذ كان بالإمكان التنقل داخله بكل حرية. هذه هي الصورة التي يحلو لنا أن نعطيها لأنفسنا. في الواقع، في الوقت الذي كان ليوطي، لم تكن الحدود بين المغرب والجزائر سهلة العبور. ليوطي الذي سبق أن اشتغل في الجزائر، وكان عارفاً بشهية المستوطنين في وهران، قام بكل شيء ليبقي المغرب معزولاً. وعندما تم استبدال ليوطي بحاكم عام سابق للجزائر، تيودور ستيك، الذي أراد تسوية الوضعية المغربية، بمعنى جعل المغرب جزائرياً، وجد الكثير من عدم الرغبة عند فرنسيي المغرب. نحن شاهدون على أن الحدود مع الجزائر لم تكن أبدا حدوداً، بل كانت هناك علاقات ومصالح مشتركة من الجانبين. لنكن أكثر تحديداً، فلم تكن التنقلات مراقبة.  نعم، لكن هذا لا يعني شيئاً. حتى يومنا هذا فالتنقلات غير مراقبة. لكن في تلك الفترة لم يكن عبور الحدود يعتبر تسللاً؟ هذا لا علاقة له بالواقع السياسي. يمكننا أن نتخذ قراراً سياسياً دون أن نكون قادرين، ميدانياً، على مراقبة ما يحدث. الوضعية نفسها توجد على الحدود مع موريتانيا. حتى نختم هذه المقدمة الصغيرة، أؤكد أن الإطار الذي كتبت فيه كتابي عن المغرب العربي، سنة 1969، كان مختلفاً تماماً عما هو عليه اليوم. الدول الوطنية لم تكن مهيكلة بشكل قوي.
ـ هل تظن أن وطنية الدولة تساهم في تطوير الرؤى حول الهوية المغاربية؟
ـ فكروا في هذا الواقع البسيط؛ هل يمكن أن تكون لنا نفس الرؤية عن أنفسنا وعن الآخرين في نفس البلد حينما ينخفض معدل الأمية من 70 في المائة إلى 30 في المائة؟ البلد كان يبدو أكثر استقراراً وتجانساً في الحالة الأولى. كما كانت فكرة الوحدة مع شعوب أخرى أكثر انتشاراً. هذا هو السبب، حسب رأيي المتواضع، في ضعف المثال النموذجي العربي. الأمر نفسه عند الفلامانيين. إذ حينما كانوا أقل تعلماً كانوا يقولون عن أنفسهم بكل عفوية إنهم بلجيكيون. بالتعليم يدرك الناس الفروق بينهم وبين الآخرين. يقولون إذن إنهم يعيدون اكتشاف هويتهم. في وضعية الأمية، تكون الأسطورة ملِكاً. هذه حجة للاعتراض على ما قاله المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف. في القرون الوسطى لم يكن الأوروبيون يحسون بأنفسهم أوروبيين، بل كانوا يحسون بأنفسهم مسيحيين، لأن المعتقد المسيحي كان ثقافتهم الوحيدة. عندما يقال إن فكرة المغرب الكبير نابعة من الشعب، أتساءل: في أي وسط يوجد هذا؟ الإبقاء على علاقات متواصلة في شعاع ممتد على 30 كيلومتراً على جانبي الحدود لا يعني وجود رؤية موحدة للمستقبل. هذه ظاهرة تتسم بها كل الحدود؟ بالفعل. مخافة أن نقع في التكرار أؤكد مرة أخرى بأنني إذا كنت كتبت كتابي حول المغرب الكبير في سياق معين، فإن هذا السياق تغير تماماً اليوم... هذا مفهوم. المغرب الكبير كان في تلك الفترة ممكناً في التاريخ.
ـ ما الذي كان يمثله بالنسبة إليك في تلك الفترة؟ عندما نقرأ عن مواقفك المتعلقة بالتعريب، نفهم أنها كانت تندرج ضمن إطار رؤية عالم عربي متحد، حيث لغة التواصل هي العربية الكلاسيكية. ما هي الرؤية السياسية التي تقف خلف هذا التصور؟ وهل رؤيتك اندماجية أم فدرالية؟
ـ لم تكن لدي أبدا رؤية اندماجية للمغرب الكبير. في تلك الفترة كانت مثاليتي الوحدوية، عربية أو مغاربية، أقلّوية، (minoritaire) كانت رغبة، وتوجها شخصياً. تمنيت تلك الوحدة، لكنني لم أناضل من أجل تحقيقها. ككل جيلي، كنت واعياً بالسياسة التي ينبغي اتباعها حتى نتمكن من تحقيق رغباتنا، وفي نفس الوقت كنا نعلم بأن الواقع كان ضدنا، وكان اختيار المحافظة مريحاً أكثر. كان الأمر يستدعي إذن إرادة. كان يجب تعنيف الواقع. ومن هنا كان انتظارنا لقائد. أما فيما يخص التعريب، فقد كنت أدافع عنه لأنني كنت أفكر بأنه الطريق الأقصر لمحاربة الأمية وسط الساكنة؛ ولهذا كنت أطلب كذلك تبسيطاً، على جميع المستويات، لهذه اللغة المشتركة السيارة غير أنه، حتى في هذا المستوى، كنت أتوقع أنه في مرحلة معينة ستؤدي محاربة الأمية تلقائياً إلى خلق تنوع ما، وأن اللغة العربية المغربية ستصبح مختلفة عن مثيلاتها العربية. بعد ذلك تم اتخاذ اختيارات أخرى خلال أربعين سنة. اختيارات كانت لها عواقب ينبغي الحكم عليها بناء على ما تستحقه، وليس بناء على النتائج الافتراضية التي كانت ستنتج اختياراتنا المفضلة. الاختيارات التي تم اتخاذها كانت تحت ضغط عوامل داخلية وأخرى خارجية بالأساس. أنا أتحفظ على إعطاء حكم لأنني واع تمام الوعي بهذه العوامل الخارجية. ولكن الأمور أخذت مجراها...  
ـ هل الحركات الإسلامية، التي صعد نجمها في بلدنا المغرب الكبير، تؤكد أن مجتمعاتنا المغاربية متقاربة وتتطور في نفس الاتجاه؟
لكن، ماهي مميزات هذه الحركات الإسلامية، كل واحدة في إطارها الوطني؟ إلى حدود الآن لا أرى أي شيء إسلامي في أداء الحكومة المغربية، التي يجب التذكير بأنها نتاج تحالف. لقد ارتكبنا نفس الخطأ الذي ارتكبناه تجاه حكومة اليوسفي، حينما نسينا بأنها هي الأخرى مشكلة من تحالف. يجب الحكم على هذه الحكومة بناء على أدائها وليس بناء على ما تقوله أو ما قالته في الماضي. ينبغي الاحتراس من الخطابات المهيمنة. لنأخذ كمثال؛ خلال حكم بورقيبة، عندما كنت أزور تونس، كان لدي انطباع بأن المغربيات، من الناحية النفسية، أكثر تحرراً من التونسيات. مع أن الكل كانوا يقولون إن التونسيات كن الأكثر تحرراً ضمن النساء العربيات. أنا أقتصر على مراقبة الوقائع والأفعال. هذا ليس تواضعاً زائفاً، لكنني أعترف بأنه في كل حدث يقع في المغرب أكون متفاجئاً. فخلال كل هذه السنوات التي كنت أحاول فيها فهم النظام (le système) لازلت في كل مرة أجدني مندهشا. هذا هو ما يصنع التاريخ. التاريخ موجود لأن لا شيء متوقع.
ـ هل تقول كذلك إنك متفاجئ بقرارات الدولة؟
نعم، في كل مرة أجدني مندهشا بسرعة اتخاذ القرارات. مثلاً، تتبعت خطوة بخطوة، على الأقل، النصف الثاني من حكم الحسن الثاني، الذي كان يتصرف بناء على حدسه. وليس هناك واحد من أفعال الحسن الثاني لم يثر اندهاشي، بسبب أنه لم يكن متوقعاً. هل تشكل ملكية الدولة عائقا أمام بناء مغرب كبير موحد، بالمعنى الذي يتم فيه النظر إلى الملكية كوريث لنوع من السيطرة؟ إذا كان جيراننا يفكرون هكذا، لا يمكننا أن نغير رأيهم. الآن المغرب الكبير يتقدم حسب السرعة التي تسير بها الدول التي تشكله. كل بلد عليه أن يلتزم بجدليته الخاصة. فيما يتعلق بالمغرب، في وضعيته الحالية، أنا متأكد أن السلطة الملكية لها دور ضامن للاستقرار، خصوصا أنها تسمح بتفريق الديني عن السياسي.
ـ هل تنادي بملكية برلمانية؟
   رؤيتي هي رؤية لملكية دستورية بالفعل، دورها هو حماية الحداثة ضد القوى التقليدية والمحافظة. على الملك أن يهتم بالأسئلة الدينية، لتفادي استئثار شخص آخر بها، ثم تحريف اللعبة السياسية. في النظام المثالي كما أراه، الملك هو المؤهل الوحيد لحل المسائل الدينية، وتلك التي يمكن أن تنشأ من الهيكلة الجهوية الجديدة. لقد أتيحت لي الفرصة لاقتراح أن تكون الغرفة الثانية غرفة مستشاري الملك لتحل محل مختلف المجالس الاستشارية. لكن يبدو أن هذا الاقتراح لم يسترع أي اهتمام. مع أن الاقتراح كان سيساهم في تقوية سلطة مجلس النواب حتى تكون له الصلاحية لمناقشة كل المسائل باستثناء المسائل الدينية والبين جهوية (interregionale) .
ـ لكن هل تظن أن الملك سيقبل الاكتفاء بحصر سلطته في هذين المجالين؟
    لقد كان محمد الخامس يقول إنه لا يريد أن يحصر نفسه في دور مدشّن المساجد. هذا ليس بالدور الصغير بتاتاً. لا يجب أن ننسى أن المظاهر الجهوية أساسية. إذ سيتعلق الأمر، مثلا، بتسوية بعض المسائل التي تمس بالهوية الوطنية. كذلك، فإن الجيش والديبلوماسية سيبقيان بيد الملك. يجب التأكيد هنا بأنني أتحدث عن إمكانية بعيدة جداً. بالنسبة إلي، بكل صدق، المغرب الكبير هو إمكانية بعيدة. لا أريد أن أٌعاد إلى حلول لا أعتبرها فحسب متجاوزة، بل كذلك غير قابلة للتطبيق. ينبغي أن يقبل المغرب الكبير، في مجمله، بالتوجه نحو فصل السلط السياسية عن الدينية، كما تحدثت، وإذا لم يرد الآخرون ملكاً، فليتخذوا على الأقل سلطة دينية لا يكون حولها نزاع.
ـ لماذا لم يبدأ مشروع الوحدة المغرب الكبير من الاقتصاد؟
   هو ما أتحدث عنه بالضبط. يجب البدء بتسوية المشاكل التجارية والاقتصادية، والعمل على تنقل فعلي للأموال. أنا لا أتحدث عن تحرير تنقل الأشخاص، الذين من شأنهم أن يخلقوا مشاكل حقيقية، بل عن تنقل مجموعات محددة. يمكن أن نفكر أيضا في خلق منظمات دولتية مشتركة مثل غرف التجارة والفلاحة والصناعة، أو حتى نقابات، عبر خلق مكتب مغاربي للعمل. وأيضا خلق المؤسسات التقنية المحضة، التي ينبغي أن تكون بالأساس محايدة، من قبيل مكتب للإحصاء، أو مجلس اقتصادي واجتماعي، يمكن أن تكون مشتركة. لنقل في كلمة واحدة إنه بإمكاننا مغربة كل ما يتعلق بإدارة الأمور، ولنترك، مرحلياً، ما يتعلق بسياسة الأشخاص، أو «السياسة» بمعناها في اللغة العربية الكلاسيكية. للأسف هذا لا يقنع أبداً مناشدي الوحدة؛ فهؤلاء عندما يبدؤون الحديث عن المغرب الكبير، يفكرون مباشرة في برلمان جامع، وفي انتخابات عامة، مع أن هذا صعب المنال في الوقت الحالي.
ـ من الذي يعرقل هذا التطور الذي تدافع عنه؟
حسب علمي، ليس النظام الملكي المغربي، ولكنها ثقافة النخب السياسية، التي تختلف كثيراً من بلد لآخر.
 ـ أحياناً تبدو كمن يعطي تصوراً عن التاريخ آت من فوق، وأحيانا كثيرة لام عليك البعض كونك لم تجعل القبيلة تتكلم، أليس للقبيلة دور في تاريخ المغرب؟
  ـ هل هو خطئي إن كانت القبيلة خرساء. من السهل أن نجعلها تقول كل ما نريده. أنا لم أرد أبدا أن أخوض في هذه اللعبة. نفس المشكل يطرح بخصوص مفهوم الطبقة. ولهذا كان الراحل المأسوف عليه أبراهام السرفاتي يخون نفسه مرتين، عن حسن نية بدون شك، بحديثه عن القبيلة-الطبقة. ليست القبيلة من يصنع، إيجابياً، التاريخ، لكن يمكن للقبيلة أن تصنع التاريخ سلبياً. يعلم الجميع جيدا بأن الاكتشاف الكبير في العلوم الفيزيائة هو أن «القصور» ليس بدون تأثير. الأمر نفسه متعلق بالتاريخ. لقد رأينا ذلك للتو مع شباب 20 فبراير. ليسوا هم من كتب الدستور الجديد، الذي سيكون الوثيقة الوحيدة التي سيدرسها المؤرخون القادمون. مؤرخو الثورة الفرنسية يؤكدون على دور الحشد (la foule)، ودور تجمعات الأحياء... لكنهم يتوقفون أكثر عند أثر الدستور، لأنه ترك العديد من الوثائق، بينما تكلم الحشد وكلامه ذهب في مهب ريح التاريخ.
ـ كيف تنظر إلى مسألة الصحراء من خلال المغرب العربي الذي تأمله؟     إلى حدود الآن، لم تكف الجزائر عن استعمال الصحراء كوسيلة ضغط سياسي. ولم تكن الوحيدة في ذلك. لقد كانت الجزائر ولازالت تتكئ على قواعد دولية، وعلى وضعية جيو سياسية جد صعبة بالنسبة إلى المغرب. موقف المغرب غير مفهوم بالنسبة إلى البلدان الأخرى، لأن القليل من هذه البلدان لها نفس البنية ونفس التجربة التاريخية. لكن السياسة الجديدة القائمة على الجهوية، وخصوصا الطريقة التي تفسر بها من طرف الهيئات الدولية تغير المعطى. يتعلق الأمر الآن بالدولة المغربية والمجموعات السكانية المحلية، وهذا الآن مكتسب. لنفترض أن الجزائر تبنت جهوية تقترح نفس المنطق التاريخي الذي اختاره المغرب، فإننا سنتمكن حينها من رؤية ظهور تدريجي لمنطقة صحراوية عابرة للحدود، ولِمَ لا مغربا كبيرا مكونا من جهات تقتسم نفس المصالح التنموية. بفضل الجهة، يمكن للدولة القومية (l’état –nation) أن تتفوق وتعيش في انسجام مع تنظيم أكثر أو أقل فيدرالية. [عن”مجلة زمان“.]

الثلاثاء، 14 يناير 2014

الدراما في التلفزيون المغربي/ذ. العباس جدة

الدراما في التلفزيون المغربي
إن العمل الفني هو أولا وقبل كل شيء مسؤولية واجتهاد وعمل متواصل ومكثف وليس ارتجالا ونزهة و وحبا في الظهور وكسب الرزق.
 
ذ. العباس جدة(*)
     لا يمكننا إنكار المجهود الذي تضطلع به التلفزة المغربية، سواء الأولى أو الثانية والمتمثل أساسا في محاولة تشجيع الفنانين المغاربة على إبراز مواهبهم والإفصاح عن ذواتهم وقدراتهم، من خلال إنتاج وترويج أعمالهم الفنية، سواء كانت أفلاما أو مسلسلات أو مسرحيات. لا يمكن إلا أن نثمن هذا الفعل الجليل، إذ في ظرف ست سنوات، تعرف المغاربة على العديد من الفنانين والمخرجين الشباب وعلى انتاجات درامية مغربية متنوعة بعد أن كنا مثقلين ومتخمين حد الغثيان بالإنتاجات المصرية السخيفة.
    رغم أني أشجع المنتوج  الوطني وأتلهف إلى مشاهدة أفلام مغربية، إلا أن غيرتي على الفن دفعتني إلى التساؤل حول قيمة ومدى جودة  الإنتاجات الدرامية: هل تعبر بشكل عميق وجوهري  عن الواقع المعيش؟ وما هي القيمة الفنية والجمالية للأعمال التي تعرض علينا تقريبا كل ليلة؟ هل تسهم فعلا في بلورة ذوق الناس والرقي بمشاعرهم وأفكارهم؟
    لقد سررنا  وفرحنا للمنتوج الدرامي المغربي في السنوات الأولى من ظهوره على الشاشة الصغيرة، لكن سرعان ما أخذ عدم الرضا بل الملل يتسرب إلى قلوبنا والذي تبلور إلى خيبة أمل قاسية. لماذا؟
    لأن جل الإنتاجات الدرامية باهتة، شاحبة، لا لون ولا ذوق لها. فإذا كان الفن أداة للتعبير عن الحقيقة ومجالا للبوح وطرح الأسئلة الجوهرية، وإذا كان الفن أيضا نظرة عميقة، أصيلة وخاصة للعالم وللأشياء، فإن أعمالنا التلفزيونية لا تعدو أن تكون نظرة سطحية، ساذجة واختزالية للواقع الاجتماعي المعقد والمركب. وإذا كان الفن هو خلق لواقع جديد أو على الأقل صياغة تركيبة مكثفة للواقع بكل مستوياته وبمختلف تناقضاته، فان الإنتاج الدرامي المغربي ليس سوى تقليد باهت ومحاكاة خادعة له.
    وإذا كان الفن هو إنتاج للجمال ويسعى إلى تحقيق المتعة الفنية والجمالية الخالصة، كما يسهم في الرفع من مشاعر الإنسان وتطوير ذوقه وتهذيب سلوكه، فان الأفلام والمسلسلات التلفزيونية عندنا، تفتقد عنصر الجمال وتفتقر للفرجة الفنية النبيلة. إنها مملة ورديئة، تخلو من الإبداع والخلق وبالتالي لا علاقة لها بفن الصورة ( سينما، تلفزيون). فالحوارات في الغالب ما تقوم على التهريج، سطحية ومبتذلة، التركيز على النكت واللعب بالكلمات السوقية من أجل إضحاك المتلفي، أحداث غير متماسكة، سلوكات الشخصيات غير مبررة وغير مقنعة، تشخيص عتيق تقليدي ومتجاوز. بل هناك من الممثلين الذين لا تتوفر لديهم حتى الشروط الأولية والضرورية لفن التشخيص، فلا يملكون طبقات صوتية سليمة، يتعثرون في كلامهم، لا يجيدون النطق ومخارج الحروف، فتخرج الألفاظ من أفواههم بصعوبة وبشكل مقيت. كما يبدو أنهم لا يدركون حواراتهم جيدا ولم يتمرنوا بما فيه الكفاية، فينساقون إلى الارتجال البغيض والاستخفاف من المتلقي. إن العمل الفني هو أولا وقبل كل شيء مسؤولية واجتهاد وعمل متواصل ومكثف وليس ارتجالا ونزهة و وحبا في الظهور وكسب الرزق.
    ختاما، أقول، إن هذه الأعمال الدرامية تسئ للفن وللممارسة الفنية وتستخف بذوق الجمهور وتطعن في ذكائه. وفي هذا الإطار، أحمل المسؤولية، في إشاعة الرداءة وتكريس النمطية والسوقية إلى المسؤولين على التلفزة المغربية، كما أحمل المسؤولية إلى بعض الفنانين المرتزقة، الذين لا يهمهم سوى حب الظهور والاسترزاق على حساب الفن وعلى حساب المغاربة.
-------------------------------------

ذ. العباس جدة مدرس الفلسفة مخرج وكاتب مسرحي.. وقد خص مدونة سيدي سليمان بهذه المقالة..

الاثنين، 13 يناير 2014

بصدد الفساد: النقد المزدوج. حميد هيمة

بصدد الفساد: النقد المزدوج.

حميد هيمة

يجب الإقرار، بداية، على أن الاستبداد أصل لكل فساد؛ ذلك أن المستبد الذي يتوهم نفسه إلاها، حسب الكواكبي، في حاجة إلى جيش المُتمجدين العاملين له والمحافظين عليه، كما أن هؤلاء- المتمجدون- لا يهمهم الكرامة وحسن السمعة وإنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته. من الواضح، إذن، أن الفساد صناعة سياسية بامتياز ترمي إلى تأبيد استمرارية نظام/ وضع شاذ يعاكس الحاجة الطبيعية والملحة لشروط ومتطلبات الاجتماع الإنساني- المدني. غير أنه يجب الإقرار، أيضا، إلى تسرب الفساد، السياسي الأصل والصناعة، إلى الفضاء الاجتماعي والاقتصادي بما يجعله "ثقافة" سائدة و"حية" تعيد إنتاج ذاتها في مستويات أدنى لضمان استمرارية أصل الفساد(= الاستبداد). يبدو من المهم، في هذه الحالة، استعارة النقد المزدوج للراحل عبد الكبير الخطيبي، ليس لتناول "المهمة الأساسية للسوسيولوجيا في العالم الثالث"بل من أجل القيام بعمل نقدي مزدوج لمواطن الفساد والإفساد في مستويين: أ- لم يعد هناك مجالا للتغطية على فساد السلطة بعد نهوض الشعوب المغاربية والعربية، في ما سمي بالحراك الاجتماعي والسياسي، إلى المطالبة بإسقاط الفساد والاستبداد كشعار مكثف للمطالب المرفوعة، وكتعبير عن الوعي الجماعي والحاد بنمو الفساد في أحضان الأنظمة الاستبدادية؛ ب- يجب الاعتراف، بكل وضوح، أن الفساد لم يعد مقتصرا، فقط، على المجال السياسي، حاضنته الطبيعية، بل أنه تمدد إلى المجال الاجتماعي وأُعيد إنتاجه في مستويات مختلفة حتى تحول إلى سلوك سائد ومقبول اجتماعيا، بل تسنده ثقافة لا تتوانى في إضفاء الشرعية على أفعال الفساد وممارسات الإفساد. وبالنتيجة، فإن السلطة أوجدت لها ما سماهم الكواكبي "جيش المتمجدين" في قلب المجتمع، مقابل استفادة هؤلاء من ريع غير مستحق نظير انخراطهم في أنشطة لا تقلق السلطة القائمة أو مقابل صمتهم عن فسادها. فإذا كان الفساد السلطوي، في تجلياته السياسية، واضحا وظاهرا، فإن الفساد، الذي تغلغل في المجتمع نتيجة لفعل سلطوي مقصود، أكثر خطورة لأنه:
 1- يمنع نمو المقاومة الذاتية في قلب المجتمع للتصدي للفساد السلطوي؛
 2- يضمن استمرار الفساد السلطوي من خلال إعادة إنتاجه اجتماعيا وثقافيا....الخ؛
 3- "التباس" حالة الفاعل الاجتماعي المستفيد من الفساد، واجتهاده في تمييع الصراع والمعركة ضد معسكر الفساد. لقد تنبهت بعض القوى السياسية، بشكل مبكر، إلى "تفاعلات" الفساد والاستبداد بصياغتها لأطروحة سياسية لا زالت تحافظ على راهنيتها وحيويتها الاجتماعية والسياسية: دمقرطة الدولة ودمقرطة المجتمع! وهو نفس الشعار الذي هيكل مطالب الشعوب المغاربية والعربية؛ إسقاط الفساد والاستبداد.


السبت، 11 يناير 2014

ماذا يحدث بتركيا؟ اشتداد الخناق على "حزب العدالة والتنمية"

ماذا يحدث بتركيا؟ 
اشتداد الخناق على "حزب العدالة والتنمية"
 مصطفى لمودن
لم تجد حكومة رجب أردوغان "الإسلامية" من هدية جديدة للشعب التركي غير مراقبة الانترنيت بشكل "حازم".. وقد أصبحت جد متوجسة من التواصل الذي يقع بين أفراد الشعب وجماعاته والتنسيق للتنظيم الاحتجاجات كما وقع قبل شهور في اسطنبول.. خاصة أن وقود نار الاحتجاج من جديد أصبحت متوفرة بعد الفضائح التي كشفت حقيقة "إخوان" تركيا، وهي السعي بكل السبل غير القانونية للاغتناء.. ولم يسلم من ذلك حتى ابن رئيس الورزاء أردوغان.. مما جعل المعارضة وحتى أعضاء من الحزب الحاكم مثل وزير المالية المقال يطالبون أردوغان بالاستقالة.. 
الأمر الثاني، وهو رفض المحكمة الدستورية لقانون كان وراءه وزير الداخلية التركي "الإخواني" سعى من خلاله للتدخل في تعيين القضاة حسب رغباته.. 
وهكذا لم يبق لهذا الوزير وهو ينفذ أوامر رئيسه هو إقالة رجال الشرطة الذين كانوا وراء اكتشاف التلاعبات الخطيرة التي كان أبطالها أعضاء من الحزب الحاكم "العدالة والتنمية" وأفراد من أسرهم لتبييض أموال طائلة متأتية من أعمال غير مشروعة.. !! 
ولعل هذه الأحداث كانت وبالا على تركيا بكاملها، من ذلك انخفاض العملة، توسع نظرة الريب تجاه الفاعلين السياسيين والاقتصاديين التركيين، كما فقدت خلال بضعة أيام البورصة 100 مليار دولار..
ولامتصاص غضب المؤسسة العسكرية التي يتوجس منها الحزب الحاكم خيفة، قبِل أردوغان إعادة النظر في الأحكام القضائية التي كان ضحيتها عساكر برتب مختلفة بتهمة الإعداد لانقلاب عسكري في وقت سابق.. ولعه بذلك يريد استمالة هاته المؤسسة التي لم تستلم لسياسة الحزب الحاكم الذي يسعى بكل الطرق لأسلمة الدولة والقضاء على كل بقايا العلمانية التركية التي كان قد وضع أسسها كمال أتاتورك. وبذلك يحاول استباق اي تحالف بين المؤسسة العسكرية والمعارضة اليسارية والليبرالية التي بدأت تسترجع أنفاسها..
مشكلة الأحزاب "الإسلامية" في كل مكان هي التعالي واحتقار الآخرين والانطلاق من "امتلاك الحقيقة" والسعي لأسلمة كل مرافق الدولة ضدا على التعددية التي أصبحت سيمة واضحة في العصر الحديث.. ما يوسع دائرة معارضي هذه الأحزاب المستغلة للدين في السياسة..

الخميس، 9 يناير 2014

من جديد "فرس" الاتحاد الدستوري يظهر على حقيقته الفاسدة بمنطقة الغرب.

من جديد "فرس" الاتحاد الدستوري يظهر على حقيقته الفاسدة بمنطقة الغرب.

مصطفى لمودن

لن ينسى المغاربة تعرية النائب البرلماني إدريس الراضي عن ظاهر بطنه في مجلس النواب، ليقول إن بطنه فارغ من "العجين" !!.. هذا البرلماني هو رئيس فريق "حزب الاتحاد الدستوري" بمجلس النواب، وهو منتخب عن إقليم سيدي سليمان.. وبالتالي فالمؤكد أن له اليد الطولى في مجال الانتخابات الخاصة بحزبه على الأقل في جهة الغرب الشراردة بني أحسن، حيث تعرف هذه الجهة رغم غناها الطبيعي نسبا مرتفعة في الفقر والأمية.. وبعد فضيحة إلقاء القبض على رئيس المجلس البلدي لسيدي يحيى في حالة تلبس وهو يتلقى رشوة سمينة من مقاول من أجل حصول هذا الأخير على تعويضاته عن الأشغال التي قام بها لبلدية سيدي يحيى.. وقد كان هذا الرئيس منتم لحزب "الاتحاد الدستوري" الذي يضع الحصان كرمز انتخابي له.. لتنضاف فضيحة أخرى جديدة متهم بها "فاعل" حزبي آخر ينتمي لهذا الحزب الذي كان قد أطلق عليه المغاربة في الثمانينات "حزب الكوكوط مينوت".. حيث بمجرد تأسيسه حصل على أغلبية الأصوات في الانتخابات النيابية!! ليحتل أعضاء منه مواقع حساسة ساهمت في إدخال المغرب عبر سياسة التقشف الهيكلي إلى زمن "السكتة القلبية"...
الفضيحة الجديدة جاءت على شكل اعتراف علني أمام ممثل وزارة الداخلية وحضور عون قضائي في اجتماع مسؤول لمجلس بلدية القنيطرة مساء الثلاثاء 7 يناير 2013، حيث "صرح محمد البطان، منسق فريق الأصالة والمعاصرة بالمجلس الجماعي للقنيطرة، بأن الرشوة متفشية بين بعض ممثلي سكان القنيطرة، وقال لقد أرغمت على أداء شيك بمبلغ 20 مليون سنتيم لقيادي في حزب الاتحاد الدستوري، قصد التموقع في لائحة الحزب كوصيف له في الانتخابات الجماعية الأخيرة...". كما جاء ذلك في جريدة "المساء" عدد 2267 يوم الخميس 9 يناير 2013.
فهل "أكبر" مسؤول لهذا الحزب في الجهة له علم بهذه الواقعة؟ وهل سيتدخل القضاء لإجراء بحث في هذه النازلة؟ وكيف سيتعامل "حزب الأصالة والمعاصرة" مع هذا "المسؤول" الجهوي الرفيع وهو يعترف باقتراف جرما خطيرا؟

لقد آن الوقت لتطهير كل الفضاءات من المفسدين الذين اغتنوا في ظرف وجيز، وأشاعوا بين الناخبين والمنتخبين سلوكات الانتهازية والحربائية والغش...

الأحد، 5 يناير 2014

تاريخ المسرح /العباس جدة

تاريخ المسرح
العباس جدة(*)

          يعتبر الفن المسرحي من بين الفنون الأكثر ارتباطا بحياتنا اليومية إلى الحد الذي لا يمكن معه إن نتصور الوجود البشري بدون المسرح. فكما أن الإنسان كائن مفكر وعاقل فهو أيضا عاشق مبدع ومحب للجمال. وما علينا سوى النظر من حولنا لنلاحظ بأن فعل المحاكاة وحب التمثيل والتشخيص واللعب والرغبة في تقليد بعض الأشخاص أو الحيوانات رغبة كامنة ومتأصلة في الإنسان. إن حب المحاكاة واللعب المسرحي فعل طبيعي غريزي فينا، كالغناء والرقص والتفكير.
          وقد شكلت الأفعال السحرية والطقوس الدينية والاحتفالات التنكرية والحفلات والرقصات والأناشيد والغناء والرسم على الجدران والنقش على الصخور وتقديم القرابين للآلهة، البدايات الأولى للفن المسرحي. لقد كانت هذه الشعائر الدينية والرسومات والنقوش والأفعال السحرية لدى الإنسان البدائي، تلعب وظيفة مزدوجة: وظيفة فكرية معرفية ووظيفة فنية جمالية. أما الوظيفة المعرفية فتتمثل في فهم وإدراك العالم والإنسان من خلال إخضاع الطبيعة والتحكم في الأشياء. فإذا ما نقش البدائي على الصخور لوجوه حيوانات فرغبة منه  في التحكم فيها وإخضاعها لإرادته؛ وإذا ما رسم حادثة القنص، فهو يريد لها أن تحدث بل يرغمها على الحدوث. وكانت ترافق هذه الوظيفة المعرفية ومحاولة فهم العالم وظيفة فنية جمالية يمكن تلمسها من خلال ما كان يشعر به ذاك الإنسان من متعة ولذة وهو يمارس هذه الطقوس وهذه الأفعال، نشوة الانتصار على الطبيعة أو الحلم بالانتصار عليها.
           ولما كانت المحاكاة غريزية فينا، فإن هذا الفعل العفوي سيتحول إلى ما سيعرف عند اليونانيين ب" الفن المسرحي" والذي نميز فيه بين التراجيديا والملهاة. وتعتبر الشعائر الدينية وطقوس العربدة والسكر التي كان يقيمها اليوناني القديم، بمناسبة خصوبة الأرض وعطائها، الإرهاصات الأولى لفن المسرح؛ هذه الرقصات والاحتفالات ستتحول إلى اللعب المسرحي بعد أن تم إفراغها من شحنتها الدينية الغيبية لتتخذ بعدا إنسانيا دنيويا. لكن ما كان لهذه الغريزة الفنية الإيقاعية الفوضوية، أن تتبلور إلى إبداع مسرحي، إلا بعد تنظيم وعقلنة هذه الفوضى الغريزية والرقي بها إلى مستوى النظرة المتماسكة والمتكاملة للكون وللإنسان؛ وبعد أن أصبح فعل المحاكاة يتخذ موضوعا له الوضع البشري المعقد بأبعاده الانفعالية والأخلاقية والفكرية والوجودية.
             إن الانتقال من الميثولوجيا إلى الفن المسرحي المتميز تحقق بفضل العبقرية اليونانية. وقد ساعدت ملحمة الإلياذة والأوديسة ( أنشودة الحرب وأنشودة البحر) على ظهور المسرح في اليونان لما تتضمنه هذه الملحمة من شخصيات بطولية ومن صراعات وحروب وتوترات في العلاقات. لكن لا ينبغي أن يفهم من هذا، أن المسرحية  بالمفهوم الدقيق للكلمة، تأسست وأخذت ملامحها النهائية، فقط من خلال سرد وقائع وأحداث وشخصيات ملحمية. ويرتبط ظهور المسرح في القرن السادس قبل الميلاد بعبادة ديونيزوس Dionysos وإقامة الشعائر الدينية احتفاء به. تقول الميثولوجيا الإغريقية، إن ديونيزوس ابن تزوس، قتل بشكل وحشي من طرف أعداءه Les Titans لكن أباه تزوس Zeus  يعيد إحياءه وعندما ينبعث ديونيزوس من جديد يتحول حبه للحياة إلى نوع من الجنون والهيجان، هذا الهيجان لا يمكن أن يهدأ إلا بالانخراط الكوني في الإيقاع والموسيقى والرقص الصاخب ونشوة الخمر. وهكذا يصبح ديونيزوس عند اليونانيين القدماء إله الخصب والعنب والخمرة والفرح والفن والجمال. وبالتالي تكون تقليد سنوي في المدينة اليونانية، يقوم على تقديم الهدايا والقرابين إلى ديونيزوس إله الفن والجمال. وكانت هذه الطقوس والاحتفالات الديونيزوسية تقام مرتين في السنة في شهر مارس وفي شهر دجنبر. وتتألف الاحتفالات من أضحيات وهدايا ومواكب روحانية صوفية. وتقدم القرابين في ساحة يتوسطها مذبح تتجمع حوله جوقة تنشد أغاني دينية ويحمل أفراد الجوقة أقنعة على وجوههم ويترأس الاحتفالات كاهن يجلس على كرسي وثير في مكان مرتفع. وتقدم خلال الحفلين السنويين ولمدة ثلاثة أيام عروض مسرحية. وكان كتاب التراجيديا يدخلون في صراع ومنافسة لنيل الجائزة الأولى للمهرجان. والمسرحي الفائز ينال جوائز وتقدير الجمهور. وكانت الدولة الأثينية هي التي تتولى تنظيم هذه الاحتفالات المسرحية وذلك بتكليف أحد الموظفين السامين باختيار التراجيديين المتنافسين واختيار المواطنين الذين سيتولون الإنفاق على العروض وأصحابها. وهكذا فإن هذه الاحتفالات الديونيزوسية العفوية ما كان لها أن تتطور إلى عروض مسرحية منظمة إلا بتدخل سلطة سياسية مركزية تستند إلى الشعب. والغريب في الأمر أن المسرحية ظهرت وازدهرت في مرحلة ارتبطت بنظام سياسي مستبد وبسلطة سياسية قوية، هذه السلطة التي كان يجسدها الحاكم المستبد بيزيترات .Pisitrate

         ولفظ "تراجيديا" مشتق من كلمتين يونانيتين Tragos وتعني تيس وOdé وتعني أنشودة أو أغنية. أما المعنى الاشتقاقي فقد اختلف حوله: فهناك من يقول بأن اللفظ يدل على جلد التيس الذي كان أفراد الجوقة في التراجيديا البدائية، يرتدونه. وهناك من يرى بأن لفظ "تراجيدوس"Tragedos  يدل على الشاعر الذي ينال جائزة أحسن مؤلف مسرحي، والجائزة هي عبارة عن تيس والذي كان الشاعر يقدمه كقرابين لديونيزوس ثناءا وشكرا له على الفوز. هذا مع العلم على أن التيس كان الذبيحة المفضلة لدى الإله. فمأسسة وتنظيم المسرحية كجنس أدبي جديد ظهر بفعل عاملين: عامل أدبي وهو اكتشاف الشاعر والممثل تيسبيسThespis لإمكانيات جديدة لهذا النوع من العروض والمتمثل أساسا في ظهور ممثل إلى جانب الجوقة وحوارات بينهما ونص أدبي مكتوب؛ وعامل سياسي يتجلى في رغبة وإرادة الحكام تقديم حفلات ومهرجانات للشعب لكسب ثقته وإحداث وحدة وطنية. وهكذا ينال الشاعر والممثل تيسبيس أول جائزة مسرحية سنة 534 ق- م، لكونه ألف نصا شعريا، يقوم على حوار بين ممثل وجوقة (ممثلHypocrites : الذي يجيب) ويضعون أقنعة على وجوههم. ويفسر القناع  برغبة الممثل في إخفاء وجهه والانصهار كلية في الدور الذي يجسده. ويأتي أسخيلوس Eschyle  ليطور العرض المسرحي بإضافة ممثل ثان، فأصبح الحوار يجري ليس بين الممثل والجوقة ولكن أيضا بين الممثلين. وابتداء من 449 ق- م ازداد عدد الممثلين إلى ثلاثة. وهذا لا يعني أن العرض المسرحي يقتصر على ثلاثة أدوار أو شخوص مسرحية، ولكن كانت هناك أدوار عديدة يؤديها الممثلون الثلاثة ما دامت الأقنعة كانت توضع على وجوه الممثلين.
         وقد عمرت  التراجيديا اليونانية ثمانين سنة وتطابق هذه المدة نمو وازدهار أثينا سياسيا وفكريا. وإذا كان أول عرض مسرحي لتسبيس سنة 537 ق- م، فان أول نص تراجيدي جدير بالاهتمام والدراسة هو "الفرس" لأسخيلوس. ويمكن التمييز بين ثلاثة شعراء تراجيديين وهم أسخيلوس525 / 456 ق- م وسوفوكليس Sophocle 496/406 ق- م ويوربيدس Euripide 484 / 406 ق- م الذين حظوا بأهمية خاصة ونالوا جوائز عديدة في المهرجانات المسرحية الديونيزوسية، كمسرحية "أوديب" و"أنتيغون" لسوفوكليس ومسرحية "أندروماك" و"أورست" و"اليكترا" ليوربيدس. وبانهزام أثينا أمام أسبارته سنة 404 أو ما يعرف بحرب بيلوبونيز Péloponnèse  وفقدان أثينا لبريقها وإشعاعها السياسي والثقافي ابتداء من سنة 386 ق- م فقدت التراجيديا اليونانية بريقها وأهميتها.
       وقد ارتبطت الملهاة "الكوميديا" بشكل مباشر بالطقوس الدينية الديونيزوسية .ولفظ كوميديا  مشتق من cômos وôdé   وتعني أنشودة الموكب الهازل أو الساخر والذي كان بمثابة جني للعنب، ينتقل عبر القرى ينشد ويسخر من أولئك الذين يعرفهم. فإذا كانت التراجيديا نوع جدي من العروض المسرحية وتطرح فيها النهاية المأساوية للشخصيات البطلة، فإن الكوميديا نوع ضاحك وساخر من العروض وتتناول وضعية ومصير الأفراد العاديين والحياة العامة كالحب والزواج. ولم تدخل الكوميديا في الاحتفالات الأثينية الرسمية بالقياس إلى التراجيديا إلا في مرحلة متأخرة أي في سنة 486 ق- م على يد الشاعر الكوميدي الساخرChinodès.  ومن أبرز الشعراء الكوميديين أريسطوفانAristophane الذي نجده يسخر من سقراط في مسرحية "السحب" أو من الإله ديونيزوس في "السلاحف".
------------------

العباس جدة: أستاذ الفلسفة ومسرحي، وقد خص "مدونة سيدي سليمان" بهذا الموضوع القيم. 

الاثنين، 23 ديسمبر 2013

الفلسفة والمسرح/ ذ. العباس جدة

العباس جدة(*)


       يبدو للوهلة الأولى بأن ليست هناك علاقة بين الفلسفة والمسرح، ما دام أن لكل منهما مرجعيته وأدواته وأسلوبه وأهدافه. فإذا كانت أم العلوم تعتمد على النظر العقلي وتتخذ التحليل المنطقي أسلوبا لها وتناقش قضايا الفكر والإنسان الكبرى وتروم المعرفة والكشف عن الحقيقة؛ فإن أب الفنون يقوم على المخيلة والخيال ويسترشد بالحدس ويستثمر البعد النفسي والانفعالي في الإنسان وينهل من الأحاسيس والمشاعر الدفينة فينا ويستلهم اللاشعور والذاكرة والأحلام والهواجس والأوهام، ويروم المتعة الفنية والجمالية الخالصة؛ فإن هذا التمايز البين لا يلغي التقاطع بينهما. ولإبراز هذا التلاقح والتمازج بين مجالين متبايين في المنطلق والأسلوب والهدف، سأركز على نموذجين من الفلسفة والفن الفرنسيين وهما جون بول سارتر وألبير كامو:
   تعتبر مسرحية "الذباب" لسارتر تحويرا لأسطورة يونانية قديمة وهي أسطورة أوريست وأخته إلكترا. وفي مسرحية سارتر، يرجع أورست الى أرجوس برفقة قريبه ليجد المدينة، التي كان أبوه ملكا عليها من قبل، قد أصيبت بالذباب وأن الناس غارقون فيها في الذنوب. ويحاول كل من مربيه وأحد الغرباء (وهو الإله جوبيتر متنكرا) إبعاد أورست عن المدينة. لكن هذا الأخير يصمم على البقاء فيها وأن يفعل شيئا من أجل مدينته. والفوضى التي تعاني منها المدينة هي نتيجة جريمة ارتكبت في حق الملك السابق أجاممنون والد أورست وإلكترا. فقد قتل أجيستوس اجاممنون وتزوج زوجته كليتمسترا أم أورست وإلكترا. وتحاول هذه الأخيرة إخبار الشعب بأن دينهم زائف وأن الآلهة لا ترغب في إسعادهم، وقد حلمت دائما أنه سيأتي اليوم الذي سيعود فيه أخوها أورست للانتقام لمقتل والده أجاممنون. وفي النهاية وبعد صراع مرير ضد أجيستوس وجوبيتر الإله، يقتل الملك أجيستوس أولا ثم يقتل أمه. والمسرحية تعالج أهم القضايا التي شغلت الفكر السارتري وهي مسالة الحرية. فالإنسان حر بطبيعته وفي إمكانه فعل المستحيل إذا أراد ذلك. فأورست يؤكد ذاته ويحقق وجوده من خلال تحديه للكون الذي تحكمه الآلهة. فهو يتحمل مسؤولية ما فعل ولا يحس بالذنب. وفي أحد مشاهد المسرحية يلجأ جوبيتر إلى براعته وقدرته على الإقناع، فيذكر أورست بأن الكون كله يتحرك وفق قانون الآلهة. فيرد عليه أورست: "أنت رب الأرباب يا جوبيتر، إنك رب الكواكب والنجوم والبحار، لكنك لست رب الإنسان." فيتساءل جوبيتر: "ألم أخلقك؟" يوافق أورست لكنه يضيف: " لقد خلقتني إنسانا حرا يا جوبيتر. وحالما خلق الإنسان ككائن حر، فهو لم يعد يمت للآلهة بصلة. إنني حريتي." فجون بول سارتر كفيلسوف يعتبر بأن خاصية الإنسان الأساسية هي محاولته الدائبة لتحقيق إمكانياته وتجاوز حالته الحاضرة. فالإنسان ليس شيئا آخر غير ما هو صانع بنفسه. إنه يريد أن يغير العالم ويغير من ذاته وذلك من خلال ما طبع عليه من حرية وقدرة على الفعل والاختيار.
   وفد صاغ سارتر آراءه الفلسفية المعروضة ف "الوجود والعدم." وخاصة إشكالية العلاقة بين الأنا والآخر، بصيغة فنية بديعة في مسرحيته الثانية "جلسة مغلقة" سنة 1944. تدور أحداث المسرحية في الجحيم ولكنه جحيم غير متوقع، فهو على شكل حجرة مؤثثة على طراز الإمبراطورية الثانية، وإن كان الأثاث بسيطا وليس في الحجرة نوافذ أو مرايا، وكل ما هنالك ثلاث أرائك، أريكة لكل شخصية من شخصيات المسرحية وهي: جارسان، أنيز وإستيل.
    إن كلا من جارسان وإستيل جبان ومخادع وأنيز هي الشخص الذي يرغمهما على الاعتراف بهذا. لقد كان جارسان أول الواصلين وعندما تظهر أنيز في الحجرة تسأله بوقاحة، لماذا يبدو مذعورا. فيقول لها ببرود إنه ليس خائفا. ويذكرها بأنه إذا كانا مضطرين للتعايش فيجب أن يكونا مؤدبين. فتؤكد له أنيز وهي امرأة سحاقية، أنها غير مؤدبة. ويتبادل جارسان وإستيل الأكاذيب عن الظروف التي أوجدتهما في الجحيم،. فيدعي جارسان أنه من دعاة السلام، وأطلقت عليه النار بسبب آراءه. أما إستيل فقد تزوجت - حسب قولها- رجلا عجوزا ثريا طمعا في ثروته لتعيل أسرتها ثم خانته مع رجل عشقته. وتضحك أنيز من حكايتهما ، وتتساءل كيف حكم عليهما بجهنم، إذا كان الأول بطلا والثانية قديسة؟ فلماذا لا يقولان الحقيقة؟ يقاوم جارسان لحظة ثم يوافق على الاعتراف. لقد كان قاسيا في معاملته لزوجته طوال خمس سنوات. فكان يأخذ عشيقته إلى منزله ، وهي امرأة زنجية، ويجبر زوجته على حمل الطعام لهما إلى السرير. تقول أنيز: سافل. فيسألها جارسان: وأنت؟ فتعترف بأنها أغرت امرأة بهجر زوجها لتعيش معها ثم جعلت المرأة تشعر بذنبها حتى أنها استعملت الغاز في قتل أنيز ونفسها. فتحكي إستيل روايتها: لقد دفعت عشيقها إلى الانتحار وذلك بالقضاء على طفلها منه.
    ويتطور الحوار بين الشخوص الثلاثة إلى أن يعترف جارسان بأنه أدين بسبب جبنه وليس لقسوته على زوجته. لقد حاول الفرار من الحرب ثم ألقي عليه القبض ومات ميتة الجبان وهذا ما يقلقه. فتقول أنيز:"إن الأفعال وحدها هي التي تكشف عما يريده الإنسان وأن شخصية الفرد إنما تتحدد بأفعاله واختياراته." ولا يستطيع جارسان الهروب من نظرات أنيز المليئة بالاحتقار وصوتها وهو يردد : جبان، جبان. وبذلك تكون المسرحية قد كشفت عن الرسالة الوجودية والتي تتلخص في فكرتين وهما: "الجحيم هو الآخرين" ، و"الإنسان يكون ما يفعل."
    وفي مسرحية "الأيادي القذرة" ومن خلال الشخصيتن المركزيتين هوجو وهودرر يخبرنا سارتر بأن الإنسان لا يستطيع أن يتأكد إطلاقا مما هو حق، وعليه أن يتحمل مسؤوليته وأن يكون فاعلا في سيرورة مجتمعه. فهذا هودرر يقول لهوجو، إن الإنسان الذي لا يريد أن يخاطر بكونه مخطئا يجب أن لا يشتغل بالسياسة. وعندما يعبر هوجو عن مثاليته وصفاء فكره وشيوعيته الخالصة ويده النقية، يرد عليه هودرر:"كم أنت خائف من تلويث يديك. حسنا فلتبق نقيا. النقاء هو مثال للزاهد الناسك. وأنتم أيها المثقفون ترون في هذا ذريعة لعدم القيام بأي شيء. لا تفعل شيئا ولتبق يداك نظيفتين. أما يداي فهما قذرتان. هل تستطيع أن تحكم وتظل روحك بيضاء؟".
   وبنفس الحماسة والمقدرة الفنية الإبداعية يعبر ألبير كامو عن فلسفته ونظرته للإنسان والعالم من خلال بعض النصوص المسرحية، وأهمها مسرحية "كاليغولا" فهو يوظف، في هذه المسرحية، الشخصية التاريخية والإمبراطور الروماني المتسلط والمجنون (37- 41 م.) للإفصاح عن آرائه الخاصة. يختفي كاليغولا بعد وفاة أخته ومحبوبته دروسيلا. الجميع يبحث عن الإمبراطور. وعندما يعود هذا الأخير يشرح لأحد مستشاريه - هيليكون- وللمقربين منه بأنه منشغل وحزين، ليس لموت أخته ولكن يحمل في صدره رغبة جامحة في بلوغ المستحيل. والعالم بالشكل الذي هو عليه لا يبدو له محتملا، لهذا فهو يسعى وراء امتلاك القمر وبلوغ السعادة والظفر بالخلود والسرمدية أو أي شيء لا ينتمي لهذا العالم الوضيع السخيف. ففي المسرحية نشاهد كيف أن الإنسان يحقق ذاته وكرامته ضدا على هذا العالم الذي لا يمنح له أي أمل لبلوغ ما يريد. إن موت أخته وعشيقته تفتح عيني كاليغولا على هذه الحقيقة: "الناس يموتون ولا يستطيعون أن يكونوا سعداء" وهكذا يتحول الإمبراطور من شخص رقيق الإحساس إلى وحش شديد القسوة، بل ينصب نفسه إلها، وبالتالي ليس هناك حدودا لممارسة حريته، وإنما يمارس حريته كاملة. غير أن هذه الحرية تدخل في صراع وتعارض مع حياته ومع العالم، ورغم أنه لن يستطيع بلوغ هدفه. وهذا هو التصور المركزي في فلسفة ألبير كامو والفكرة المحورية التي يحاول إبرازها من خلال مختلف كتاباته. يقول كامو:" إن العبث ينتج عن هذه المواجهة بين الإنسان والعالم، بين هذا النداء الإنساني وهذا الصمت اللامعقول للعالم.". فهناك قوتان متعارضتان، نداء الإنسان ومسعاه الحثيث والدؤوب لمعرفة معنى وجوده، وغياب الجواب أو الصمت الذي يلتزم به الوسط الذي ينتمي إليه. فالإنسان يعيش في عالم لا يفهم وجهته ومعناه ولا يعرف شيئا عن وجوده هو ولا المعنى من حياته. ويمكن للإنسان أمام هذا الوضع/العبث أن يعمل وأن يحدد أهدافه ويخلق مشاريعه. لهذا وجب أن نحيا العبث من خلال التمرد وبالتمرد. والتمرد يعني إدراك قدرنا المحتوم ومواجهته، ويدل أيضا على ذكاء الإنسان وهو بين مخالب صمت العالم الرهيب. والتمرد يعني أيضا تمكين الإنسان من توسيع دائرة الحركة والفعل الإنسانيين وتحرره من إكراهات الواقع ومن المستقبل الغامض.
     فهذا الإنسان/العبث يتمتع بحرية عميقة. إنه يسكن في عالم يحتم عليه أن يقبل ب " أن الكائن البشري يشتغل ويعمل دون أن يقدر على بلوغ هدفه." ولكنه عالم يسود فيه بل يمتلكه وتلك هي المفارقة الكبرى.
--------------------

(*) الأستاذ عباس جدة مدرس الفلسفة كاتب مسرحي ومخرج.. وقد خص المدونة بموضوعه..